فلما كانت الليلة ٣٣٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن علي بن منصور قال: لما جلستُ على مائدة جبير بن عمير الشيباني، أمعنت إليها الالتفات، فوجدتُ مكتوبًا عليها هذه الأبيات:

عُجْ بِالْغَرَانِيقِ فِي رَبْعِ السَّكَارِيجِ
وَانْزِلْ بِحَيِّ الْقَلَايَا وَالسَّكَابِيجِ
وَانْدُبْ بَنَاتَ الْقَطَا مَا زِلْتُ أَنْدُبُهَا
مَعَ الْمُحَمَّرِ فِي وَسْطِ الْفَرَارِيجِ
يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى لَوْنَيْنِ مِنْ سَمَكٍ
لَدَى رَغِيفٍ طَرِيٍّ فِي الْمَعَارِيجِ
للهِ دَرُّ الْعَشَا مَا كَانَ أَحْسَنَهُ
وَالْبَقْلُ يُغْمَسُ فِي خَلِّ الدَّكَاكِيجِ
كَذَا الْأَرُزُّ بِأَلْبَانِ الْجَمُوسِ غَدَتْ
فِيهِ الْأَكُفُّ إِلَى حَدِّ الدَّمَالِيجِ
يَا نَفْسُ صَبْرًا فَإِنَّ اللهَ ذُو كَرَمٍ
إِنْ ضِقْتِ ذَرْعًا أَتَاكِ بِالتَّفَارِيجِ

ثم إن جبير بن عمير قال: مُدَّ يدك إلى طعامنا، واجبر خاطرنا بأكل زادنا. فقلت له: والله ما آكل من طعامك لقمة واحدة حتى تقضي حاجتي. قال: فما حاجتك؟ فأخرجت إليه الكتاب، فلما قرأه وفهم ما فيه مزَّقه ورماه في الأرض وقال لي: يا ابن منصور، مهما كان لك من الحوائج قضيناه، إلا هذه الحاجة التي تتعلَّق بصاحبة هذا الكتاب؛ فإن كتابها ليس له عندي جواب. فقمتُ من عنده غضبان، فتعلَّق بأذيالي وقال لي: يا ابن منصور، أنا أخبرك بالذي قالته لك، وإن لم أكن حاضرًا معكما. فقلت له: ما الذي قالته لي؟ قال: أَمَا قالَتْ لك صاحبة هذا الكتاب إن أتيتني بجوابه فلك عندي خمسمائة دينار، وإن لم تأتِني بجوابه فلك عندي حق مشيك مائة دينار؟ قلت: نعم. قال: اجلس عندي اليوم، وكُلْ واشرب وتلذَّذْ واطرب، وخذ لك خمسمائة دينار. فجلستُ عنده وأكلت وشربت وتلذَّذت وطربت وسامرته، ثم قلت: يا سيدي، ما في دارك سماع؟ قال لي: إن لنا مدة نشرب من غير سماع. ثم نادى بعض جواريه وقال: يا شجرة الدر. فأجابته جارية من مقصورتها، ومعها عود من صنع الهنود ملفوف في كيس من الإبريسم، ثم جاءت وجلست ووضعته في حجرها، وضربت عليه إحدى وعشرين طريقة، ثم عادت إلى الطريقة الأولى، وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:

مَنْ لَمْ يَذُقْ حُلْوَ الْغَرَامِ وَمُرَّهُ
لَمْ يَدْرِ وَصْلَ حَبِيبِهِ مِنْ هَجْرِهِ
وَكَذَاكَ مَنْ قَدْ حَادَ عَنْ سُنَنِ الْهَوَى
لَمْ يَدْرِ سَهْلَ طَرِيقِهِ مِنْ وَعْرِهِ
مَا زِلْتُ مُعْتَرِضًا عَلَى أَهْلِ الْهَوَى
حَتَّى بُلِيتُ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ
وَشَرِبْتُ كَأْسَ مِرَارِهِ مُتَجَرِّعًا
وَخَضَعْتُ فِيهِ لِعَبْدِهِ وَلِحُرِّهِ
كَمْ لَيْلَةٍ بَاتَ الْحَبِيبُ مُنَادِمِي
وَرَشَفْتُ حُلْوَ رِضَابِهِ مِنْ ثَغْرِهِ
مَا كَانَ أَقْصَرَ عُمْرَ لَيْلِ وِصَالِنَا
مُذْ جَاءَ وَقْتُ عَشَائِهِ مَعْ فَجْرِهِ
نَذَرَ الزَّمَانُ بِأَنْ يُفَرِّقَ شَمْلَنَا
وَالْآنَ قَدْ أَوْفَى الزَّمَانُ بِنَذْرِهِ
حَكَمَ الزَّمَانُ فَلَا مَرَدَّ لِحُكْمِهِ
مَنْ ذَا يُعَارِضُ سَيِّدًا فِي أَمْرِهِ

فلما فرغت الجارية من شعرها، صرخ سيدها صرخة عظيمة، ووقع مغشيًّا عليه. فقالت الجارية: لا آخذك الله أيها الشيخ، إن لنا مدة ونحن نشرب بلا سماع مخافةً على سيدنا من مثل هذه الصرعة، ولكن اذهب إلى تلك المقصورة ونَمْ فيها. فتوجَّهتُ إلى المقصورة التي أشارت إليها ونمت فيها إلى الصباح، وإذا أنا بغلامٍ أتاني ومعه كيس فيه خمسمائة دينار، وقال: هذا الذي وعدك به سيدي، ولكنك لا تَعُدْ إلى هذه الجارية التي أرسلَتْك، وكأنك لا سمعتَ بهذا الخبر ولا سمعنا. فقلت له: سمعًا وطاعة. ثم أخذت الكيس ومضيت إلى حال سبيلي، وقلت في نفسي: إن الجارية في انتظاري من أمس، والله لا بد أن أرجع إليها، وأخبرها بما جرى بيني وبينه؛ لأنني إن لم أَعُدْ إليها ربما تشتمني وتشتم كلَّ مَن طلع من بلادي. فمضيتُ إليها فوجدتها واقفةً خلف الباب، فلما رأتني قالت: يا ابن منصور، إنك ما قضيت لي حاجة. فقلت لها: مَن أعلمك بهذا؟ فقالت: يا ابن منصور، إن معي مكاشفة أخرى، وهي أنك لما ناولْتَه الورقة مزَّقها ورماها لك وقال: يا ابن منصور، مهما كان لك من الحوائج قضيناها لك إلا حاجة صاحبة هذه الورقة؛ فإنها ليس لها عندي جواب. فقمتَ أنت من عنده مغضبًا فتعلَّق بأذيالك وقال لك: يا ابن منصور، اجلس عندي اليوم فإنك ضيفي، فكُلْ واشرب والْتَذَّ واطرب، وخذ لك خمسمائة دينار. فجلست عنده وأكلت وشربت وتلذَّذت وطربت وسامرته، وغنَّت الجارية بالصوت الفلاني، والشعر الفلاني فوقع مغشيًّا عليه. فقلتُ لها يا أمير المؤمنين: هل أنتِ كنتِ معنا؟ فقالت لي: يا ابن منصور، أَمَا سمعتَ قول الشاعر:

قُلُوبُ الْعَاشِقِينَ لَهَا عُيُونٌ
تَرَى مَا لَا يَرَاهُ النَّاظِرُونَ

ولكن يا ابن منصور، ما تعاقب الليل والنهار على شيء إلَّا وغيَّرَاه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤