فلما كانت الليلة ٥١٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر لما رأى جانشاه مرميًّا تحت شجرة، أتاه بشيء من المياه العطرية، ورشَّه على وجهه فأفاق من غشيته، وصار يلتفت يمينًا وشمالًا، فلم يَرَ عنده أحدًا سوى الشيخ نصر، فزادت به الحسرات، وأنشد هذه الأبيات:

تَبَدَّتْ كَبَدْرِ التِّمِّ فِي لَيْلَةِ السَّعْدِ
مُنَعَّمَةَ الْأَطْرَافِ مَمْشُوقَةَ الْقَدِّ
لَهَا مُقْلَةٌ تَسْبِي الْعُقُولَ بِسِحْرِهَا
وَثَغْرٌ حَكَى الْيَاقُوتَ فِي حُمْرَةِ الْوَرْدِ
تَحَدَّرَ فَوْقَ الرِّدْفِ أَسْوَدُ شَعْرِهَا
فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْحُبَابَ مِنَ الْجَعْدِ
لَقَدْ رَقَّتِ الْأَعْطَافُ مِنْهَا وَقَلْبُهَا
عَلَى صَبِّهَا أَقْسَى مِنَ الْحَجَرِ الصَّلْدِ
وَتُرْسِلُ سَهْمَ اللَّحْظِ مِنْ قَوْسٍ حَاجِبٍ
يُصِيبُ وَلَمْ يُخْطِئْ وَلَوْ كَانَ مِنْ بُعْدِ
فَيَا حُسْنَهَا قَدْ فَاقَ كُلَّ مَلَاحَةٍ
وَلَيْسَ لَهَا بَيْنَ الْبَرِيَّةِ مِنْ نِدِّ

فلما سمع الشيخ نصر من جانشاه هذه الأشعار قال له: يا ولدي، أَمَا قلتُ لك لا تفتح هذه المقصورة، ولا تدخلها؛ ولكن أخبرني يا ولدي بما رأيتَ فيها، واحكِ لي حكايتك، وعرِّفني ما جرى لك. فحكى له جانشاه حكايته، وأخبره بما جرى له مع الثلاث بنات وهو جالس، فلما سمع الشيخ نصر كلامه قال له: اعلم يا ولدي أن هذه البنات من بنات الجان، وفي كل سنة يأتين إلى هذا المكان فيلعبن وينشرحن إلى وقت العصر، ثم يذهبن إلى بلادهن. فقال له جانشاه: وأين بلادهن؟ فقال له الشيخ نصر: والله يا ولدي ما أعلم أين بلادهن. ثم إن الشيخ نصر قال له: قُمْ معي، وقوِّ نفسك حتى أُرسِلَك إلى بلادك مع الطيور، وخلِّ عنك هذا العشق. فلما سمع جانشاه كلامَ الشيخ نصر صرخ صرخة عظيمة، ووقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق قال له: يا والدي، أنا لا أريد الرواح إلى بلادي حتى أجتمع بهؤلاء البنات، واعلم يا والدي أني ما بقيت أذكر أهلي ولو أموت بين يديك. ثم بكى وقال: أنا رضيت بأن أنظر وجهَ مَن عشقتها، ولو في السنة مرةً واحدةً. ثم صعد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

لَيْتَ الْخَيَالَ عَلَى الأَحْبَابِ مَا طَرَقَ
وَلَيْتَ هَذَا الْهَوَى لِلنَّاسِ مَا خُلِقَ
لَوْلَا حَرَارَةُ قَلْبِي مِنْ تَذَكُّرِكُمْ
مَا سَالَ دَمْعِي عَلَى خَدِّي وَلَا انْدَفَقَ
أُصَبِّرُ الْقَلْبَ فِي يَوْمِي وَلَيْلَتِهِ
وَصَارَ جِسْمِي بِنَارِ الْحُبِّ مُحْتَرِقًا

ثم إن جانشاه وقع على رجلي الشيخ نصر وقبَّلَهما، وبكى بكاءً شديدًا، وقال له: ارحمني يرحمك الله، وأَعِنِّي على بلوتي يُعِنْك الله. فقال له الشيخ نصر: يا ولدي، والله لا أعرف هذه البنات، ولا أدري أين بلادهن، ولكن يا ولدي حيث تولَّعْتَ بإحداهن، فاقعد عندي إلى مثل هذا العام؛ لأنهن يأتين في السنة القابلة مثل هذا اليوم، فإذا قربت الأيام التي يأتين فيها، فكُنْ مستخفيًا في البستان تحت شجرة، ولما ينزلن البحيرة ويسبحن فيها، ويلعبن ويبعدن عن ثيابهن، فخُذْ ثياب التي تريدها منهن، فإذا نظرْنَك يطلعن على البر ليلبسن ثيابهن، وتقول لك التي أخذت ثيابها بعذوبة كلام، وحسن ابتسام: أَعْطِني ثيابي يا أخي حتى ألبسها، وأستتر بها. ومتى قبلتَ كلامها وأعطيتها ثيابها، فإنك لا تبلغ مرادك منها أبدًا، بل تلبس ثيابها وتروح إلى أهلها، ولا تنظرها بعد ذلك أبدًا؛ فإذا ظفرتَ بثيابها فاحفظها، وحطها تحت إبطك، ولا تُعْطِها إياها حتى أرجع من ملاقاة الطيور، وأوفِّق بينك وبينها، وأُرسِلك إلى بلادك وهي معك، وهذا الذي أقدر عليه يا ولدي لا غير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤