فلما كانت الليلة ٣٧٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المركب لما وصلت بالصياد والورد في الأكمام إلى مدينة على شاطئ البحر، أراد الصياد أن يرسي مركبه على تلك المدينة، وكان فيها ملك عظيم السطوة يقال له درباس، وكان في ذلك الوقت جالسًا هو وابنه في قصر مملكته، وصارا ينظران من شباك القصر فالتفتا إلى جهة البحر فرأيا تلك المركب، فتأمَّلاها فوجدا فيها صبية كأنها البدر في أفق السماء، وفي أذنيها حلق من البلخش النفيس، وفي عنقها عقد من الجوهر النفيس، فعرف الملك أنها من بنات الأكابر والملوك، فنزل الملك من قصره وخرج من باب القيطون، فرأى المركب قد رست على الشاطئ، وكانت البنت نائمة، والصياد مشغولًا بربط المركب، فأيقظها الملك من منامها فاستيقظت وهي تبكي، فقال لها الملك: من أين أنتِ؟ وابنة مَن أنتِ؟ وما سبب مجيئكِ هنا؟ فقالت له الورد في الأكمام: أنا ابنة إبراهيم، وزير الملك شامخ، وسبب مجيئي هنا أمر عجيب وشأن غريب. وحكت له جميع قصتها من أولها إلى آخرها، ولم تُخْفِ عنه شيئًا، ثم صعَّدت الزفرات، وأنشدت هذه الأبيات:

fig9
الْتَفتَ الملِك إلى البحر، فرأى المركبَ وفيها صَبِيةٌ كأنها البدر في أُفق السماء.
قَدْ قَرَّحَ الدَّمْعُ جَفْنِي فَاقْتَضَى عَجَبَا
مِنَ التَّكَدُّرِ لَمَّا فَاضَ وَانْسَكَبَا
مِنْ أَجْلِ خِلٍّ ثَوَى فِي مُهْجَتِي أَبَدًا
وَلَمْ أَنَلْ فِي الْهَوَى مِنْ وَصْلِهِ أَرَبَا
لَهُ مُحَيَّا جَمِيلٌ بَاهِرٌ نَضِرٌ
وَفِي الْمَلَاحَةِ فَاقَ التُّرْكَ وَالْعَرَبَا
وَالشَّمْسُ وَالْبَدْرُ قَدْ مَالَا لِطَلْعَتِهِ
كَالصَّبِّ وَالْتَزَمَا فِي حُبِّهِ الْأَدَبَا
وَطَرْفُهُ بِعَجِيبِ السِّحْرِ مُكْتَحِلٌ
يُرِيكَ قَوْسًا لِرَمْيِ السَّهْمِ مُنْتَصِبَا
يَا مَنْ لَهُ حَالَتِي كَمْ جِئْتُ مُعْتَذِرًا
ارْحَمْ مُحِبًّا بِهِ صَرْفُ الْهَوَى لَعِبَا
إِنَّ الْهَوَى قَدْ رَمَانِي فِي وَسْطِ سَاحَتِكُمْ
ضَعِيفَ عَزْمٍ وَمِنْكُمْ أَرْتَجِي حَسَبَا
إِنَّ الْكِرَامَ إِذَا مَا حَلَّ سَاحَتَهُمْ
مُسْتَحْسِبٌ فَحَمَاهُمْ يَرْفَعُ الْحَسَبَا
فَاسْتُرْ فَضَائِحَ أَهْلِ الْعِشْقِ يَا أَمَلِي
وَكُنْ لِوَصْلَتِهِمْ يَا سَيِّدِي سَبَبَا

فلما فرغَتْ من شعرها حكت للملك قصَّتها من أولها إلى آخِرها، ثم أفاضت العَبَرات وأنشدت هذه الأبيات:

عِشْنَا إِلَى أَنْ رَأَيْنَا فِي الْهَوَى عَجَبَا
كُلُّ الشُّهُورِ وَفِي الْأَمْثَالِ عِشْ رَجَبَا
أَلَيْسَ مِنْ عَجَبٍ أَنِّي ضُحَى ارْتَحَلُوا
أَوْقَدْتُ مِنْ مَاءِ دَمْعِي فِي الْحَشَا لَهَبَا
وَإِنَّ أَجْفَانَ عَيْنِي أَمْطَرَتْ وَرَقًا
وَإِنَّ سَاحَةَ خَدِّي أَنْبَتَتْ ذَهَبَا
كَأَنَّ مَا انْعَقَّ عَنْهُ مِنْ مُعَصْفَرِهِ
قَمِيصُ يُوسُفَ غَشَّوْهُ دَمًا كَذِبَا

فلما سمع الملك كلامها تحقَّقَ وَجْدَها وغرامَها، فأخذته الشفقة عليها وقال لها: لا خوف عليك ولا فزع، قد وصلتِ إلى مرادكِ، فلا بدَّ أن أبلغك ما تريدين، وأوصل إليك ما تطلبين، فاسمعي مني هذه الكلمات. ثم أنشد هذه الأبيات:

بِنْتَ الْكِرَامِ بَلَغْتِ الْقَصْدَ وَالْأَرَبَا
لَكِ الْبِشَارَاتُ لَا تَخْشَيْ هُنَا نَصَبَا
الْيَوْمَ أَجْمَعُ أَمْوَالًا وَأُرْسِلُهَا
لِشَامِخٍ صَحِبَ الْفُرْسَانَ وَالنُّجُبَا
نَوَافِحَ الْمِسْكِ وَالدِّيبَاجِ أُرْسِلُهَا
وَأُرْسِلُ الْفِضَّةَ الْبَيْضَاءَ وَالذَّهَبَا
نَعَمْ وَتُخْبِرُهُ عَنِّي مُكَاتَبَتِي
أَنِّي مُرِيدٌ لَهُ صِهْرًا وَمُنْتَسِبَا
وَأَبْذُلُ الْيَوْمَ جَهْدِي فِي مُعَاوَنَةٍ
حَتَّى يَكُونَ الَّذِي تَهْوِينَ مُقْتَرِبَا
قَدْ ذُقْتُ طَعْمَ الْهَوَى دَهْرًا وَأَعْرِفُهُ
وَأَعْذُرُ الْيَوْمَ مَنْ كَأْسَ الْهَوَى شَرِبَا

فلما فرغ من شعره خرج إلى عسكره ودعا بوزيره، وحزم له مالًا لا يُحصَى، وأمره أن يذهب بذلك إلى الملك شامخ، وقال له: لا بد أن تأتيني بشخص عنده اسمه أنس الوجود، وقل له: إنه يريد مصاهرتك بأن يزوِّج ابنته لأنس الوجود تابعك، فلا بد من إرساله معي حتى نعقد عقده عليها في مملكة أبيها. ثم إن الملك درباس كتب مكتوبًا للملك شامخ بمضمون ذلك وأعطاه لوزيره، وأكَّد عليه في الإتيان بأنس الوجود، وقال له: إن لم تأتِني به تكون معزولًا عن مرتبتك. فقال له: سمعًا وطاعة. ثم توجَّه بالهدية إلى الملك شامخ، فلما وصل إليه بلَّغه السلام عن الملك درباس، وأعطاه المكاتبة والهدية التي معه، فلما رآها الملك شامخ وقرأ المكاتبة ونظر اسم أنس الوجود، بكى بكاءً شديدًا، وقال للوزير المرسل إليه: وأين أنس الوجود؟ فإنه ذهب ولا نعلم مكانه، فَأْتِني به وأنا أعطيك أضعاف ما جئتَ به من الهدية. ثم بكى وأنَّ واشتكى، وأفاض العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

رُدُّوا عَلَيَّ حَبِيبِي
لَا حَاجَةَ لِي بِمَالِ
وَلَا أُرِيدُ هَدَايَا
مِنْ جَوْهَرٍ وَلَآلِي
قَدْ كَانَ عِنْدِي بَدْرًا
سَمَا بِأُفْقِ جَمَالِ
وَفَاقَ حِسًّا وَمَعْنًى
وَلَمْ يُقَسْ بِغَزَالِ
وَقَدُّهُ غُصْنُ بَانٍ
أَثْمَارُهُ مِنْ دَلَالِ
وَلَيْسَ فِي الْغُصْنِ طَبْعٌ
يُسْبِي عُقُولَ الرِّجَالِ
رَبَّيْتُهُ وَهْوَ طِفْلٌ
عَلَى مِهَادِ الدَّلَالِ
وَإِنَّنِي لِحَزِينٌ
عَلَيْهِ مَشْغُولُ بَالِي

ثم التفت إلى الوزير الذي جاء بالهدية والرسالة وقال له: اذهب إلى سيدك، وأخبره أن أنس الوجود مضى له عام وهو غائب، وسيده لم يَدْرِ أين ذهب، ولا يعرف له خبرًا. فقال له الوزير: يا مولاي، إن سيدي قال لي: إن لم تأتني به تكن معزولًا عن الوزارة، ولا تدخل مدينتي. فكيف أذهب إليه بغيره؟ فقال الملك شامخ لوزيره إبراهيم: اذهب معه صحبة جماعة، وفتِّشوا على أنس الوجود في سائر الأماكن. فقال له: سمعًا وطاعة. ثم أخذ جماعة من أتباعه، واستصحب وزير الملك درباس، وساروا في طلب أنس الوجود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤