فلما كانت الليلة ٣٨٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا نواس لما خدع الغلمان بأبياته، مالوا إلى مرضاته وأجابوه بالسمع والطاعة، وذهبوا معه إلى منزله، فوجدوا جميع ما وصفه في شعره حاضرًا في المجلس، فجلسوا وأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا وتحاكموا عند أبي نواس في أيهم أحسن بهجةً وجمالًا، وأقوم قدًّا واعتدالًا. فأشار إلى أحدهم بعد تقبيله مرتين، ثم أنشد هذين البيتين:

بِرُوحِيَ أَفْدِي خَالَهُ فَوْقَ خَدِّهِ
وَمِنْ أَيْنَ هَذَا الْخَالُ أَفْدِيهِ بِالْمَالِ
تَبَارَكَ مَنْ أَخْلَى مِنَ الشَّعْرِ خَدَّهُ
وَأَسْكَنَ كُلَّ الْحُسْنِ فِي ذَلِكَ الْخَالِ

ثم أشار إلى الثاني بعد لثم الشفتين، وأنشد هذين البيتين:

وَمَعْشُوقٍ لَهُ فِي الْخَدِّ خَالٌ
كَمِسْكٍ فَوْقَ كَافُورٍ نَقِيِّ
تَعَجَّبَ نَاظِرِي لَمَّا رَآهُ
فَقَالَ الْخَالُ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ

ثم أشار إلى الثالث بعد تقبيله عشر مرات، وأنشد هذه الأبيات:

أَذَابَ التِّبْرَ فِي كَأْسِ اللُّجَيْنِ
فَتًى بِالرَّاحِ مَخْضُوبُ الْيَدَيْنِ
وَطَافَ مَعَ السُّقَاةِ بِكَأْسِ رَاحٍ
وَطَافَتْ مُقْلَتَاهُ بِآخَرَيْنِ
مَلِيحٌ مِنْ بَنِي الْأَتْرَاكِ ظَبْيٌ
يُجَاذِبُ خَصْرُهُ جَبَلَيْ حُنَيْنِ
لَئِنْ سَكَنَتْ إِلَى الزَّوْرَاءِ نَفْسِي
فَإِنَّ الْقَلْبَ بَيْنَ مُحَرَّكَيْنِ
هُوَ يَقْتَادُهُ لِدِيَارِ بَكْرٍ
وَآخَرُ نَحْوَ أَرْضِ الْجَامِعَيْنِ

وكان كل واحد من الغلمان قد شرب قدحين، فلما وصل الدور إلى أبي نواس أخذ القدح وأنشد هذين البيتين:

لَا تَشْرَبِ الرَّاحَ إِلَّا مِنْ يَدَيْ رَشَأٍ
تَحْكِيهِ فِي رِقَّةِ الْمَعْنَى وَيَحْكِيهَا
إِنَّ الْمُدَامَةَ لَا يَلْتَذُّ شَارِبُهَا
حَتَّى يَكُونَ نَقِيَّ الْخَدِّ سَاقِيهَا

ثم شرب كأسه ودار الدور، فلما وصل الدور إلى أبي نواس ثانيًا، غلبت عليه المسرات فأنشد هذه الأبيات:

اجْعَلْ نَدِيمَكَ أَقْدَاحًا تُوَاصِلُهَا
مِنَ الْمُدَامِ وَأَتْبِعْهَا بِأَقْدَاحِ
مِنْ كَفِّ أَلْمَى بَدِيعِ الْحُسْنِ رِيقَتُهُ
بَعْدَ الْهُجُوعِ كَمِسْكٍ أَوْ كَتُفَّاحِ
لَا تَشْرَبِ الرَّاحَ إِلَّا مِنْ يَدَيْ رَشَأٍ
تَقْبِيلُ وَجْنَتِهِ أَشْهَى مِنَ الرَّاحِ

فلما غلب السكر على أبي نواس ولم يعرف له يدًا من رأس، مال على الغلمان بالبوس والعناق والتفاف الساق على الساق، ولم يبالِ بإثم ولا عار، وأنشد هذه الأشعار:

مَا اسْتَكْمَلَ اللَّذَاتِ إِلَّا فَتًى
يَشْرَبُ وَالْمُرْدُ نَدَامَاهُ
هَذَا يُغَنِّيهِ وَهَذَا إِذَا
أَنْعَشَهُ بِالْكَأْسِ حَيَّاهُ
وَكُلَّمَا احْتَاجَ إِلَى قُبْلَةٍ
مِنْ وَاحِدٍ أَرْشَفَهُ فَاهُ
سَقْيًا لَهُمْ قَدْ طَابَ يَوْمِي بِهِمْ
وَا عَجَبَا مَا كَانَ أَحْلَاهُ
نَشْرَبُهَا صِرْفًا وَمَمْزُوجَةً
وَشَرْطُنَا مَنْ نَامَ نِكْنَاهُ

فبينما هم كذلك وإذا بطارق يطرق الباب، فأذنوا له في الدخول، فلما دخل وجدوه أمير المؤمنين هارون الرشيد، فقام له الجميع وقبلوا الأرض بين يديه، واستفاق أبو نواس من سكره لهيبة الخليفة، فقال له أمير المؤمنين: يا أبا نواس. فقال: لبيك يا أمير المؤمنين أيَّدَكَ الله. قال له: ما هذا الحال؟ قال: يا أمير المؤمنين، لا شكَّ أن الحال يُغنِي عن السؤال. فقال له الخليفة: يا أبا نواس، قد استخرتُ الله تعالى ووليتك قاضي المعرصين. فقال أبو نواس: وهل تحب لي هذه الولاية يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك من دعوة تدعيها عندي؟ فاغتاظ منه أمير المؤمنين ثم ولَّى وتركهم وهو ممزوج بالغضب، فلما جنَّ الليل بات أمير المؤمنين في غيظ شديد من أبي نواس، وبات أبو نواس في أسر الليالي بما هو فيه من البسط والانشراح، فلما أصبح الصباح وأضاء كوكبه ولاح، فضَّ أبو نواس المجلس وصرف الغلمان، ولبسَ لبْسَ الموكب وخرج من بيته متوجِّهًا إلى أمير المؤمنين، وكان من عادة أمير المؤمنين أنه إذا فضَّ الديوان يدخل قاعة الجلوس، ثم يحضر فيها الشعراء والندماء وأرباب الآلات، ويجلس كل منهم في مرتبته لا يتعداها، فأتفق أن كان في ذلك اليوم نزل من الديوان إلى القاعة وأحضر ندماءه وأجلسهم في مراتبهم، فلما جاء أبو نواس وأراد أن يجلس في موضعه، دعا أمير المؤمنين بمسرور السياف وأمره أن ينزع عن أبي نواس ثيابه، ويشد على ظهره برذعة حمار، ويجعل في رأسه مقودًا وفي دبره طفرًا، ويدور به على مقاصير الجواري. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤