فلما كانت الليلة ٣١٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن علي شار أحرقه الجوع، فذهب إلى سوق التجار، فوجد حلقة ازدحام والناس مجتمعون فيها، فقال في نفسه: يا ترى ما سبب اجتماع هؤلاء الناس؟ والله لا أنتقل من هذا المكان حتى أتفرج على هذه الحلقة. ثم تقدَّمَ فوجد جارية خماسية معتدلة القدِّ، موردة الخد، قاعدة النهد، قد فاقت أهل زمانها في الحسن والجمال، والبهاء والكمال، كما قال فيها بعض واصفيها:

كَمَا اشْتَهَتْ خُلِقَتْ حَتَّى إِذَا كَمُلَتْ
فِي قَالَبِ الْحُسْنِ لَا طُولٌ وَلَا قِصَرُ
وَالْحُسْنُ أَصْبَحَ مَشْغُوفًا بِصُورَتِهَا
وَالصَّدُّ يَعْذِلُهَا وَالتِّيهُ وَالْخَفَرُ
فَالْبَدْرُ طَلْعَتُهَا وَالْغُصْنُ قَامَتُهَا
وَالْمِسْكُ نَكْهَتُهَا مَا مِثْلُهَا بَشَرُ
كَأَنَّهَا أُفْرِغَتْ مِنْ مَاءِ لُؤْلُؤَةٍ
فِي كُلِّ جَارِيَةٍ مِنْ حُسْنِهَا قَمَرُ
fig1
وكانت تلك الجارية اسمها زمرد، فلما نظَرَها علي شار تعجَّبَ من حُسْنها.

وكانت تلك الجارية اسمها زمرد، فلما نظرها علي شار تعجَّبَ من حسنها وجمالها، وقال: والله ما أبرح حتى أنظر القدر الذي يبلغه ثمن هذه الجارية، وأعرف الذي يشتريها. ثم وقف بجملة التجار فظنوا أنه يشتري، لما يعلمون من غناه بالمال الذي ورثه عن والديه، ثم إن الدلال قد وقف على رأس الجارية وقال: يا تجار، يا أرباب الأموال، مَن يفتح باب السعر في هذه الجارية سيدة الأقمار، الدرة السنية زمرد السنورية، بُغية الطالب ونزهة الراغب؟ فافتحوا الباب فليس على مَن فتحه لوم ولا عتاب. فقال بعض التجار: عليَّ بخمسمائة دينار. قال آخَر: وعشرة. فقال شيخ يُسمَّى رشيد الدين، وكان أزرق العين قبيح المنظر: ومائة. فقال آخَر: وعشرة. قال الشيخ: بألف دينار. فحبس التجار ألسنتهم وسكتوا، فشاوَرَ الدلال سيدها فقال: أنا حالف أني ما أبيعها إلا لمَن تختاره فشاوِرْها، فجاء الدلَّال إليها وقال: يا سيدة الأقمار، إن هذا التاجر يريد أن يشتريكِ. فنظرت إليه فوجدته كما ذكرنا، فقالت للدلَّال: أنا لا أُباع لشيخ أوقعه الهرم في أسوأ حال، ولله درُّ مَن قال:

سَأَلْتُهَا قُبْلَةً يَوْمًا وَقَدْ نَظَرَتْ
شَيْبِي وَقَدْ كُنْتُ ذَا مَالٍ وَذَا نِعَمِ
فَأَعْرَضَتْ ثُمَّ صَدَّتْ وَهْيَ قَائِلَةٌ
لَا وَالَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَدَمِ
مَا كَانَ لِي فِي بَيَاضِ الشَّيْبِ مِنْ أَرَبٍ
أَفِي الْحَيَاةِ يَكُونُ الْقُطْنُ حَشْوَ فَمِي؟

فلما سمع الدلَّال قولها قال لها: والله إنك معذورة، وقيمتك عشرة آلاف دينار. ثم أعلم سيدها أنها ما رضيت بذلك الشيخ، فقال: شاوِرْها في غيره. فتقدم إنسان آخر وقال: عليَّ بما أعطى فيها الشيخ الذي لم ترضَ به. فنظرت إلى ذلك الرجل فوجدَتْه مصبوغَ اللحية، فقالت: ما هذا العيب والريب، وسواد وجه الشيب. ثم أكثرَتِ التعجُّبات وأنشدت هذه الأبيات:

بَدَا لِي مِنْ فُلَانٍ مَا بَدَا لِي
قَفًا وَاللهِ يُصْفَعُ بِالنِّعَالِ
وَذَقْنًا لِلْبَعُوضِ بِهَا مَجَالٌ
وَقَرْنًا مَالَ مِنْ رَبْطِ الْحِبَالِ
أَيَا مَفْتُونَ فِي خَدِّي وَقَدِّي
تَزَوَّرْ بِالْمُحَالِ وَلَا تُبَالِ
أَتَصْبُغُ بِالْعُيُوبِ بَيَاضَ شَيْبٍ
لِتُخْفِيَ مَا بَدَا لِلْإِحْتِيَالِ
تَرُوحُ بِلِحْيَةٍ وَتَجِي بِأُخْرَى
لِتُخْفِيَ فِعْلَ صُنَّاعِ الْخَيَالِ

وما أحسن قول الشاعر:

قَالَتْ أَرَاكَ خَضَبْتَ الشَّيْبَ قُلْتُ لَهَا
سَتَرْتُهُ عَنْكِ يَا سَمْعِي وَيَا بَصَرِي
فَقَهْقَهَتْ ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ ذَا عَجَبٌ
تَكَاثَرَ الْغِشُّ حَتَّى صَارَ فِي الشَّعَرِ

فلما سمع الدلال شعرها قال لها: والله إنك صدقتِ. فقال التاجر: ما الذي قالت؟ فأعاد عليه الأبيات فعرف أن الحق على نفسه، وامتنع من اشترائها. فتقدَّمَ تاجر آخَر وقال: شاورها عليَّ بالثمن الذي سمعته. فشاوَرَها عليه فنظرت إليه فوجدته أعور، فقالت: هذا أعور، وقد قال فيه الشاعر:

لَا تَصْحَبِ الْأَعْوَرَ يَوْمًا وَكُنْ
فِي حَذَرٍ مِنْ شَرِّهِ وَمَيْنِهِ
لَوْ كَانَ فِي الْأَعْوَرِ مِنْ خِيرَةٍ
مَا أَوْجَدَ اللهُ الْعَمَى بِعَيْنِهِ

فقال لها الدلال: أتُباعي لذلك التاجر؟ فنظرت إليه فوجدته قصيرًا وذقنه سابلة سرَّته، فقالت: هذا الذي قال فيه الشاعر:

فَلِي صَدِيقٌ وَلَهُ لِحْيَةٌ
أَنْبَتَهَا اللهُ بِلَا فَائِدَهْ
كَأَنَّهَا بَعْضُ لَيَالِي الشِّتَا
طَوِيلَةٌ مُظْلِمَةٌ بَارِدَهْ

فقال لها الدلَّال: يا سيدتي، انظري مَن يعجبك من الحاضرين، وقولي عليه حتى أبيعك له. فنظرت إلى حلقة التجار وتفرَّستهم واحدًا بعد واحدٍ، فوقع نظرها على علي شار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤