فلما كانت الليلة ٣٣٤

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جبيرًا قال: فقلت لها: أعيدي البيتين والطريقة. فما رضيت، فأمرت النواتية أن يرجموها، فرجموها بالنارنج حتى خشينا الغرق على الزورق الذي هي فيه، ثم مضت إلى حال سبيلها، وهذا سبب انتقال المحبة من قلبها إلى قلبي. فهنَّأتهما بجمع الشمل، وأخذت الكيس بما فيه، وتوجَّهْتُ إلى بغداد. فانشرح صدر الخليفة، وزال عنه ما كان يجده من الأرق وضيق الصدر.

fig4
وتلذَّذوا وطَرِبوا، ثم ملأ الكأسَ وأشار للجارية البيضاء.

حكاية اليمني والست جوارٍ

ومما يُحكَى أن أمير المؤمنين المأمون جلس يومًا من الأيام في قصره، وأحضر رؤساء دولته وأكابر مملكته جميعًا، وكذلك أحضر الشعراء والندماء بين يديه، وكان من جملة ندمائه نديم يُسمَّى محمدًا البصري، فالتفت إليه المأمون وقال له: يا محمد، أريد منك في هذه الساعة أن تحدِّثني بشيء ما سمعتُه قطُّ. فقال له: يا أمير المؤمنين، أتريد أن أحدِّثك بحديثٍ سمعتُه بأُذُني أو بأمرٍ عاينْتُه ببصري. فقال المأمون: حدِّثني يا محمد بالأغرب منهما. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان في الأيام الماضية رجلٌ من أرباب النِّعَم، وكان موطنه باليمن، ثم إنه ارتحل من اليمن إلى مدينة بغداد هذه، فطاب له مسكنها، فنقل أهله وماله وعياله إليها، وكان له ستُّ جوارٍ كأنهن الأقمار؛ الأولى بيضاء، والثانية سمراء، والثالثة سمينة، والرابعة هزيلة، والخامسة صفراء، والسادسة سوداء. وكُنَّ حسان الوجوه كاملات الأدب، عارفاتٍ بصناعة الغناء وآلات الطرب، فاتفق أنه أحضر هؤلاء الجواري بين يديه يومًا من الأيام وطلب الطعام والمدام، فأكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا، ثم ملأ الكأس وأخذه في يده، وأشار للجارية البيضاء وقال لها: يا وجه الهلال، أسمعينا من لذيذ المقال. فأخذت العود وأصلحته، ورجعت عليه الألحان حتى رقص المكان، ثم أطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:

لِي حَبِيبٌ خَيَالُهُ نُصْبَ عَيْنِي
وَاسْمُهُ فِي جَوَارِحِي مَكْنُونُ
إِنْ تَذَكَّرْتُهُ فَكُلِّي قُلُوبٌ
أَوْ تَأَمَّلْتُهُ فَكُلِّي عُيُونُ
قَالَ لِي عَاذِلِي: أَتَسْلُو هَوَاهُ
قُلْتُ: مَا لَا يَكُونُ كَيْفَ يَكُونُ
قُلْتُ: يَا عَاذِلِي امْضِ عَنِّي وَدَعْنِي
لَا تُهَوِّنْ عَلَيَّ مَا لَا يَهُونُ

فطرب مولاهن وشرب قدحه وسقى الجواري، ثم ملأ الكأس وأخذه في يده وأشار إلى الجارية السمراء، وقال لها: يا نور المقباس وطيبة الأنفاس، أسمعينا صوتك الحسن الذي مَنْ سمعه افتتن. فأخذت العود ورجعت عليه الألحان حتى طرب المكان، وأخذت القلوب باللفتات، وأنشدت هذه الأبيات:

وَحَيَاةِ وَجْهِكَ لَا أُحِبُّ سِوَاكَا
حَتَّى أَمُوتَ وَلَنْ أَخُونَ هَوَاكَا
يَا بَدْرَ تِمٍّ بِالْجَمِيلِ مُبَرْقَعًا
كُلُّ الْمِلَاحِ تَسِيرُ تَحْتَ لِوَاكَا
أَنْتَ الَّذِي فُقْتَ الْمِلَاحَ لَطَافَةً
وَاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَبَاكَا

فطرب مولاهن وشرب كأسه وسقى الجواري، ثم ملأ القدح وأخذه في يده، وأشار إلى الجارية السمينة، وأمرها بالغناء وتقليب الأهواء؛ فأخذت العود وضربت عليه ضربًا يُذهِب الحسرات، وأنشدت هذه الأبيات:

إِنْ صَحَّ مِنْكَ الرِّضَا يَا مَنْ هُوَ الطَّلَبُ
فَلَا أُبَالِي بِكُلِّ النَّاسِ إِنْ غَضِبُوا
وَإِنْ تَبَدَّى مُحَيَّاكَ الْجَمِيلُ فَلَمْ
أَعْبَأْ بِكُلِّ مُلُوكِ الْأَرْضِ إِنْ حُجِبُوا
قَصْدِي رِضَاكَ مِنَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا
يَا مَنْ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْحُسْنِ يَنْتَسِبُ

فطرب مولاهن وأخذ الكأس وسقى الجواري، ثم ملأ الكاس وأخذه في يده، وأشار إلى الجارية الهزيلة وقال: يا حور الجنان، أسمعينا الألفاظ الحسان. فأخذت العود وأصلحته ورجعت عليه الألحان، وأنشدت هذين البيتين:

أَلَا فِي سَبِيلِ اللهِ مَا حَلَّ بِي مِنْكَا
بِصَدِّكَ عَنِّي حَيْثُ لَا صَبْرَ لِي عَنْكَا
أَلَا حَاكِمٌ فِي الْحُبِّ يَحْكُمُ بَيْنَنَا
فَيَأْخُذُ لِي حَقِّي وَيُنْصِفُنِي مِنْكَا

فطرب مولاهن وشرب القدح وسقى الجواري، ثم ملأ القدح وأخذه بيده، وأشار إلى الجارية الصفراء وقال: يا شمس النهار، أَسْمِعينا من لطيف الأشعار. فأخذت العود وضربت عليه أحسن الضربات، وأنشدت هذه الأبيات:

لِي حَبِيبٌ إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ
سَلَّ سَيْفًا عَلَيَّ مِنْ مُقْلَتَيْهِ
أَخَذَ اللهُ بَعْضَ حَقِّيَ مِنْهُ
إِذْ جَفَانِي وَمُهْجَتِي فِي يَدَيْهِ
كُلَّمَا قُلْتُ يَا فُؤَادِيَ دَعْهُ
لَا يَمِيلُ الْفُؤَادُ إِلَّا إِلَيْهِ
هُوَ سُؤْلِي مِنَ الْأَنَامِ وَلَكِنْ
حَسَدَتْنِي عَيْنُ الزَّمَانِ عَلَيْهِ

فطرب مولاهن وشرب وسقى الجواري، ثم ملأ الكأس وأخذه في يده، وأشار إلى الجارية السوداء وقال: يا سوداء العين، أسمعينا ولو كلمتين. فأخذت العود وأصلحته وشدَّت أوتاره، وضربت عليه عدة طرق، ثم رجعت إلى الطريقة الأولى، وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

أَلَا يَا عَيْنُ بِالْعَبَرَاتِ جُودِي
فَوَجْدِي قَدْ عَدِمْتُ بِهِ وُجُودِي
أُكَابِدُ كُلَّ وَجْدٍ مِنْ حَبِيبٍ
أَلِفْتُ بِهِ وَيَشْمَتُ بِي حَسُودِي
وَتَمْنَعُنِي الْعَوَاذِلُ وَرْدَ خَدٍّ
وَلِي قَلْبٌ يَحِنُّ إِلَى الْوُرُودِ
لَقَدْ دَارَتْ هُنَاكَ كُئُوسُ رَاحٍ
بِأَفْرَاحٍ لَدَى ضَرْبٍ وَعُودِ
وَوَافَانِي الْحَبِيبُ فَهِمْتُ فِيهِ
وَأَشْرَقَ بِالْوَفَا نَجْمُ السُّعُودِ
تَصَدَّى لِلصُّدُودِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ
وَهَلْ شَيْءٌ أَمَرُّ مِنَ الصُّدُودِ
وَفِي وَجَنَاتِهِ وَرْدٌ جَنِيٌّ
فَيَا للهِ مِنْ وَرْدِ الْخُدُودِ
فَلَوْ أَنَّ السُّجُودَ يُحَلُّ شَرْعًا
لِغَيْرِ اللهِ كَانَ لَهُ سُجُودِي

ثم بعد ذلك قامت الجواري وقبَّلن الأرض بين يدي مولاهن وقلن له: أنصف بيننا يا سيدي. فنظر مولاهن إلى حسنهن وجمالهن واختلاف ألوانهن؛ فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال لهن: ما منكن إلا وقد قرأت القرآن، وتعلَّمت الألحان، وعرفَتْ أخبارَ المتقدمين، واطَّلعت على سِيَر الأمم الماضين، وقد اشتهيت أن تقوم كل واحدة منكن وتشير بيدها إلى ضرَّتها؛ يعني تشير البيضاء إلى السمراء، والسمينة إلى الهزيلة، والصفراء إلى السوداء، وتمدح كل واحدة منكن نفسها وتذمُّ ضرتها، ثم تقوم ضرتها وتفعل معها مثلها، ولكن يكون ذلك بدليل من القرآن الشريف، وشيء من الأخبار والأشعار؛ لننظر أدبَكُنَّ وحُسْنَ ألفاظكنَّ. فقلن له: سمعًا وطاعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤