فلما كانت الليلة ٤٦١

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما لعبت الشطرنج مع المعلم بحضرة أمير المؤمنين هارون الرشيد، صارت كلما نقل نقلًا أفسدته حتى غلبته، ورأى الشاه مات، فقال: أنا أردت أن أطعمك حتى تظني أنك عارفة، لكن صفي حتى أُرِيكِ. فلما صفَّتِ الثاني قال في نفسه: افتح عينك وإلا غلبَتْكَ. وصار ما يخرج قطعة إلا بحساب، وما زال يلعب حتى قالت له: الشاه مات. فلما رأى ذلك منها دهش من حذقها وفهمها، فضحكت وقالت له: يا معلم، أنا أراهنك في هذه المرة الثالثة على أن أرفع لك الفرزان، ورخ الميمنة، وفرس الميسرة، وإنْ غلبتَني فخذ ثيابي، وإن غلبتُك أخذتُ ثيابك. قال: رضيت بهذا الشرط. ثم صفَّا الصفين، ورفعت الفرزان والرخ والفرس، وقالت له: انقل يا معلم. فنقل وقال: ما لي لا أغلبها بعد هذه الحطيطة. وعقد عقدًا، وإذا هي نقلت نقلًا قليلًا إلى أن صيَّرَتْ له فرزانًا، ودنَتْ منه، وقربت البيادق والقطع، وشغلته وأطعمته قطعةً فقطعها، فقالت: الكيل كيل وافٍ، والرز رز صافٍ، فكُلْ حتى تزيد على الشبع، ما يقتلك يا ابن آدم إلا الطمع، أَمَا تعلم أني أُطعِمك لأخدعك؟ انظر فهذا الشاه مات. ثم قالت له: انزع ثيابك. فقال لها: اتركي لي السراويل، وأجرك على الله. وحلف بالله ألَّا يناظر أحدًا ما دامت تودُّد بمملكة بغداد، ثم نزع ثيابه وسلَّمَها لها، وانصرف.

فجِيء بلاعب النرد، فقالت له: إنْ غلبتُك في هذا اليوم فماذا تعطيني؟ قال: أعطيك عشرة ثياب من الديباج القسطنطيني المطرز بالذهب، وعشر ثياب من المخمل، وألف دينار، وإنْ غلبتُكِ فما أريد منك إلا أن تكتبي لي درجًا بأني غلبتُكِ. قالت له: دونك وما عولت عليه. فلعب فإذا هو قد خسر، وقام وهو يرطن بالإفرنجية، ويقول: ونعمة أمير المؤمنين إنها لا يوجد مثلها في سائر البلاد. ثم إن أمير المؤمنين دعا بأرباب آلات الطرب فحضروا، فقال لها أمير المؤمنين: هل تعرفين شيئًا من آلات الطرب؟ قالت: نعم. فأمر بإحضار عود محكوك مدعوك، مجرود صاحبه بالهجران مكدود، قال فيه بعض واصفيه:

سَقَى اللهُ أَرْضًا أَنْبَتَتْ عُودَ مُطْرِبٍ
زَكَتْ مِنْهُ أَغْصَانٌ وَطَابَتْ مَغَارِسُ
تَغَنَّتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْعُودُ أَخْضَرُ
وَغَنَّتْ عَلَيْهِ الْغِيدُ وَالْعُودُ يَابِسُ

فجِيء بعودٍ في كيس من الأطلس الأحمر له شرابة من الحرير المزعفر، فحَلَّتِ الكيس وأخرجت العود، فإذا هو عليه منقوش:

وَغُصْنٍ رَطِيبٍ عَادَ عُودًا لِقَيْنَةٍ
تَحِنَّ إِلَى أَتْرَابِهَا فِي الْمَحَافِلِ
تُغَنِّي فَيَتْلُو لَحْنَهَا وَكَأَنَّهُ
يُلَقِّنُهَا إِعْرَابَ لَحْنِ الْبَلَابِلِ

فوضعته في حجرها، وأرخَتْ عليه نهدها، وانحنت عليه انحناءَ والدة تُرضِع ولدها، وضربت عليه اثني عشر نغمًا حتى ماج المجلس من الطرب، وأنشدت تقول:

أَقْصِرُوا هَجْرَكُمْ وَقِلُّوا جَفَاكُمْ
فَفُؤَادِي وَحَقِّكُمْ مَا سَلَاكُمْ
وَارْحَمُوا بَاكِيًا حَزِينًا كَئِيبًا
ذَا غَرَامٍ مُتَيَّمًا فِي هَوَاكُمْ

فطرب أمير المؤمنين وقال: بارَكَ الله فيكِ، ورحم مَن علَّمَكِ. فقامت وقبَّلَتِ الأرض بين يديه، ثم إن أمير المؤمنين أمر بإحضار المال، ودفع لمولاها مائة ألف دينار، وقال لها: يا تودُّد، تمنِّي عليَّ؟ قالت: تمنَّيْتُ عليك أن تردَّني إلى سيدي الذي باعني. فقال لها: نعم. فرَدَّها إليه، وأعطاها خمسة آلاف دينار لنفسها، وجعل سيدها نديمًا له على طول الزمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤