الفصل الثاني

سباق الفضاء في الحرب الباردة

عندما أطلق الاتحاد السوفييتي «سبوتنيك» («المسافر الزميل» أو «القمر الصناعي») في ٤ أكتوبر ١٩٥٧، كانت لحظةً فارقة في تاريخ البشرية. فلأول مرةٍ في التاريخ، تصِل سرعة جهاز من صُنع البشر إلى ما يزيد عن ١٧ ألف ميل في الساعة ويُوضَع في مدار الأرض. وعلى الفور رحَّبَت الصحافة العالمية بقدوم «عصر الفضاء»، وسرعان ما أطلقَتْ على منافسة القوى العظمى المُقبلة «سباق الفضاء». نجَمَ عن هذه المنافسةِ الوصولُ إلى القمر في أقلَّ من اثنَي عشَر عامًا. ولكنَّ السباق في الحقيقة بدأ في صيف ١٩٥٥، عندما أعلن الجانبان أنهما سيُرسلان مَركباتٍ علمية في سياق مشروع السنة الجيوفيزيائية الدولية في ١٩٥٧-١٩٥٨.

الأقمار الصناعية الأولى

في الولايات المتحدة، يرجع أصل القمر الصناعي الخاص بمشروع السنة الجيوفيزيائية الدولية إلى اجتماعٍ عُقِد في يونيو ١٩٥٤ في مكتب أبحاث البحرية الأمريكية. وكان من بين الحضور خبيرُ الصواريخ فريدريك سي ديورانت الثالث، ضابط في الاحتياطي البحري للولايات المتحدة، وضابط سرِّي في وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) في وحدة الاستخبارات العلمية. وكان أيضًا رئيس الاتحاد الدولي للملاحة الفضائية (IAF)، الذي تشكَّل في ١٩٥١ لربط جمعيَّات الفضاء التي كانت لا تزال في معظمها أوروبية، في شبكةٍ جديدة تتجاوز الحدود القومية. ودعا ديورانت الألماني فيرنر فون براون لحضور اجتماع الأقمار الصناعية؛ إذ كانا قد صارا صديقَين منذ قرأ ديورانت الورقة العلمية الخاصَّة بالألماني في أحد مؤتمرات الاتحاد الدولي للملاحة الفضائية.

لأول مرةٍ في التاريخ، تصِل سرعة جهاز من صنع البشر إلى ما يَزيد عن ١٧ ألف ميل في الساعة ويُوضَع في مدار الأرض.

جاء فون براون باقتراح مركبة إطلاقٍ منخفضة التكلِفة: ثلاث مراحل من القذائف العنقودية الصغيرة المضادَّة للطائرات محمولة على صاروخ «ريدستون». كانت إمكانياتها محدودة؛ إذ لم تَضمَن الدراسات اللاحقة سوى قُدرتِها على وضع جسمٍ خامل يزِن ٥ أرطال في المدار. كانت حجَّة فون براون وشركائه أنها كانت طريقةً سريعة ورخيصة لهزيمة الاتحاد السوفييتي. أقنعَ ديورانت وكالة الاستخبارات المركزية بالتصديق على الاقتراح نظرًا إلى تأثير القمر الصناعي المُحتمَل على الرأي العالمي في الحرب الباردة. وأصبح السؤال المطروح هو كيف نتتبعه بصريًّا لاستخلاص معلوماتٍ علمية عن الغلاف الجوي الخارجي للأرض وحقْل جاذبيَّتِها، وهي معلومات غاية في الأهمية لتحسين دقَّة الصواريخ البعيدة المدى. في يناير ١٩٥٥، بدعمٍ مشترَك من الجيش والبحرية الأمريكية، لُقِّبَ هذا المشروع السِّري رسميًّا باسم «أوربيتر».1
بدأ العلماء والمهندسون وخبراء السياسة في بناء دعمٍ جماهيري لمشروع القمر الصناعي. أجرَتْ جمعية الصواريخ الأمريكية، التي أعادت تعريف نفسها كمنظَّمةٍ قومية للهندسة بعد الحرب العالمية الثانية، دراسةً عامة. وصنَع لويد بيركنر، وهو قائد أمريكي عِلمي مؤثِّر له صِلة وثيقة بإدارة الدفاع الأمريكية، قرارًا في المؤتمر الجيوفيزيائي العالمي في خريف ١٩٥٤ يُروِّج لإطلاق أقمارٍ صناعية لصالح مشروع السنة الجيوفيزيائية الدولية. واستهدفت هذه الحملة العلمية، التي كان من المُقرَّر أن تبدأ في ١ يوليو ١٩٥٧ وتستمرَّ حتى ٣١ ديسمبر ١٩٥٨، مع بلوغ نشاط الشمس ذروته، المناطقَ القطبية والغلاف الجوي والغلاف الأيوني للأرض. وكان من المُتوقَّع أن تُثمِر قياسات الأقمار الصناعية عن الكثير من البيانات الجديدة، إلا أنَّ بيركنر كانت لديه حوافزُ أخرى مهمَّة متعلقة بالحرب الباردة، ومنها مكانة الولايات المتحدة القومية، وربما أيضًا سابقة إطلاق قمرٍ صناعي لمراقبة البلدان الأخرى جوًّا.2
في أثناء العام نفسِه، عام ١٩٥٤، كانت إدارة أيزنهاور تُجري دراسةً سريةً للغاية حول احتمالية شنِّ الاتحاد السوفييتي هجومًا مفاجئًا بالصواريخ وقاذِفات القنابل النووية. وأقرَّت الدراسةُ عدَّة إجراءات، منها صُنع الصاروخ الباليستي المتوسط المدى باعتباره حلًّا مؤقتًا، وطائرة الاستطلاع ذات الارتفاع العالي كي تُحلِّق فوق الاتحاد السوفييتي بصورةٍ غير شرعية (سُمِّيَت بعد فترةٍ قصيرة «يو-٢») وأيضًا إطلاق قمرٍ صناعي ليكون بمثابة سابقةٍ للاستطلاع من الفضاء، وحلٍّ نهائي لمشاكل الاستخبارات. رأى خبراء القانون الدولي الأمريكان أنَّ السيطرة القومية على الجو تنتهي عند الغلاف الجوي المُدرَك؛ ومن ثَم فإن أي جسمٍ يُوضَع في المدار يستطيع العمل بِحُرية. في ربيع ١٩٥٥، كان هذا الرأي أحدَ الأسباب الرئيسية التي جعلت الرئيس دوايت أيزنهاور يُقرِّر المُصادقة على مشروع القمر الصناعي للسنة الجيوفيزيائية الدولية الذي يحمل أجندةً سياسية خفية.3
في الاتحاد السوفييتي، تَتبَّع سيرجي كوروليف وشركاؤه، خصوصًا مهندس الطيران ميخائيل تيخونرافوف، أدبيات رحلات الفضاء الأمريكية والأوروبية وكافحوا من أجل إشعال روح الحماسة في وطنهم. وفي الفترة ما بين ١٩٥٣ و١٩٥٥، قاد تيخونرافوف فريقًا صغيرًا في معهدِه لكتابة تقريرٍ طويل حول إمكانيَّات الأقمار الصناعية، بالتوازي مع دراساتٍ مُشابِهة قامت بها مؤسَّسة راند الأمريكية بتمويلٍ من القوَّات الجوية. وذكر التقرير تطبيقاتٍ عسكرية، لأسبابٍ يرجع جزءٌ منها إلى أنَّ ذلك كان سيروق لصانعي القرار السوفييت. ولكنَّ الاستطلاع، على الرغم من أهميته، لم يكن جوهريًّا للشأن السوفييتي لأنَّ الأسهل بالنسبة إلى السوفييت في ذلك الوقت كان التجسُّسَ على الولايات المُتحدة المفتوحة نسبيًّا. في أواخر عام ١٩٥٤، استطاع كوروليف وتيخونرافوف، وغيرهما من المُتحمِّسين للفضاء إقناعَ أكاديمية العلوم المُعتبَرة بتشكيل لجنةٍ لرحلات الفضاء. وعندما أعلنت إحدى الصُّحف في موسكو تشكيل هذه اللجنة في أبريل ١٩٥٥، حدَث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ استغلَّ الإعلام الغربي المقال، واعتبره دليلًا على أنَّ ثَمة سباقَ فضاءٍ يَلوح في الأفق، مما عزَّز قرار إدارة أيزنهاور بتنفيذ مشروع قمرٍ صناعي، ولكن على ألا يتعارَض مع تطوير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.4
في الوقت نفسه، اكتسب «أوربيتر» زخمًا عندما درس أعضاء الفريق سبُل تحسين قدراته على الحمْل والتتبُّع. ولكنه فقد تتويجه الذي بدا حتميًّا باعتباره المشروعَ الأمريكي الرسمي في صيف ١٩٥٥؛ إذ قدَّم ميلتون روزن، كبير مهندسي صاروخ التجارِب «فايكينج» في معمل أبحاث البحرية الأمريكية، اقتراح مَركبةٍ جديدة ثلاثية المراحل تستنِد إلى تطوير «فايكينج». ومن ثَمَّ سارعت البحرية إلى إنهاء دعمها «لأوربيتر». وأنشأت إدارة الدفاع الأمريكية قائمةَ اختيار للاختيار من بين هذَين الخيارَين واقتراح آخَر قدمته القوات الجوية يستند إلى مشروع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات «أطلس». وكان الأخير باهظَ التكاليف، وسيستغرِق وقتًا أطول، ويفتقِد إلى الدعم العالي المستوى في خدمته. وقد ظنَّ الجنرال برنارد شريفر أنه سيُشتِّته عن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات وبرامج الأقمار الصناعية الاستطلاعية. في بداية أغسطس ١٩٥٥، اختارت اللجنة على نحوٍ مفاجئ اقتراحَ معمل أبحاث البحرية الأمريكية؛ إذ صوَّت لصالحه خمسةٌ في مقابل اثنَين. أتاحت مركبة فضاء «فانجارد» حمولة ٢٠ رطلًا على الأقل، كما يُوجَد على متنِها جهاز إرسالٍ لاسلكي، الأمر الذي يُثمِر عن عوائدَ علميةٍ أكبر بكثير. ربما كان ثمَّة سببٌ آخَر ثانوي وهو أنَّ المركبة كانت تبدو أكثر «مَدَنية» لأنها لم تُستخدَم صاروخًا عسكريًّا كمرحلة. أحد أعضاء اللجنة أيضًا كان يعتقِد أن الأصل الألماني لصاروخ فون براون كان من مساوئه؛ ربما كان لا يزال يُكِنُّ عداوةً تجاه فون براون المهندس النازي سابقًا. ولكن هذه الأسباب الثانوية لم تكُن حاسِمة، كما لم تلعَبْ مسألة المراقبة الجوية من الفضاء دورًا؛ في الواقع يبدو أنها كانت سرِّية للغاية لدرجة أنَّ معظم أعضاء اللجنة لم يكونوا على عِلمٍ بها. ذُهِل الجيش وفون براون بحلول صاروخٍ يحتاج إلى الكثير من التطوير محلَّ صاروخٍ يَستند إلى أجهزةٍ متاحة بالفعل. وحاول الجيش محاولةً أخيرة أن يقترح حلًّا وسطًا، بأن يُطلِق القمر الصناعي الخاص بالبحرية الأمريكية، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل. وبعد أن ذاعت حكاية قرار «فانجارد» بعد عامَين، بعد «سبوتنيك»، أثارت الكثير من الاتهامات المُتبادَلة في الولايات المتحدة.5
قبل وصول اللجنة لقرارها المبدئي بأيام، كان البيت الأبيض قد أعلن عن القمر الصناعي الخاص بمشروع السنة الجيوفيزيائية الدولية في ٢٩ يوليو ١٩٥٥، مُتصدرًا عناوين الصحف العالمية. وكان الاتحاد الدولي للملاحة الفضائية يعقد اجتماعه السنوي في كوبنهاجن الدنمارك، وهو الاجتماع الأول الذي يحضُره مُمثِّلو الاتحاد السوفييتي. في ٢ أغسطس، أخبر ليونيد سيدوف، الرئيس الاسمي للجنة رحلات الفضاء، الصحافة بأنَّ الاتحاد السوفييتي سوف يُطلِق أقمارًا صناعية أيضًا. ويبدو أنَّ هذه العبارة كانت تفتقِر إلى الدعم السياسي العالي المستوى، ولكنها ربما كانت بتوجيهٍ من كوروليف وغيره في موسكو، الذين كانوا يعملون في سريَّة فرَضَتها الدولة. في ١٩٥٥-١٩٥٦، أنتجوا قمرًا صناعيًّا جيوفيزيائيًّا كبيرًا جدًّا باسم «سبوتنيك ٣»، وحصلوا على الموافقة عليه، وكان القمر يزِن نصف طنٍّ وكان من المُقرَّر إطلاقُه أخيرًا في عام ١٩٥٨، بفضل قوة الحمل الهائلة للصاروخ «آر-٧». ولكن في أواخر عام ١٩٥٦، ساور كوروليف القلق مِن أنَّ السوفييت سيأتون في المرتبة الثانية بعد الولايات المُتَّحدة في سباق الفضاء، بسبب القمر الصناعي الأول. وأبقى فون براون وقادته في الجيش على مشروعهم، في ترسانة «ريدستون»، مُقتنِعين بأنَّ «فانجارد» ستفشَل لا محالة. بمساعدة قرار أيزنهاور بالموافقة على صاروخ «جوبيتر» متوسِّط المدى، وضعوا خطةً لاستخدام نسخةٍ مُعدَّلة من مركبة الإطلاق «أوربيتر» لاختبار تقنيات الدرع الحراري لكي تحتمِل القذائف النووية إعادة الدخول. وسُمِّيَت هذه النسخة «جوبيتر-سي» للدلالة على أولويات ذلك البرنامج، على الرغم مِن أنَّ المرحلة الأولى كانت «ريدستون». وفي سبتمبر ١٩٥٦ أُجري اختبار نتَج عنه رقمٌ قياسيٌّ عالمي؛ إذ وصلَتِ القذيفة إلى مسافة ٣٣٥٥ ميلًا. وكان كوروليف، نظرًا للشائعات التي رُوِّجَت في الصحافة الغربية، مقتنعًا بأنَّ فون براون قد أخفق في محاولة إطلاق قمرٍ صناعي. فوضعتْ جماعته خطةً لإطلاق جسمٍ أبسط يحمِل جهاز إرسالٍ لاسلكي، وهو ما أُطلِق عليه لاحقًا «سبوتنيك ١». كان من المُمكن إطلاقُه بمجرَّد نجاح اختبارات صاروخ «آر-٧» الباليستي العابر للقارات الأول.6

تمامًا كما توقَّع فون براون (الذي كان في ذلك الوقت مواطنًا أمريكيًّا)، تأخَّر «فانجارد» عن خُطته الزمنية تأخُّرًا ملحوظًا، كما زادت تكلِفته زيادةً ملحوظة أيضًا، رغم أنَّ روزن وزملاءه استطاعوا في النهاية السيطرةَ على مُشكلات التطوير. وحاول الجيش مرَّتَين إقناع أيزنهاور بالموافقة على «جوبيتر-سي» كخُطةٍ بديلة ﻟ «فانجارد»، لضمان احتلال الولايات المتحدة للمركز الأول في السباق، ولكن الرئيس لم يُوافِق على ذلك ولم يُلقِ له بالًا. فقد كان ذلك سيُكلِّف مزيدًا من الأموال في الوقت الذي كانت فيه ميزانية «فانجارد» قد ارتفعت بالفعل ارتفاعًا كبيرًا، كما أنه كان سيُغيِّر سياسة الولايات المتحدة التي اعتَبرت «فانجارد» هو المشروع العلمي الرسمي للسنة الجيوفيزيائية الدولية. هذه القرارات، مثلها مثل القرار الأصلي باختيار «فانجارد» (التي لم يكن لأيزنهاور دورٌ في اتخاذها، بخلاف أنه لم يمنع اتِّخاذها في المقام الأول) كانت جوهرية في عواقبها: كان تاريخ سباق الفضاء سيختلف اختلافًا جذريًّا إذا كانت الولايات المتحدة قد احتلَّت المكانة الأولى. فلم تكن ستحتاج إلى أن تَزيد من سُرعتها لِلَّحاق بالسوفييت. ومرة أخرى، سرَّعت الأحداث إمكانية السفر عبر الفضاء إلى أقصى حدٍّ مُمكن.

تنظيم برامج الفضاء

غالبًا ما يكون تأثير القمر الصناعي «سبوتنيك» على الرأي العام الأمريكي مُبالغًا فيه؛ فقد استخدم مُؤرِّخون مشهورون كلماتٍ مثل «ذعر»، و«هستيريا»، و«خوف» لوصف تأثيره. أما الدراسات الحديثة، فهي لا تُؤيِّد ذلك. ترك هذا الإنجاز انطباعًا لدى كثيرٍ من الأمريكان، لكن كثيرين أيضًا لم يُلْقوا له بالًا على الإطلاق. إلَّا أنَّ الصحافة والسياسيِّين سرعان ما هاجموا إدارة أيزنهاور لإعطائها السوفييت هذا الانتصارَ الرمزي.7 وصار الإعلام يتشدَّق بأن الرئيس عجوز طيب يُفضِّل لعب الجولف على الحُكم. وآثَر الرئيس الإبقاء على تدخُّله العميق في اتخاذ قرارات الحرب الباردة سرًّا، وذلك جزئيًّا لكي يَحمي أجندته السرية، مثل استراتيجية المراقبة الجوية وكذلك مَهام الاستطلاع الخطيرة بطائرات «يو-٢». هذه الرحلات الجوية، رغم كونها محدودة، أوضحت أنه بخلاف ما كان شائعًا عن وجود «فجوة قاذفات» ثم بعدَها «فجوة صواريخ»، كان العكس صحيحًا؛ فقد كانت الولايات المتحدة مُتقدمةً عن الاتحاد السوفييتي في كل فئات الأسلحة النووية. ولكنَّ جَهْلَ ناقديه بهذه المعلومات أتاح لهم الفرصة لنقْد إحجامه عن تشجيع التقدُّم في سباق التسلُّح والفضاء. ومع ذلك، كانت أجندات النقَّاد كثيرًا ما تتعارَض مع أجندته. كان الجيش والقوات الجوية مُنافِسيَن لَدُودَين في تطوير الصواريخ الباليستية، وانتقلت هذه المنافسة فورًا إلى سباق الفضاء. وطالب كلاهما بأحقِّيتهما في إدارة البرنامج في المستقبل، في حين طالبتِ البحرية بأحقيَّتِها في الحصول على جزءٍ من الكعكة.

غالبًا ما يكون تأثير القمر الصناعي «سبوتنيك» على الرأي العام الأمريكي مُبالغًا فيه؛ فقد استخدم مؤرِّخون مشهورون كلماتٍ مثل «ذعر»، و«هستيريا»، و«خوف» لوصف تأثيره.

أثار ردُّ فعل الصحافة العالمية مفاجأة القادة السوفييت كذلك. احتوت الجريدة الرسمية مقالةً صغيرة في اليوم التالي للإطلاق، ولكن في السادس من أكتوبر كانت ثمَّة عناوينُ ضخمة بينما تنهمر التهاني الدولية. وأراد رئيس الحزب الشيوعي نيكيتا خوروشوف، الذي اعتلى سُدَّةَ الحُكم بعد وفاة ستالين في ١٩٥٣، تحقيقَ إنجازٍ مشهود آخَر في الفضاء للذِّكرى الأربعين للثورة البلشفية في مُستهلِّ نوفمبر. أرسل فريق كوروليف كلبًا إلى الفضاء، في مقصورةٍ مجهَّزة من أجل رحلات الفضاء دون المَدارية. وفي الثالث من نوفمبر، انطلق القمر الصناعي «سبوتنيك ٢» وعلى متنِه الكلبة لايكا، كلبة ضالَّة التُقِطَت من شوارع موسكو. وللأسف ذُعِرَت الكلبة المسكينة وماتت من جرَّاء الحرارة الشديدة، ولكنَّ السوفييت كذَبوا بشأنها لمدَّة أسبوع قبل أن يدَّعوا قتلَها قتلًا رحيمًا. مرة أخرى، أثار حجم القمر الصناعي الضخم، ١١٢١ رطلًا، وهو ما يبلُغ أضعاف وزن «سبوتنيك ١» البالغ ١٨٤ رطلًا، إعجاب الجميع، كما أعطى للسوفييت الحق في ادِّعاء تحقيق أول اختبارٍ ناجح للصواريخ الباليستية العابرة للقارات في أواخر أغسطس.8

كان الجيش والقوات الجوية مُنافِسَين لَدُودَين في تطوير الصواريخ الباليستية، وانتقلت هذه المنافسة فورًا إلى سباق الفضاء.

فاقمَ النجاحُ الثاني للاتحاد السوفييتي ما أطلق عليه المؤرِّخ والتر ماكدوجال «الشغَب الإعلامي» في أمريكا حول الإحراج الملحوظ الذي تتعرَّض له أمريكا. ورُويدًا رويدًا تحوَّل الرأي العام الأمريكي إلى الغضب والقلق ونقْد الإدارة الأمريكية. وزاد التهديد السوفييتي باستخدام الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، رغم أنه كان على بُعد سنواتٍ من التنفيذ، شعور الأمريكان بالضَّعف. وكان خروتشوف سعيدًا بتغذية هذا الخوف بالتفاخُر بالصواريخ السوفييتية وبقُدرات السوفييت الفضائية. ما زاد الطين بِلَّة، في السادس من ديسمبر، سقوط صاروخ «فانجارد» يحمِل قمرًا صناعيًّا مصغَّرًا على منصَّة الإطلاق، مُحدِثًا انفجارًا مدوِّيًا على التليفزيون الوطني. عند هذه اللحظة، نجح الجيش في الحصول على موافقةٍ على مشروعه الثاني المستند إلى «جوبيتر-سي». جاء صاروخ ريدستون وتوجيه المشروع من فريق فون براون في هانتسفيل، في حين أدار مراحل الوقود الصلب العُليا والقمر الصناعي مُختبَر الدفع النفَّاث في كاليفورنيا. في ٣١ يناير ١٩٥٨، أصبح للولايات المتحدة أخيرًا قمرٌ صناعيٌّ في المدار؛ وسمَّاه الجيش «إكسبلورر ١»، وتبِعَه «فانجارد» في أول نجاح مداري له بعد ستة أسابيع.9
في الوقت الذي تناحرت فيه قوات الجيش على برنامج الفضاء، أقرَّ كلٌّ من الرئيس الجمهوري وقائد الأغلبية في مجلس الشيوخ الديمقراطي ليندون جونسون، الحاجة إلى هيئة مَدنية للقيام ببعثاتٍ علمية وسِلمية. وكانت المرشَّحة الأولى لهذا العمل هي اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الجويَّة (التي تُعرَف اختصارًا ﺑ NACA) وهي عبارة عن منظمة حكومية للأبحاث تأسَّست في عام ١٩١٥، وتقع أكبر مراكزها في فيرجينيا وأوهايو وكاليفورنيا. وفي نهاية يوليو، وقَّع الرئيس على مُذكِّرة إنشاء الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (التي تُعرَف اختصارًا ﺑ NASA أو ناسا) من رحم NACA، بالإضافة إلى جماعة «فانجارد» في معمل أبحاث البحرية الأمريكية وبعض مشروعات الفضاء الخاصة بالجيش والقوات الجوية. رحَّب مُختبر الدفع النفَّاث، الخاضع للتوجيه الأكاديمي، الذي كانت تُديره كالتيك، بأن يتخلَّى عن الجيش لصالح وكالة ناسا بمجرد أن بدأت الوكالة ممارسة نشاطها في ١ أكتوبر ١٩٥٨. لكن فون براون وقائده في هانتسفيل قاوموا محاولة نقْل نصف فريقه الذي انحلَّ، مخافةَ عواقب حدوث انفصال في مشروع صاروخ «جوبيتر» وغيره من المشروعات. وأخيرًا أصدر أيزنهاور أمرًا بالنقل بعد سنة، عندما أمكن استيعاب كلِّ أعضاء فريق فون براون.10
كان إنشاء هيئةٍ مَدنية هو الحل الأمريكي أثناء الحرب الباردة للتحدِّيات التنظيمية، وأيضًا السياسية، في السباق السريع الاحتدام. أبرزت الأقمار الصناعية السوفييتية «سبوتنيك» قِيمة إنجازات الفضاء في تحقيق المكانة والتدليل على القوة العلمية والتكنولوجية. وقد كان انفصال الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، وخاصة بريطانيا وفرنسا في أفريقيا وآسيا، سياقًا مُهمًّا. كان ثمَّة دول جديدة تتشكَّل كل عام، والحركات الثورية القومية غالبًا ما تنظُر إلى الاتحاد السوفييتي والصِّين باعتبارهما نموذَجَين للتطوُّر. كانت إنجازات الفضاء السوفييتية بمثابة إعلانٍ مُدوٍّ للتفوُّق المزعوم للاشتراكية على الرأسمالية. وكانت الدعاية الشيوعية تنتقِد أمريكا والغرب بلا هوادةٍ على العسكرية والإمبريالية. ولذا فإنَّ إنشاء هيئة فضاء مَدنية وعِلمية، تنطوي شروط تأسيسها على التعاون الدولي، سوف تُصدِّر صورةً أمريكية إيجابية للحُلفاء في أوروبا الغربية وغيرها. كما أنَّ إنشاء ناسا جعل الولايات المتحدة تبتكِر فئة نشاط الفضاء المدني، في الوقت الذي كانت فيه القوات المسلَّحة هي الوحيدة، حتى ذلك الوقتِ، التي تملك التكنولوجيا القادرةَ على القيام برحلات الفضاء.11

أقرَّ كلٌّ من الرئيس الجمهوري وقائد الأغلبية في مجلس الشيوخ الديمقراطي ليندون جونسون، الحاجة إلى هيئةٍ مَدنية للقيام ببعثاتٍ علمية وسِلمية.

ضلَّل إنشاءُ وكالة ناسا الكثيرَ لِيَظنُّوا أنها تُدير «برنامج» الفضاء الأمريكي. في السنوات الأربع الأولى بعد «سبوتنيك»، وضعَتِ الحكومة الأمريكية فعليًّا ثلاثة برامج فضاء. كان الأولُ الجهدَ المدنيَّ الذي تُوجِّهه وكالة ناسا. أما الثاني فهو البَرنامج العسكري الذي تُسيطِر عليه القوات الجوية الأمريكية، بعد أنْ فقد الجيش والبحرية مُعظم خبراء الفضاء التابعِين لهم لصالح ناسا. وظهرت نظُم الاستطلاع والاتصالات والملاحة الجوية وغيرها من نُظم الأقمار الصناعية العسكرية في هذه الفترة، وواصلت القوات الجوية الأمريكية حُلمها بإرسال مَركباتٍ فضائية تحمِل طيارًا، حتى بعد أن سُلِّمَت ناسا مهمَّة إرسال إنسانٍ للمدار. أما برنامج الفضاء الأمريكي الثالث فكان برنامج الاستخبارات، وكان مُرتبطًا ارتباطًا وثيقًا مع البرنامج العسكري، ولكنه كان منفصلًا عنه تنظيميًّا. وبدأ البرنامج بمشروعٍ سري للغاية لقمرٍ صناعي استطلاعي للتصوير من الفضاء وإعادة الفيلم إلى الأرض وأُطلِق عليه «كورونا»، وقد فصلَه أيزنهاور في بداية ١٩٥٨. وعلى غرار البرنامج المُوازي له، «يو-٢»، كان من المُفترَض أن يَجري توجيه هذا القمر الصناعي بالتعاون بين القوات الجوية ووكالة الاستخبارات المركزية. وأسهمَت البحرية بعد ذلك بالأقمار الصناعية الأولى لاستخبارات الإشارات. في ١٩٦١، أُضفِيَت الصفة الرسمية على هذا البرنامج وسُمِّي مكتب الاستطلاع الوطني (الذي عُرِف اختصارًا باسم NRO)، وظلَّ هذا الاسم نفسُه سريًّا حتى ١٩٩٢. وكان يُصنِّع ويُشغِّل أقمارًا صناعية للتجسُّس، بالتعاون الوثيق مع القوات الجوية، ولكنه كان يُسلِّم ما يصِل إليه من نتائج إلى الوكالات الاستخباراتية. عَمِلت وكالة ناسا أيضًا عن قُربٍ مع وكالة الاستخبارات المركزية ومع القوات العسكرية، لا سيما فيما يختصُّ بالاستخبارات حول برنامج الفضاء السوفييتي، وتكنولوجيا أجهزة الاستشعار ومركبات الإطلاق، ولكنها أخفَت جزءًا كبيرًا من هذا التعاون وراء جدار التصنيف لتحمي صورتَها كوكالةٍ سلمية.12

كانت إنجازات الفضاء السوفييتية بمثابة إعلانٍ مدوٍّ للتفوُّق المزعوم للاشتراكية على الرأسمالية.

لم يشعر السوفييت أبدًا بحاجتهم إلى إنشاء وكالةٍ مَدنية، حتى وإن كانت واجهة. وكان برنامجهم عسكريًّا خالصًا، ولكنه مُحاطٌ بأعلى درجات التكتُّم والسرية. فصَل خروتشوف فِرَق الصواريخ الباليستية عن الجيش، وأنشأ سلاحًا مُنفصلًا، أسماه قوات الصواريخ الاستراتيجية، لتنفيذ كافة عمليات الإطلاق للفضاء. وابتكرَتِ التكنولوجيا مصانعَ ومؤسَّساتٍ ومكاتبَ تصميماتٍ عسكريةَ التوجيه، مثل مكتب التصميمات «أوه كي بي-١» الخاص بكوروليف. واختارت القوات الجوية أولَ دفعةٍ من روَّاد الفضاء ودرَّبتْهم في ١٩٦٠. وبالنسبة إلى العالَم الخارجي، كانت أكاديمية العلوم السوفييتية هي صاحبة البرنامج؛ ولكن في الحقيقة لم تتدخَّل الأكاديمية إلا في التجارِب العلمية، على الرغم من أنَّ قيادة الأكاديميين كان يمكن أن تَحظى بمكانةٍ مرموقة في سياسات السوفييت الداخلية.

كان سباق الفضاء في البداية يُقاطِعه بين الحين والآخر إنجازاتٌ سوفييتية مُذهِلة تُلقي الظلَّ على أفضلية أمريكا في قطاعاتٍ أخرى. ففي ١٩٥٩، حلَّق القمر الصناعي السوفييتي «لونا ١» بالقُرب من القمر، وأصبح أولَ آلةٍ من صُنع البشر تَهرب من تأثير الأرض، وهبط «لونا ٢» على سطح القمر، والتقط «لونا ٣» صورًا أوَّلية للجانب الذي لم يُرَ مطلقًا من الكوكَب الأُم. وكان أقصى ما استطاعت الولايات المتحدة عملَه في ذلك الحين هو التحليق على مسافةٍ أبعدَ بكثير. في ١٢ أبريل ١٩٦١، أصبح يوري جاجارين أول إنسان يصعَد إلى الفضاء، ويتمكَّن من الدوران حول الأرض دورةً واحدة على متن مركبة الفضاء «فوستوك ١»؛ وبعد أربعة أشهُر، قام جيرمان تيتوف بالدوران حول الأرض لمدة يومٍ كامل. أما برنامج «ميركوري» الأمريكي فعانى من البطء؛ إذ قام آلان شيبارد وفيرجيل جس جريسوم برحلتَين دون مَداريَّتَين قصيرتَين في الفترة ما بين الرحلتَين السوفييتيتَين. لم تنجح مَساعي الولايات المتحدة في مُضاهاة إنجاز جاجارين إلا عندما دار جون جلين حول الأرض في فبراير ١٩٦٢. وفي يونيو ١٩٦٣، أرسل الاتحاد السوفييتي أول امرأةٍ إلى الفضاء لتدور حول الأرض، وهي رائدة الفضاء فالنتينا تيريشكوفا، في الوقت الذي قاومت فيه وكالة ناسا محاولات إرسال رائدات فضاء.13 مع ذلك، ما لم يكن ظاهرًا للعيان هو أنَّ الولايات المتحدة كانت مُتقدمة بعامَين في مجال الأقمار الصناعية الاستطلاعية؛ إذ حقَّقَت إنجازاتها الأولى بحمولات استخبارات إشارات البحرية والأقمار الصناعية الاستطلاعية «كورونا» المُعَدَّة للتصوير الفوتوغرافي في ربيع وصيف ١٩٦٠. كما كانت الولايات المتحدة متقدِّمة أيضًا علميًّا، من حيث عملياتُ الإطلاق الأكثر عددًا والحمولات الأكثر فاعلية. ولكن كان من الصعب أن يُدرِك المرء ذلك من ردود أفعال الصحافة بعد كلِّ انتصارٍ سوفييتي.

في يونيو ١٩٦٣، أرسل الاتحاد السوفييتي أول امرأةٍ إلى الفضاء لتدور حول الأرض، وهي رائدة الفضاء فالنتينا تيريشكوفا، في الوقت الذي قاومت فيه وكالة ناسا محاولات إرسال رائدات فضاء من النساء.

قاوم الرئيس أيزنهاور زيادةَ الدَّين الوطني وحجَّم الحكومة، إلا أنه لم يستطِع أن يقِف أمام نموِّ برامج الصواريخ والفضاء، بسبب الضغط الشعبي والسياسي من أجل مواكبة السوفييت في سباقَيِ الأسلحة والفضاء. تنحَّى الجنرال السابق برُتبة خمسة نجوم عن منصبِه مُندِّدًا ﺑ «المجمع الصناعي العسكري» وبنُخبة الخبراء الذين حاوَلوا ترويج مشروعاتٍ باهظة التكاليف، كما فعل فون براون. وعلى النقيض، تولَّى جون إف كينيدي الرئاسة في يناير ١٩٦١، جُزئيًّا بفضل التشدُّق المتواصِل ﺑ «فجوة الصواريخ» والقصور الأمريكي في مجال الفضاء.

سباق القمر

وقعت أزمتان في أبريل تمخَّضتا عن لَيِّ ذراع كينيدي: رحلة جاجارين والفشل الذريع للغزو الكوبيِّ الذي تمَّ على يدِ جماعة من الكوبيِّين المَنفيِّين بدعمٍ من وكالة الاستخبارات المركزية بعدَها بخمسة أيام. فطالب كينيدي نائبه ليندون جونسون بأن يجِد جانبًا من جوانب سباق الفضاء «نستطيع الفوز فيه». وكانت إجابة وكالة ناسا بالفعل: «إرسال إنسانٍ ليهبط على سطح القمر وإعادته سالمًا إلى الأرض»، وفقًا لِما قاله كينيدي في خطابه يوم ٢٥ مايو أمام الكونجرس. وخمَّن جيمس ويب، مدير ناسا الجديد، أنَّ أيَّ شيءٍ أقل من رحلة فضاء ذهاب وعودة يهبط بها إنسان على سطح القمر، لن يضمَن حصول الولايات المتحدة على فرصةٍ للفوز على الاتحاد السوفييتي. وسيكون الصاروخ المطلوب كبيرًا جدًّا بحيث يتفوَّق فعليًّا على أفضلية السوفييت في قوَّة الحَمل. عندما نجحَت رحلة شيبارد في ٥ مايو، أضافت زخمًا جديدًا للقرار. كانت الميزانية المُقدَّرة ٢٠ إلى ٤٠ مليار دولار، وهو ما كان مبلغًا هائلًا بمعايير ذلك الوقت. وكان الجدول الزمني أيضًا مذهلًا: «قبل مُضيِّ هذا العقد» وفقًا لِما قاله كينيدي، وهو ما يعني ١٩٦٩ أو ربما ١٩٧٠. إلا أنَّ الكونجرس وافق بشدَّة لدرجة أنه صادقَ على زيادة ميزانية وكالة ناسا زيادةً ضخمة. مرة أخرى، اجتمعت المنافسة الدولية وحوادث التاريخ لتعجيل الجدول الزمني، فوَطِئت أقدام البشر على سطح القمر بعد ثماني سنواتٍ فحسْب من رحلتَي جاجارين وشيبارد القصيرتَين.14
fig3
شكل ٢-١: يوري جاجارين، أول إنسانٍ في الفضاء، يُحيِّيه الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف في الميدان الأحمر في موسكو بعد رحلته التاريخية ذات المدار الواحد في ١٢ أبريل ١٩٦١. أضافت سلسلة من الإنجازات السوفييتية الرائدة زخمًا لسباق الفضاء الأمريكي السوفيتي المُبكِّر وحفَّزت الرئيس كينيدي ليقترِح إرسال رُوَّاد فضاء إلى القمر بحلول نهاية الستينيَّات (المصدر: مُتحف سميثسونيان الوطني للطيران والفضاء).

غيَّر هدف الوصول إلى القمر وكالة ناسا تغييرًا جذريًّا؛ فبحلول عام ١٩٦٦، تضاعفت نفقات الوكالة خمس مرَّاتٍ حتى وصلتْ إلى ٥ مليارات دولار؛ إذ موَّلت ازدهار صناعة الفضاء الجوي، لا سيما في كاليفورنيا، ودفعت مُقابل بناء مرافق جديدة ضخمة عبر جنوب الولايات المتحدة. ومنها مركز مركبات الفضاء المأهولة (الذي سُمِّي لاحقًا مركز جونسون للفضاء) في هيوستن بتكساس، بالإضافة إلى توسُّعٍ ضخم في مركز مارشال لبعثات الفضاء الذي كان يُديره فون براون في ألاباما، والمراكز التي انبثقَتْ منه لاحقًا، مثل مركز فلوريدا للإطلاق الذي حمل اسم كينيدي تمجيدًا له بعد اغتياله عام ١٩٦٣، ومرفق اختبار الصواريخ في ميسيسيبي (يُطلَق عليه حاليًّا ستينيس). وأصبحت رحلات الفضاء المأهولة هي مهمةَ وكالة ناسا الأساسية. وعندما آل ازدهارُ مشروع «أبولُّو» إلى نهايةٍ مفاجئة في أواخِر الستينيَّات وأوائل السبعينيَّات من القرن العشرين، كان اعتماد الميزانية والبِنية التحتية عليه سيَصير مشكلة.

لكن بدا أنَّ هذا سيكون في المستقبل البعيد. في ١٩٦١-١٩٦٢، اختارت الوكالة مركبة إطلاق، «ساتورن ٥»، وطريقة هبوط، مُلتقى القمر المداري، وكان هذا يعني أنها تحتاج إلى تطوير مركبة هبوط مُخصَّصة على سطح القمر ﻟ «أبولُّو»، بالإضافة إلى مركبة الفضاء الأساسية. كما قرَّر مركز هيوستن، برئاسة روبرت جيلروث، رئيس برنامج «ميركوري»، أنه بحاجة إلى جِسْر يوصِّله من مركبة الفضاء الأولى المأهولة بالبشر التي صنعها إلى «أبولُّو»: فصنع مركبة الفضاء «جميني» ضِمن برنامج «ميركوري» وكانت تَسَع طاقمًا مكوَّنًا من شخصَين. وكان الهدف الأساسي من هذه المركبة هو التعرُّف بدرجةٍ أكبر على مُلتقى القمر المداري وطريقة إرساء المركبة والسير في الفضاء والتأثير الصحي لرحلات الفضاء عندما تستمرُّ أربعة عشر يومًا وجميع المعلومات اللازمة للقيام برحلةٍ ناجحة إلى سطح القمر. ونفَّذَت وكالة ناسا، رغم مواجهتها القليلَ من الأزمات والمشاكل، عشر بعثاتٍ مأهولة على متْن المركبة «جميني» في غضون عشرين شهرًا في ١٩٦٥-١٩٦٦، مُحقِّقة أهدافها كافة. كانت تلك هي الفترة التي لحِقَت فيها الولايات المتحدة برَكْبِ الاتحاد السوفييتي في سباق القمر، بل سبقَتْها فيه.15
لم يتَّضح هذا التفوُّق للعيان على الفور؛ لأنَّ فريق كوروليف حاز قصَب السبق مراتٍ قليلة أخرى. في أكتوبر ١٩٦٤، أرسل السوفييت ثلاثة رواد فضاء في «فوسخود ١»، وفي مارس ١٩٦٥، أرسلوا رائِدَي فضاء في «فوسخود ٢». وكان أحدُ رائدَي الفضاء في الرحلة الأخيرة، أليكسي ليونوف، هو أول شخصٍ يسير في الفضاء. ونجح السوفييت في إخفاء مدى خطورة هاتَين الرحلتَين عن العالَم بأسره. لكي يحافظ كوروليف على مركز الصدارة لصالح خروتشوف، عدَّل مركبة الفضاء «فوستوك» بإزالة مقعد القذْف ليستطيع تكديس المزيد من روَّاد الفضاء في المركبة. وعليه، إذا حدَث أي عطب في المعزِّز، فلن يتمكن روَّاد الفضاء من النجاة. واجه ليونوف أزمةً خطيرة أثناء سيرِه في الفضاء عندما انتفخت بذلتُه أكثر مما ينبغي فأصبح من الصَّعب عليه الرجوعُ إلى غرفة مُعادلة الضغط القابلة للنَّفخ على متن المركبة «فوسخود ٢». كما عانت المركبة الفضائية من مشاكل في السيطرة عليها، ومن ثَمَّ هبطت بعيدًا جدًّا عن مسارها. في الواقع، أَجبر ليونيد بريجنيف وأليكسي كوزيجين، وغيرهما من قادة الحزب، خروتشوف على تقديم استقالته بعد يومٍ أو يومَين من «فوسخود ١». كان سَير ليونوف في الفضاء في مارس ١٩٦٥ آخِر عملٍ مُثير من الطراز القديم. تلا ذلك فجوةٌ مُحيِّرة، لم يُرسَل فيها أيُّ رائد فضاء لمدَّة سنتَين. وكافح مكتب تصميمات كوروليف في الخلفية لتصميم مركبة فضاء جديدة مُتقنة الصُّنع باسم «سويوز» (أو الاتحاد) وملحقاتها على سطح القمر.16

رغم تصدُّر السوفييت سباق الفضاء بإطلاق بعثتَين بالروبوتات إلى سطح القمر في ١٩٦٦، كان منتصف الستينيَّات من القرن العشرين هو الفترة التي بدأ فيها برنامج الفضاء السوفييتي في الانهيار. كانت أسباب الانهيار متعدِّدة. في فترة زخم الصواريخ الباليستية في أواخر الأربعينيَّات وفي الخمسينيَّات، كان كوروليف عبقريًّا في قيادة العديد من مصانع الصواريخ ومكاتب التصميمات والتنسيق بينها. وبحلول الستينيَّات، كان نُضج صناعة الصواريخ والفضاء يعني أنَّ هناك الآن العديدَ من المشروعات الكبرى تحت قيادة شخصياتٍ مُهمَّة تتنافس — منافَسةً لدودة في أغلب الأحيان — للحصول على استحسان المجمع الصناعي العسكري وقيادة الحزب. كان صاروخ «آر-٧» الباليستي العابر للقارَّات الذي صنَعَه كوروليف غير عملي، ولذا فاز مكتب تصميمات ميخائيل يانجل بتقديمه تصميماتٍ أفضل. كان ثمَّة خلافٍ بين كوروليف وفالنتين جلوشكو، مُصمِّم أول محرِّك صواريخ بالوقود السائل، على اختيار الوقود للمُعزِّز ن-١ العملاق الذي كان سيُستخدَم للهبوط على سطح القمر، ولذا أوكل كوروليف مهمَّة تصميم المحرِّك لشركةٍ أخرى. ثارت خلافاتٌ تنافُسية أخرى مع مُصمِّم الصواريخ فلاديمير شيلومي، الذي طوَّر صاروخ «بروتون» بمحركٍ مُعزَّز ووضع خططًا بديلة للبعثات المأهولة، بما في ذلك مشروع لإرسال رائدَي فضاء للدوَران حول القمر. نُقِلَ البرنامج الأخير إلى مكتب كوروليف، مما نجَم عنه مشروعان قمريَّان وأدَّى ذلك إلى توزيع الموارد القليلة، وجعْلها أقل.

يُمكننا أن نقول إنَّ قرار السوفييت بمنافسة «أبولُّو» جاء مُتأخِّرًا جدًّا. لم يوافق خروتشوف على برنامج إلا في أغسطس ١٩٦٤. ويبدو أن سلسلة نجاحات السوفييت قد جعلت الجميع راضيًا عن نفسه. في بداية عام ١٩٦٦، تُوفِّي سيرجي كوروليف إثر إجراء عمليةٍ جراحية فاشلة، مُخلِّفًا فراغًا كبيرًا في قيادة برنامج الفضاء. ولكن الصراع المُحتدِم يُبيِّن أن دكتاتورية الحزب الواحد والاقتصاد المُخطَّط كانا أقلَّ نجاحًا من النظام الرأسمالي الديمقراطي في الفوز بالمنافسة الاقتصادية الداخلية ووضع برنامجٍ متماسِك — على عكس توقُّعات الغرب الحالية بأنَّ النظم الديكتاتورية هي الأقرب لاتِّخاذ قراراتٍ حاسمة. علاوة على ذلك كله، لم يملك الاتحاد السوفييتي اقتصادًا كبيرًا وفعَّالًا بما يكفي لدعم سباق القمر ومنافسة الصواريخ مع الولايات المتحدة التي حشدَتْ إمكانياتها. قَصَّر بريجنيف وكوزيجين في تمويل مشروعات الصعود إلى القمر وجعلوا الأولويَّة هي اللَّحاق بالولايات المتحدة في نُظُم التسليم النووي. وكانت أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر ١٩٦٢ مُهينة؛ واضطُرَّ خروتشوف إلى إزالة الصواريخ الموضوعة هناك لتعويض الدُّونية الاستراتيجية السوفييتية.

في مُستهلِّ عام ١٩٦٧، واجهت برامج الفضاء المأهولة الخاصَّة بكلتا القوَّتَين العُظمَيَين عقباتٍ كَئودًا أدَّت كذلك إلى تعتيم الصدارة الأمريكية المُتزايدة. وفي يناير، حدَث حريق في منصَّة إطلاق مركبة الفضاء «أبولُّو» التي كانت تحمِل طاقمًا مكوَّنًا من ثلاثة روَّاد فضاء — هم جس جريسوم وإدوارد وايت (الذي كان أول أمريكي يسير في الفضاء عام ١٩٦٥) وروجر شافي — ممَّا أسفر عن مقتل الثلاثة. وأدَّى ذلك ببرنامج «أبولُّو» إلى كارثةٍ بعد أن انكشف النِّقاب عن عيوب مركبة الفضاء. بعد ثلاثة شهور، في أبريل، مات فلاديمير كوماروف في تحطُّم مركبة الفضاء «سويوز ١»، بعد أنْ تشابكَتْ مِظلَّاته في نهاية الرحلة المنكوبة. وأحجمَتْ كِلتا الدولتَين عن إرسال روَّاد فضاء حتى أواخر عام ١٩٦٨.

أجبر هذا الحريق وكالة ناسا على إجراء فحصٍ كاملٍ دقيق لبرنامج «أبولُّو»، مما أثمَرَ عن سلسلةٍ مذهلة من النجاحات بين أواخر ١٩٦٧ وأواخر ١٩٦٩. تبِع الاختبار الأول الناجح لصاروخ «ساتورن ٥» الضخم اختبارٌ مداري لمَركبة الهبوط على القمر، ثُم خمس رحلات فضاء كاملة كان على متنها روَّاد فضاء بدأت في أكتوبر ١٩٦٨. جديرٌ بالذكر أنَّ فرانك بورمان وجيمس لوفيل وويليام أندرز قاموا بأول رحلةٍ للفضاء العميق على متْن المركبة «أبولُّو ٨»، التي دارت حول القمر في عيد الميلاد. تلا ذلك بعثتان في مدار الأرض ومدار القمر بعد أنْ أصبحت المركبة الأم ومَركبة الهبوط على سطح القمر متوفِّرتَين. كانت مركبة الفضاء «أبولُّو ١١» هي ذُروة النصر المؤزَّر عندما هبط نيل أرمسترونج وباز ألدرين على القمر ووطئتْ أقدامهما أرضَه في ٢٠ يوليو ١٩٦٩، في حين دار مايكل كولينز فوقهما. وكانت عودتهم السالِمة بأول عيِّناتٍ من جسم سماوي آخَر بمثابة دليلٍ قاطع على إنجاز كينيدي في تحدِّي ١٩٦١. في وقتٍ مُتأخِّر من نفس العام، انطلقت المركبة «أبولُّو ١٢» وهبطت بدقَّةٍ بالقُرب من «سيرفيور ٣»، أحد المَسابير الأمريكية الروبوتية، التي كانت هناك منذ ١٩٦٧.

نفَّذ السوفييت عدَّة بعثات فضاء بمركبات «سويوز» في مدار الأرض المُنخفِض في الفترة نفسِها، بما في ذلك إرساء مركبتَين منهما. ولكن هذه البعثات، كان هدفها الرئيسي، بخلاف تطوير خبرة الفضاء، هو تغطية الفشَل الذريع لبرامج الهبوط على سطح القمر. كان المُقرَّر أن تحمل إحدى مركبات «سويوز» مُعِدَّة للدوران حول القمر على متنِها رائدَي فضاء قبل أن يفعلها الأمريكان. كان النجاح الجزئي لاختبارات المركبات غير المأهولة سببًا في الظنِّ بأنَّ الاتحاد السوفييتي كان منافسًا قويًّا ﻟ «أبولُّو ٨». لكن لم يتم إطلاق أي رواد فضاء بسبب احتياج المركبة لإصلاحات، وبعد ذلك حازت الولايات المتحدة قصَب السبْق ونجحت في إرسال طاقمٍ في مدار القمر، وليس فقط للدوران حوله. فشل الاختباران الأوَّلان للصاروخ «إن-١» — الذي كان حجمُه يبلُغ نفس حجم «ساتورن ٥» — الذي كان من المُقرَّر أن يُطلِق مركبة الهبوط على سطح القمر، فشلًا ذريعًا كارثيًّا في ١٩٦٩، بسبب تصميم المرحلة الأولى المُبالِغ في التعقيد والحدِّ الأدنى من التجارِب اللذَين نجما عن نقصٍ التمويل. استمرَّ برنامج «إن-١» في بداية السبعينيَّات، ولكن انتهت مُحاوَلتا إطلاق أُخرَيان نفس النهاية المؤسِفة لسابقتَيهما. وأنكر الاتحاد السوفييتي، في العلن، أنه امتلك أصلًا برنامجًا للهبوط المأهول على سطح القمر.

تناقص سرعة سباق الفضاء

أنهى النصر الذي حقَّقتْه المركبة «أبولُّو ١١» المرحلة الأولى من سباق الفضاء. وكانت ميزانية وكالة ناسا في تناقُصٍ بالفعل بعد أن وصَل إنفاق «أبولُّو-ساتورن» إلى ذُروته في ١٩٦٦ وأدَّت حرب فيتنام وأعمال الشغَب الحضرية، وغيرها من المشاكل القومية إلى تخفيض الدَّعم العام المُقدَّم للوكالة. شجَّع النجاح المؤزَّر في رحلة القمر وكالة ناسا على أن تحاول حثَّ إدارة نيكسون الجديدة على التصديق على إنشاء مكُّوك فضاء ومحطَّة فضاء واستكشاف القمر وإرسال بعثةٍ مأهولة إلى كوكب المريخ قبل الثمانينيَّات من القرن العشرين. ولكنَّ الدولة لم تكن مُستعدَّة لذلك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى نيكسون. استمرَّت ميزانية ناسا في التراجُع حتى منتصَف السبعينيَّات؛ إذ كانت تتمتَّع بنصف القوة الشرائية التي كانت تتمتَّع بها في ١٩٦٦. على الجانب السوفييتي، حوَّل الفشل الذي مُنِيَ به مشروع القمر تركيزَ خلفاء كوروليف إلى سلسلةٍ من المحطَّات المدارية الصغيرة. وفي النهاية، قرَّرت القيادة السوفييتية بناء مكُّوك فضاء، مُحاكاةً لبرنامج رحلات الفضاء المأهولة الفعلي الجديد الذي وضعتْه وكالة ناسا في بداية السبعينيَّات. أُقنِع نيكسون والكونجرس ببرنامج الفضاء الأمريكي بحجَّة أنَّ المَركبات القابلةَ لإعادة الاستخدام سوف تُقلِّل تكلِفة الإطلاق بدرجةٍ هائلة. وكان من المُقرَّر تأجيل الخطط الأكثر طموحًا حتى الثمانينيَّات أو ما بعدَها.17

هكذا خفَّفت قوى الحرب والمنافسة الدولية التي كانت تُعجِّل تطوير تكنولوجيا الفضاء والصواريخ من سُرعتها بشكلٍ مفاجئ. نفَّذت الولايات المتحدة أربع عملياتِ هبوط بالمَركبة «أبولُّو» من بين خمس مُحاولات، ولكنَّ انتهاء ذلك البرنامج في ديسمبر ١٩٧٢، كان بمثابة آخِر مرةٍ يُغامر فيها البشَرُ بالابتعاد عن الأرض مسافةً تَزيد عن ٤٠٠ ميل، على الأقل حتى هذه اللحظة. والآن عندما نُعيد التفكير في تلك الأحداث يبدو جليًّا أمامنا أنَّ مِثل هذا التوجُّه التاريخي اللامُتوازِن كان من الصعب أن يَستمر. ولكنها كانت مفاجأة غير سارة للمؤمنين باستكشاف الفضاء الذين كانوا يتوقَّعون أنْ يستمرَّ استكشاف الفضاء العميق المأهول إلى الأبد.

إلا أنَّ سباق الفضاء لم يكن قد انتهى بعد؛ إذ استمرَّت المنافسة لمدَّةِ عشرين سنةً أخرى ولكن بوتيرةٍ أهدأ وأخفَّ حِدَّة؛ فطالما كانت الحرب الباردة مستمرَّة، لم تستطع الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفييتي التوقُّفَ عن محاولة مواكبة كلٍّ منهما إنجازات الآخر. كان هذا صحيحًا على نحوٍ ملحوظ في عالَم الفضاء العسكري، حيث استمرَّت المنافسة من أجل إمكانيات الفضاء في كامل عُنفوانها، حتى أثناء فترة الانفراج الدولي في منتصَف السبعينيَّات، عندما رتَّب الجانبان عرضًا دوليًّا للتعاون بإرساء مَركبتَي الفضاء «أبولو» و«سويوز» في عام ١٩٧٥. واصلت القوَّتان العُظمَيان تطوير إمكانياتهما في الاستطلاع بالْتِقاط الإشارات اللاسلكية والصُّوَر، كما واصلَتا تطوير إمكانيات الإنذار المُبكِّر، والطقس، والاتصالات، والملاحة، وغيرها من نُظُم الأقمار الصناعية، وذلك للأغراض العسكرية ولأغراض الأمن الوطني. بل إنَّ الاتحاد السوفييتي تمادى إلى حدِّ اختبار أسلحةٍ مُضادَّة للأقمار الصناعية ونُظم القصف المداري لمهاجمة الولايات المتحدة.18

على الرغم من هذه المنافسة الحامية، والسِّرية في الغالب، توصَّل الجانبان إلى قَبول نظامٍ واقعي مفادُه أن يكون الفضاء عسكريًّا ولكن ليس مُسلَّحًا. وبعد فترةٍ عصيبة في بداية الستينيَّات تضمَّنَت تجارِبَ نوويةً في الفضاء، اتَّفقتِ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على مُعاهدة الحظر الجزئي للتجارِب النوَوية في ١٩٦٣ وعلى معاهدة الفضاء الخارجي التابِعة للأُمم المتَّحدة في ١٩٦٧ والتي كانت تَحظر وضع «أسلحة الدمار الشامل» في المدار. احتفظت كِلتا القوَّتَين بالحد الأدنى من الإمكانيَّات التي تضمَن لهما مهاجمةَ مركبة الفضاء الخاصَّة بالآخر من الأرض أو من أقمارٍ صناعية مَدارية مُشتركة. ببساطةٍ لم يكن في مصلحة القوتَين العُظميَين مواصلة سباق تسليح الفضاء؛ وأصبحتا تعتمِدان على شبكات الأقمار الصناعية الخاصة بكلٍّ منهما.

من العوامل الأخرى المُهمَّة في الحرب الباردة المُتأخِّرة أنَّ النشاط الفضائي لم يعُد مقتصِرًا على قُطبَين اثنَين. بدأ هذا التوجُّه في بداية الستينيَّات من القرن العشرين، عندما طوَّرَت بريطانيا وكندا أقمارًا صناعية عِلمية ليتمَّ إطلاقها بواسطة الولايات المتحدة، وتلا ذلك في ١٩٦٥ أن أصبحت فرنسا ثالثَ دولةٍ تضع قمرَها الصناعي في المدار. وشعرت دولُ غرب أوروبا بأنها أدنى تكنولوجيًّا من الولايات المتحدة؛ ولذا أنشأت أيضًا وكالتَين مُتعاونتَين، إحداهما للأقمار الصناعية العلمية والأخرى لتطوير منصَّة إطلاقٍ مَدنية تعتمِد على الصواريخ الباليستية البريطانية والفرنسية. نجحَت الوكالة الأولى بينما فشلت الأخيرة فشلًا ذريعًا نتيجةَ ضَعف مستوى إدارة النظم عبْر الحدود القومية. في ١٩٧٥، اندمجت كلتا الوكالتَين في وكالة الفضاء الأوروبية (التي تُعرَف اختصارًا ﺑ ESA)، التي تأسَّسَت بناءً على اتفاقٍ ودِّي ألماني–فرنسي: كان الألمانُ أكثرَ حرصًا على التعاون مع الولايات المتحدة في برامج رحلات الفضاء المأهولة، بينما أرادت فرنسا مرةً أخرى أن تُجرِّب تطوير مركبة إطلاقٍ مُستقلة. أدَّى ذلك إلى نجاح صاروخ آريان الذي تتحكَّم فيه فرنسا، والذي استحوذ على حصَّةٍ كبيرة في السُّوق في الثمانينيَّات عن طريق إطلاق أقمارٍ صناعية للاتصالات في المدار الأرضي الجغرافي المُتزامن (المدار الذي يدور فيه القمر الصناعي في نفس اتجاه كوكب الأرض حيث المُدةُ التي يستغرقها ليدور دورةً كاملة حول الأرض تُساوي فترة دوران الأرض حول نفسها). في آسيا، وضعَتِ الصين الشيوعية قمرَها الصناعي الأول في المدار في ١٩٧٠، وهو القمر الذي تمَخَّض عنه برنامج صواريخ باليستية تحت قيادة مهندس الصواريخ تشيان شيويه سن الذي قضى سنواتٍ طويلة في الولايات المتحدة قبل أن يُجبَر على المُغادرة إثِر اتِّهامِه ظُلمًا بالخيانة. وأطلقَتِ اليابان أيضًا قمرَها الصناعي الأول في ١٩٧٠. وقد كانت الأقمار الصناعية والمُعززات اليابانية في جزءٍ منها ثمرةً للجهد الوطني وفي جزءٍ آخر نتيجةً للتعاون مع الولايات المتحدة. وفي ١٩٧٥ أطلق السوفييت أول قمرٍ صناعي هندي، ولكن بعد خمس سنواتٍ نجحَت منظَّمة البحوث الفضائية الهندية في وضْع قمر صناعي في المدار بنفسها.19
فيما يتعلَّق برحلات الفضاء المأهولة، شهدت السبعينيَّات والثمانينيَّات من القرن العشرين تطوير أول محطاتٍ مدارية. ونتيجةً لوضع برنامج منخفض التكاليف لاستغلال تكنولوجيا «أبولُّو-ساتورن»، احتلَّ روَّادُ فضاء وكالة ناسا محطة فضاء «سكاي لاب» في ١٩٧٣-١٩٧٤ بالاستناد إلى مرحلة «ساتورن ٥»، ولكن لم يكُن ثمَّة أموالٌ لمُتابعة العمل. أنشأ الاتحاد السوفييتي نوعَين مُختلفَين من المحطَّات الصغيرة في السبعينيَّات والثمانينيَّات من القرن العشرين، ولكنه أطلق على كِلتَيهما اسم «ساليوت» للتعتيم على حقيقة أنَّ إحداهما كانت مركبة فضاء استطلاعٍ عسكري للتجسُّس على الولايات المتحدة وحلفائها طارَتْ مرَّتَين بنجاح. كان ذلك المشروع ردًّا على المُختبر المداري المأهول التابع للقوَّات الجوية الأمريكية، الذي لم ينطلِق من الأرض أبدًا بسبب إصرارِ إدارة نيكسون على أنَّ هذه المهمة يُمكِن القيام بها على أكمل وجهٍ بواسطة الأقمار الصناعية غير المأهولة. بَيد أنَّ السوفييت قد اكتسبوا خبرةً واسعة في آثار انعدام الوزن لمدةٍ طويلة من محطات الفضاء «ساليوت» ومن محطة الفضاء «مير» التي أطلَقوها سنة ١٩٨٦.20
من غير المُدهش أنَّ ناسا عندما شرعَت في الدعوة إلى إنشاء محطة فضاء في بداية الثمانينيَّات، بعد إطلاق مركبة الفضاء الأمريكية أخيرًا، استغلَّت شبَح التفوُّق السوفييتي لدعوة إدارة ريجان المحافظة. على الرغم من ذلك، يبدو أنَّ الدافع الأساسي لوكالة الفضاء كان يتعلق بالعودة إلى ما أَطلَق عليه أحد العلماء السياسيين «نموذج فون براون» — مكوك فضاء، محطة فضاء، القمر، ثم المريخ — باعتباره الخطوات «المنطقية» في سبيل رحلات الفضاء المأهولة. ونظرًا لأنَّ أوروبا وكندا واليابان صاروا يتمتَّعون بالكفاءة التي تطوَّرَت من خلال التعامُل مع مكوك الفضاء الأمريكي، ومثل هذا التعاون يُبشِّر بادِّخار أموال دافعي الضرائب الأمريكان، فإنَّ برنامج محطة الفضاء كان برنامجًا دوليًّا منذ لحظة البدء فيه. لكنَّ الأمر استغرق حتى نهاية الحرب الباردة قبل أن يتمكَّن أي شخصٍ من التفكير في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي كشريك، واستغرق الأمر حتى عام ١٩٩٨ قبل أن تبدأ محطة الفضاء الدولية (ISS) في التجميع في المدار.21
عوضًا عن ذلك، سيطر مكوك الفضاء على برنامج وكالة ناسا في السبعينيَّات والثمانينيَّات. وما كان يُعتبَر في يومٍ من الأيام مجرَّد مركبةٍ لنقْل محطة فضاء أصبح غايةً في حدِّ ذاته بعد تخفيضات الميزانية في بداية السبعينيَّات. ولكي تُحافظ وكالة الفضاء عليه، أبرمَت صفقة مع إدارة الدفاع الأمريكية لجعل مكوك الفضاء هو مركبةَ الإطلاق القياسية لكلِّ البرامج. وتحدَّد شكل الجناح وحجم غُرفة الحمولة بواسطة مُتطلَّبات المهام العسكرية السرية. وبَنَت القوات الجوية منصَّةَ إطلاقٍ منفصِلة في كاليفورنيا، لم تُستخدَم على الإطلاق، من أجل عمليات إطلاق المدار القُطبي. ولكي تُقلِّل وكالة ناسا تكاليف التطوير، عزمت على إنشاء نظامٍ قابلٍ لإعادة الاستخدام جزئيًّا، يحتوي على مُعزِّزات صاروخية تعمل بالوقود الصُّلب يمكن إعادة استخدامها، ولكن أيضًا خزان وقود للاستعمال مرة واحدة. وقد وضعت تقديرات مُفرِطة في التفاؤل لمعدَّل تواتر إطلاق المكوك (كل أسبوع تقريبًا) وتكلفة وضْع حمولةٍ مقدارها رطل واحد في مدار الأرض (١٠٠ دولار. وفي الواقع ثبَت أنَّ هذه العملية تُكلِّف نحو ١٠ آلاف دولار) من أجل إقناع الكونجرس ونيكسون بالبرنامج. في أواخر السبعينيَّات من القرن العشرين، قابلتْ مشروعَ المكوك عقباتٌ ضخمةٌ فيما يتعلَّق بقرميد إعادة الدخول للغلاف الجوي القابل لإعادة الاستخدام وبمُحرِّك الصاروخ الأساسي، ممَّا أدَّى إلى تأخير الإطلاق لأكثرَ من عامَين. وأخيرًا انطلق جون يانج وروبرت كريبن بمكوك الفضاء «كولومبيا» مُتوجِّهَين إلى المدار في ١٢ أبريل ١٩٨١، وهو تاريخ الذِّكرى المئوية العشرين لرحلة جاجارين التاريخية.22
كان للمكوك حتمًا مميزاتٌ بقدْر ما له عيوب بالنسبة إلى الولايات المتحدة؛ فمن ناحية، كان بمثابة أُعجوبة تكنولوجية، فهو أول مركبةٍ فضائية مأهولة قابلة لإعادة الاستخدام (في معظمها). كما أنه مكَّن أشخاصًا ليسوا من فئة الطيارين من الوصول ببساطة إلى مدار الأرض المنخفِض مِثل أول امرأةٍ ورائد فضاء من الأقليَّات (سالي رايد وجاي بلوفورد) في ١٩٨٣. وأُرسِلَت البعثات الأولى لإصلاح الأقمار الصناعية واستردادها في بداية الثمانينيَّات من القرن العشرين، الأمر الذي مهَّد الطريق أمام إنقاذ وصيانة تليسكوب هابل الفضائي في التسعينيَّات من القرن العشرين والعَقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كان مكوك الفضاء يحمِل مُختبرات ومعدَّات أوروبية الصُّنع وذراع مناورة كَنَدي الصُّنع إلى مدار الأرض، علاوة على روَّاد فضاء من هذه الدول وغيرها. من ناحية أخرى، لم يكن المكوك مُجديًا اقتصاديًّا على الإطلاق؛ فعملية تجديد المركبة قبْل كلِّ رحلةٍ كانت تُكلِّف وقتًا ومالًا أكثرَ بكثيرٍ ممَّا كان مُتوقَّعًا، كما أنه كان خطيرًا. كان انفجار «تشالنجر» في ٢٨ يناير ١٩٨٦ هو أول حادثٍ يقَع لمكوكٍ فضائي، ونجم عنه مقتل سبعة روَّاد فضاء، وتوقُّف جميع رحلات الفضاء لمدَّة عامَين ونِصف العام. وأكدَّ للمؤسَّسة العسكرية ولمكتب الاستطلاع الوطني ما استنتجاه بالفعل من أنَّ مكوك الفضاء لم يكن منصَّة إطلاقٍ موثوقًا بها لبعثات الأمن الوطني. فيما بعد، أنهى الرئيس ريجان سياسة «وضع البَيض كله في سلةٍ واحدة» التي استبدل بموجبها جميع الصواريخ الأخرى، وأوقف تسويق ناسا لعمليات إطلاق الأقمار الصناعية التِّجارية (التي كانت قد خسِرت مبالغَ ضخمة، ولم تستطع الوكالة التعتيم على الأمر). لقد أعطى مكوك الفضاء الولايات المتحدة مكانةً دولية عظيمة، ولكنه كان يُمثِّل أيضًا خسارةً فادحة؛ إذ ترك رحلات الفضاء المأهولة عالقةً في مدار الأرض المنخفِض، حتى إذا كانت مركبات الفضاء الروبوتية الأمريكية تطير في أعماق النظام الشمسي. حافظ مكوك الفضاء على البنية التحتية لرحلات الفضاء المأهولة التي أنشأتها وكالة ناسا من أجل «أبولُّو»، ولكن بدا في بعض الأحيان أنَّ تلك كانت هي مهمَّته الأساسية، على الأقل بالنسبة إلى بيروقراطية الوكالة ولرجال الكونجرس الذين كانت لدَيهم مراكز فضاء أو مقاولون في مقاطعاتهم.23
fig4
شكل ٢-٢: إطلاق مكوك الفضاء «ديسكفري» في بعثته الأولى في ٣٠ أغسطس ١٩٨٤. أصبح المكوك هو البرنامج الأساسي لرحلات الفضاء المأهولة بعد الهبوط على القمر وسيطر على سياسة الفضاء الأمريكية في أواخر الحرب الباردة وبعدَها. لقد كان ناجحًا من الناحية التقنية لكنه فشل في إحداث ثورةٍ في تكلفة رحلات الفضاء (المصدر: وكالة ناسا).
في منتصف وأواخر الثمانينيَّات من القرن العشرين، بدا أن المنافسة الفضائية العسكرية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تهوي إلى منحدرٍ جديدٍ خطير، ثم فجأةً أخذت تلك المنافسة تتلاشى تمامًا. عندما ألقى ريجان خطاب «حرب النجوم» الشهير في مارس ١٩٨٣، مطالبًا بدفاعٍ صاروخي من الأرض والفضاء ضدَّ الهجوم النووي، هدَّد بتدمير الوضع القائم من حيث الحفاظُ على الفضاء القريب من الأرض عسكريًّا ولكن غير مُسلَّح. وسبَّب اضطرابًا دوليًّا ومكَّن منظمات الفضاء العسكرية السوفييتية من المُطالبة بمزيدٍ من الأموال لإنشاء محطاتٍ فضائية لمعاركَ بالليزر وأسلحة مُضادَّة للأقمار الصناعية وأدوات مساعدة القذائف على الاختراق. ويبدو من قبيل المُبالغة أن نُؤكِّد على أنَّ ترويج ريجان للدفاع ومبادرة الدفاع الاستراتيجي (التي تُعرَف اختصارًا ﺑ SDI) قد دفعا الاتحاد السوفييتيَّ إلى حافة الانهيار، لا سيما وأنَّ الركود والخلل الوظيفي الذي مُنِيَ به الاقتصاد الاستاليني المُخطَّط كانت لهما جذور عميقة. ولكن مبادرة الدفاع الاستراتيجي تركَت انطباعًا على قادة الحزب من أمثال ميخائيل جورباتشوف، الذي تصدَّر المشهد في ١٩٨٥، ودعمت إقدامه الحثيث على اتفاقيَّات الحدِّ من التسلح لكي يتمكَّن من توجيه الأموال إلى الاقتصاد المدني الواهن.24 وكانت النتيجة هي التخفيف المفاجئ لسرعة سباق التسلُّح النووي، الذي أعقبَه على نحوٍ صادم انهيارُ الإمبراطورية السوفييتية في أوروبا الشرقية عام ١٩٨٩ واختفاء الاتحاد السوفييتي نفسه في ١٩٩١. ونجم عن ذلك انتهاء سباق الفضاء ثُنائي القطب، والتحفيز الملحوظ للإنفاق على برامج الفضاء.

الخلاصة

كان سباق الفضاء في الحرب الباردة هو العامل المؤثر الرئيسي في تاريخ رحلات الفضاء. سارعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وغيرهما من القوى إلى بناء منظَّمات حكومية وتطوير القُدرة الصناعية والخبرة العمليَّاتية اللازمة لدعْم طَيفٍ واسع من أنشطة الفضاء، لا سيَّما رحلات الفضاء المأهولة، مدفوعين إلى ذلك بالمنافسة المُحتدِمة بين القوَّتَين العُظميَين لإثبات الإمكانيات التكنولوجية والقوة العسكرية. كما أدَّى السباق إلى تحفيز الاستكشاف العِلمي للكون وإلى نموِّ البِنية التحتية العالمية في مدار الأرض، وهو ما ظلَّ باقيًا من تلقاء نفسه حتى بعد أن وضعَت الحرب الباردة أوزارها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤