فلما كانت الليلة ٤٦٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: لما انكسرت السفينة نجوتُ على لوح منها، ووضعت هذا الصبي وأنا على ذلك اللوح، فبينما هو في حجري والأمواج تضربني، إذ وصل إليَّ رجل من ملَّاحي السفينة، وحصل معي، وقال لي: والله لقد كنتُ أهواكِ وأنتِ في السفينة، والآن قد حصلتُ معك، فمكِّنيني من نفسك، وإلا قذفتك في هذا البحر. فقلتُ: ويحك! أَمَا كان لك مما رأيت تذكرة وعبرة؟ فقال: إني رأيتُ مثل ذلك مرارًا ونجوتُ، وأنا لا أبالي. فقلتُ: يا هذا، نحن في بلية نرجو السلامة منها بالطاعة لا بالمعصية، فألحَّ عليَّ فخفتُ منه، وأردتُ أن أخادعه، فقلتُ له: مهلًا حتى ينام هذا الطفل. فأخذه من حجري وقذفه في البحر، فلما رأيت جرأته، وما فعل بالصبي طار قلبي، وزاد كربي، فرفعت رأسي إلى السماء وقلت: يا مَن يَحُول بين المرء وقلبه، حُل بيني وبين هذا الأسد؛ إنك على كل شيء قدير. فوالله ما فرغتُ من كلامي إلا ودابة قد طلعَتْ من البحر، فاختطفَتْه من فوق اللوح، وبقيت وحدي، وزاد كربي وحزني إشفاقًا على ولدي، فأنشدتُ وقلتُ:

قُرَّةَ الْعَيْنِ حَبِيبِي وَلَدِي
ضَاعَ حَيْثُ الْوَجْدُ أَوْهَى جَلَدِي
وَأَرَى جِسْمِي غَرِيقًا وَغَدَتْ
بِالتيَاعِ الْوَجْدِ تَشْوِي كَبِدِي
لَيْسَ لِي فِي كُرْبَتِي مِنْ فَرَجٍ
غَيْرُ أَلْطَافِكَ يَا مُعْتَمِدِي
أَنْتَ يَا رَبِّي تَرَى مَا حَلَّ بِي
مِنْ غَرَامِي بِفِرَاقِي وَلَدِي
فَاجْمَعِ الشَّمْلَ وَكُنْ لِي رَاحِمًا
فَرَجَائِي فِيكَ أَقْوَى عُدَدِي

فبقيت على تلك الحالة يومًا وليلة، فلما كان الصباح بصرت بقلاع سفينة تلوح من بُعْدٍ، فما زالَتِ الأمواج تقذفني والرياح تسوقني حتى وصلتُ إلى تلك السفينة التي كنتُ أرى قلاعها، فأخذني أهل السفينة ووضعوني فيها، فنظرت فإذا ولدي بينهم، فتراميتُ عليه وقلتُ: يا قوم، هذا ولدي، فمن أين كان لكم؟ قالوا: بينما نحن نسير في البحر إذ حبست السفينة، فإذا دابة كأنها المدينة العظيمة، وهذا الصبي على ظهرها يمصُّ إبهامه فأخذناه. فلما سمعتُ منهم ذلك حدَّثْتُهم بقصتي، وما جرى لي، وشكرتُ لربي على ما أنالني، وعاهدْتُه أنْ لا أبرح بيته، ولا أنثني عن خدمته، وما سألته بعد ذلك شيئًا إلا أعطانيه. فمددتُ يدي إلى كيس النفقة، وأردتُ أن أعطيها، فقالت: إليك عني يا بطال، أفأحدِّثك بأفضاله، وكرم فِعَاله، وآخُذ الرفد عن يد غيره، فلم أقدر على أن تقبل مني شيئًا، فتركتها وانصرفت من عندها، وأنا أنشد وأقول هذه الأبيات:

وَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ
يَدُقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ
وَكَمْ يَسُرُّنِي مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ
وَفَرَّجَ لَوْعَةَ الْقَلْبِ الشَّجِيِّ
وَكَمْ هَمٍّ تُعَانِيهِ صَبَاحًا
فَتُعْقِبُهُ الْمَسَرَّةُ بِالْعَشِيِّ
إِذَا ضَاقَتْ بِكَ الْأَسْبَابُ يَوْمًا
فَثِقْ بِالْوَاحِدِ الصَّمَدِ الْعَلِيِّ
تَشَفَّعْ بِالنَّبِيِّ فَكُلُّ عَبْدٍ
يَنَالُ إِذَا تَشَفَّعَ بِالنَّبِيِّ

وما زالتْ في عبادة ربها ملازِمةً بيته إلى أن أدركها الموت.

حكاية العبد الأول المتعبِّد

ومما يُحكَى أن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: انحبس عنَّا المطر بالبصرة، فخرجنا نستقي مرارًا فلم نَرَ أثرَ الإجابة، فخرجت أنا وعطاء السلمي وثابت البناني ونجي البكاء ومحمد بن واسع وأيوب السختياني وحبيب الفارسي وحسان بن أبي سنان وعتبة الفلام وصالح المزني، حتى صرنا إلى المصلَّى، وخرجت الصبيان من المكاتب واستقينا فلم نَرَ أثرَ الإجابة؛ فانتصف النهار وانصرف الناس وبقيت أنا وثابت البناني بالمصلَّى، فلما أظلم الليل بصرنا بأسود مليح الوجه، رقيق الساقين، عظيم البطن، قد أقبَلَ، عليه مئزر من صوف، إذا قُوِّمَ جميعَ ما كان عليه لا يساوي درهمين؛ فجاء بماء فتوضَّأَ، ثم أتى المحراب فصلَّى ركعتين خفيفتين، كان قيامه وركوعه وسجوده فيها سواء، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي ومولاي، إلى كَمْ تردُّ عبادَك فيما لا ينقص ملكك؟ أَنَفَدَ ما عندك أمْ فنيَتْ خزائنُ مُلْكِك؟ أقسمتُ عليك بحبِّك لي إلا سقيتنا غيثَك الساعة. قال: فما تمَّ الكلام حتى تغيَّمت السماء وجاءت بمطر كأفواه القرب، ولم نخرج من المصلَّى إلا ونحن نخوض في الماء للركب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤