فلما كانت الليلة ٣٧٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الورد في الأكمام قالت لدايتها لما أخبرتها بالمنام الذي رأته: هل تكتمين الأسرار يا دايتي؟ فقالت: كيف لا أكتم الأسرار وأنا من خلاصة الأحرار؟ فأخرجَتْ لها الورقة التي كتبت فيها الشعر، وقالت لها: اذهبي برسالتي هذه إلى أُنْس الوجود، وائتيني بجوابه. فأخذتها وتوجَّهت بها إلى أُنْس الوجود، فلما دخلت عليه قبَّلت يديه، وحيَّته بألطف كلام، ثم أعطته القرطاس، فقرأه وفهم معناه، ثم كتب في ظهره هذه الأبيات:

أُعَلِّلُ قَلْبِي فِي الْغَرَامِ وَأَكْتُمُ
وَلَكِنَّ حَالِي عَنْ هَوَايَ يُتَرْجِمُ
وَإِنْ فَاضَ دَمْعِي قُلْتُ جُرْحٌ بِمُقْلَتِي
لِئَلَّا يَرَى حَالِي الْعَذُولُ فَيَفْهَمُ
وَكُنْتُ خَلِيًّا لَسْتُ أَعْرِفُ مَا الْهَوَى
فَأَصْبَحْتُ صَبًّا وَالْفُؤَادُ مُتَيَّمُ
رَفَعْتُ إِلَيْكُمْ قِصَّتِي أَشْتَكِي بِهَا
غَرَامِي وَوَجْدِي كَيْ تَرِقُّوا وَتَرْحَمُوا
وَسَطَّرْتُهَا مِنْ دَمْعِ عَيْنِي لَعَلَّهَا
بِمَا حَلَّ بِي مِنْكُمْ إِلَيْكُمْ تُتَرْجِمُ
رَعَى اللهُ وَجْهًا بِالْجَمَالِ مُبَرْقَعًا
لَهُ الْبَدْرُ عَبْدٌ وَالْكَوَاكِبُ تَخْدُمُ
عَلَى حُسْنِ ذَاتٍ مَا رَأَيْتُ مَثِيلَهَا
وَمِنْ مَيْلِهَا الْأَغْصَانُ عَطْفًا تَعَلَّمُ
وَأَسْأَلُكُمْ مَنْ غَيْرِ حَمْلِ مَشَقَّةٍ
زَيَارَتَنَا إِنَّ الْوِصَالَ مُعَظَّمُ
وَهَبْتُ لَكُمْ رُوحِي عَسَى تَقْبَلُونَهَا
فَلِي الْوَصْلُ خُلْدٌ وَالصُّدُودُ جَهَنَّمُ

ثم طوى الكتاب وقبَّله وأعطاه لها، وقال لها: يا داية، استعطفي خاطر سيدتك. فقالت له: سمعًا وطاعة. ثم أخذت منه المكتوب ورجعت إلى سيدتها، وأعطتها القرطاس، فقبَّلته ورفعته فوق رأسها، ثم فتحته وقرأته وفهمت معناه، وكتبت في أسفله هذه الأبيات:

يَا مَنْ تَوَلَّعَ قَلْبُهُ بِجَمَالِنَا
اصْبِرْ لَعَلَّكَ فِي الْهَوَى تَحْظَى بِنَا
لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ حُبَّكَ صَادِقٌ
وَأَصَابَ قَلْبَكَ مَا أَصَابَ فُؤَادَنَا
زِدْنَاكَ فَوْقَ الْوَصْلِ وَصْلًا مِثْلَهُ
لَكِنَّ مَنْعَ الْوَصْلِ مِنْ حُجَّابِنَا
لَمَّا يُجَنُّ اللَّيْلُ مِنْ فَرْطِ الْهَوَى
تَتَوَقَّدُ النِّيرَانُ فِي أَحْشَائِنَا
وَجَفَتْ مَضَاجِعُنَا الْمَنَامَ وَرُبَّمَا
قَدْ بَرَّحَ التَّبْرِيحُ فِي أَجْسَامِنَا
الْفَرْضُ فِي شَرْعِ الْهَوَى كَتْمُ الْهَوَى
لَا تَرْفَعُوا الْمَسْبُولَ مِنْ أَسْتَارِنَا
وَقَدِ انْحَشَى مِنِّي الْحَشَا بِهَوَى الرَّشَا
يَا لَيْتَهُ مَا غَابَ عَنْ أَوْطَانِنَا

فلما فرغت من شعرها طوت القرطاس وأعطته للداية، فأخذته وخرجت من عند الورد في الأكمام بنت الوزير، فصادفها الحاجب وقال لها: أين تذهبين؟ فقالت: إلى الحمام. وقد انزعجت منه فوقعت منها الورقة حين خرجت من الباب وقت انزعاجها.

هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الورقة، فإن بعض الخدم رآها مرمية في الطريق فأخذها، ثم إن الوزير خرج من باب الحريم وجلس على سريره، فقصده الخادم الذي التقط الورقة، فبينما الوزير جالس على سريره وإذا بذلك الخادم تقدَّم إليه وفي يده الورقة، وقال له: يا مولاي، إني وجدت هذه الورقة مرمية في الدار فأخذتها. فتناولها الوزير من يده وهي مطوية ففتحها، فرأى مكتوبًا فيها الأشعار التي تقدَّمَ ذِكْرها، فقرأها وفهم معناها، ثم تأمل كتابتها فرآها بخط ابنته، فدخل على أمها وهو يبكي بكاءً شديدًا حتى ابتلَّت لحيته، فقالت له زوجته: ما أبكاك يا مولاي؟ فقال لها: خذي هذه الورقة، وانظري ما فيها. فأخذت الورقة وقرأتها، فوجدتها مشتملة على مراسلة من بنتها الورد في الأكمام إلى أنس الوجود؛ فجاءها البكاء لكنَّها غلبت على نفسها وكفكفت دموعها، وقالت للوزير: يا مولاي، إن البكاء لا فائدة فيه، وإنما الرأي الصواب أن نتبصَّر في أمرٍ يكون فيه صون عرضك، وكتمان أمر بنتك. وصارت تسلِّيه وتخفف عنه الأحزان، فقال لها: إني خائف على ابنتي من العشق؛ أَمَا تعلمين أن السلطان يحب أنس الوجود محبة عظيمة؟ ولخوفي من هذا الأمر سببان؛ الأول من جهتي، وهو أنها ابنتي، والثاني من جهة السلطان، وهو أن أنس الوجود محظي عند السلطان، وربما يحدث من هذا أمر عظيم، فما رأيك في ذلك؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤