فلما كانت الليلة ٣٨٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن وزير الملك درباس أخذ أنس الوجود معه وهو مغشيٌّ عليه، وسار به ثلاثة أيام وهو في غشيته محمول على البغال، ولا يدري هل هو محمول أو لا، فلما أفاق من غشيته قال: في أي مكان أنا؟ فقالوا له: أنت صحبة وزير الملك درباس. ثم ذهبوا إلى الوزير وأخبروه أنه قد أفاق، فأرسل إليه ماء الورد والسكر، فسقوه وأنعشوه، ولم يزالوا مسافرين حتى قربوا من مدينة الملك درباس، فأرسل الملك إلى الوزير يقول له: إن لم يكن أنس الوجود معك فلا تأتني أبدًا. فلما قرأ مرسوم الملك عسر عليه ذلك، وكان الوزير لا يعلم أن الورد في الأكمام عند الملك، ولا يعلم ما سبب إرسال الملك إياه إلى أنس الوجود، ولا يعلم ما سبب رغبته في مصاهرته، وأنس الوجود لا يعلم أين يذهبون به، ولا يعلم أن الوزير مرسل في طلبه، والوزير لا يعلم أن هذا هو أنس الوجود. فلما رأى الوزير أن أنس الوجود قد استفاق قال له: إن الملك أرسلني في حاجة، وهي لم تُقضَ، ولما علم بقدومي أرسل إليَّ مكتوبًا يقول لي فيه: إن لم تكن الحاجة قد قُضِيت فلا تدخل مدينتي. فقال له: وما حاجة الملك؟ فحكى له جميع الحكاية، فقال له أنس الوجود: لا تَخَفْ، واذهب إلى الملك وخذني معك، وأنا أضمن لك مجيء أنس الوجود. ففرح الوزير بذلك وقال له: أحقٌّ ما تقول؟ فقال: نعم. فركب وأخذه معه وسار به إلى الملك، فلما وصلَا إلى الملك قال له: أين أنس الوجود؟ فقال أنس الوجود: أيها الملك، أنا أعرف مكان أنس الوجود. فقرَّبه إليه وقال له: في أي مكان هو؟ قال: في مكان قريب جدًّا، ولكن أخبِرْني ماذا تريد منه، وأنا أُحضِره بين يديك. فقال له: حبًّا وكرامة، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى خلوة. ثم أمر الناس بالانصراف، ودخل معه خلوة، وأخبره الملك بالقصة من أولها إلى آخِرها، فقال له أنس الوجود: ائتني بثياب فاخرة وألبسني إياها، وأنا آتيك بأنس الوجود سريعًا. فأتاه ببدلة فاخرة فلبسها وقال: أنا أنس الوجود، وكمد الحسود. ثم رمى القلوب باللحظات، وأنشد هذه الأبيات:

يُؤَانِسُنِي ذِكْرُ الْحَبِيبِ بِخَلْوَتِي
وَيَطْرُدُ عَنِّي فِي التَّبَاعُدِ وَحْشَتِي
وَمَا لِيَ غَيْرُ الدَّمْعِ عَوْنٌ وَإِنَّمَا
إِذَا فَاضَ مِنْ عَيْنِي يُخَفِّفُ زَفْرَتِي
وَشَوْقِي شَدِيدٌ لَيْسَ يُوجَدُ مِثْلُهُ
وَأَمْرِي عَجِيبٌ فِي الْهَوَى وَالْمَحَبَّةِ
فَأَقْطَعُ لَيْلِي سَاهِرَ الْجَفْنِ لَمْ أَنَمْ
وَفِي الْعِشْقِ أَسْعَى بَيْنَ نَارٍ وَجَنَّةِ
وَقَدْ كَانَ لِي صَبْرٌ جَمِيلٌ عَدِمْتُهُ
وَمَا مِنْحَتِي فِي الْحُبِّ إِلَّا بِمِحْنَتِي
وَقَدْ رَقَّ جِسْمِي مِنْ أَلِيمِ بِعَادِهِمْ
وَغَيَّرَتِ الْأَشْوَاقُ وَصْفِي وَصُورَتِي
وَأَجْفَانُ عَيْنِي بِالدُّمُوعِ تَقَرَّحَتْ
وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُسْكِتَ الْآنَ دَمْعَتِي
وَقَدْ قَلَّ حَيْلِي وَالْفُؤَادُ عَدِمْتُهُ
وَكَمْ ذَا أُلَاقِي لَوْعَةً بَعْدَ لَوْعَةِ
وَقَلْبِي وَرَأْسِي فِي الْمَشِيبِ تَشَابَهَا
عَلَى سَادَةٍ فِي الْحُسْنِ أَحْسَنَ سَادَةِ
عَلَى رُغْمِهِمْ كَانَ التَّفَرُّقِ بَيْنَنَا
وَمَا قَصْدُهُمْ إِلَّا لِقَائِي وَوَصْلَتِي
فَيَا هَلْ تُرَى بَعْدَ التَّقَاطُعِ وَالنَّوَى
يُمَتِّعُنِي دَهْرِي بِوَصْلِ أَحِبَّتِي
وَيَطْوِي كِتَابَ الْبُعْدِ مِنْ بَعْدِ نَشْرِهِ
وَتُمْحَى بِرَاحَاتِ الْوِصَالِ مَشَقَّتِي
وَيَبْقَى حَبِيبِي فِي الدِّيَارِ مُنَادِمِي
وَتُبْدَلُ أَحْزَانٌ بِصَفْوِ سَرِيرَتِي

فلما فرغ من شعره، قال له الملك: والله إنكما لمحبَّان صادقان، وفي سماء الحسن كوكبان نيِّران، وأمركما عجيب، وشأنكما غريب. ثم حكى له حكاية الورد في الأكمام إلى آخرها، فقال له: وأين هي يا ملك الزمان؟ قال: هي عندي الآن. ثم أحضر الملك القاضي والشهود وعقد عقدها عليه، وأكرمه وأحسن إليه، ثم أرسل الملك درباس إلى الملك شامخ، وأخبره بجميع ما اتفق له من أمر أنس الوجود والورد في الأكمام؛ ففرح الملك شامخ بذلك غاية الفرح، وأرسل إليه مكتوبًا مضمونه: «حيث حصل عقد العقد عندك، ينبغي أن يكون الفرح والدخول عندي.» ثم جهَّزَ الجمال والخيل والرجال، وأرسل في طلبهما، فلما وصلت الرسالة إلى الملك درباس مدَّهما بمال عظيم، وأرسلهما مع جملة من عسكره، فساروا بهما حتى دخلوا مدينتهما، وكان يومًا مشهودًا لم يُرَ أعظم منه، وجمع الملك شامخ سائر المطربات من آلات المغاني، وعمل الولائم، ومكثوا على ذلك سبعة أيام، وفي كل يوم يخلع الملك شامخ على الناس الخِلَع السنية ويُحسِن إليهم. ثم إن أنس الوجود دخل على الورد في الأكمام فعانَقَها، وجلسَا يبكيان من فرط الفرح والمسرَّات؛ فأنشدت الورد في الأكمام هذه الأبيات:

جَاءَ السُّرُورُ أَزَالَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَا
ثُمَّ اجْتَمَعْنَا وَأَكْمَدْنَا حَوَاسِدَنَا
وَنَسْمَةُ الْوَصْلِ قَدْ هَبَّتْ مُعَطَّرَةً
فَأَحْيَتِ الْقَلْبَ وَالْأَحْشَاءَ وَالْبَدَنَا
وَبَهْجَةُ الْأُنْسِ قَدْ لَاحَتْ خَوَالِفُهَا
وَفِي الْخَوَافِقِ قَدْ دَقَّتْ بَشَائِرَنَا
لَا تَحْسَبُوا أَنَّنَا بَاكُونَ مِنْ حَزَنٍ
لَكِنْ فَرِحْنَا وَقَدْ فَاضَتْ مَدَامِعُنَا
فَكَمْ رَأَيْنَا مِنَ الْأَهْوَالِ وَانْصَرَفَتْ
وَقَدْ صَبَرْنَا عَلَى مَا هَيَّجَ الشَّجَنَا
فَسَاعَةٌ مِنْ وِصَالٍ قَدْ نَسِينَا بِهَا
مَا كَانَ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ شَيَّبَنَا

فلما فرغت من شعرها تعانقا، ولم يزالا متعانقين حتى وقعا مغشيًّا عليهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤