فلما كانت الليلة ٣٨٤

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل لزم الوساد وجفا الرقاد، وظهر للناس أمره واشتهر بالعشق ذِكْرُه، وازداد سقمه وعَظُمَ ألمه حتى كاد أن يموت، ولم يزل أهله وأهلها يسألونها أن تزوره وهي تأبى، إلى أن أشرف على الموت فأخبروها بذلك، فرَقَّتْ له وأنعمت عليه بالزيارة، فلما نظرها تحدَّرَتْ عيناه بالدموع، وأنشد عن قلب مصدوع:

بِعَيْشِكِ إِنْ مَرَّتْ عَلَيْكِ جَنَازَتِي
وَقَدْ رُفِعَتْ مِنْ فَوْقِ أَعْنَاقِ أَرْبَعِ
أَمَا تَتْبَعِينَ النَّعْشَ حَتَّى تُسَلِّمِي
عَلَى قَبْرِ مَيْتٍ فِي الْحَفِيرَةِ مُودَعِ

فلما سمعت كلامه بكت بكاء شديدًا وقالت له: والله ما كنت أظن أنه بلغ بك الغرام إلى أن يلقيك بين أيدي الحمام، ولو علمتُ بذلك لساعدتك على حالك وتمتَّعْتُ بوصالك. فلما سمع كلامها، صارت دموعه كالسحاب الماطر، وأنشد قول الشاعر:

دَنَتْ حِينَ حَالَ الْمَوْتُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا
وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ

ثم شهق شهقة فمات، فوقعت عليه تلثمه وتبكي، ولم تزل تبكي حتى وقعت عنده مغشيًّا عليها، فلما أفاقت أوصت أهلها أنهم يدفنونها في قبره إذا ماتت، ثم أَجْرَتْ دمعَ العين وأنشدت هذين البيتين:

كُنَّا عَلَى ظَهْرِهَا وَالْعَيْشُ فِي رَغَدٍ
وَالْحَيُّ يَزْهُو بِنَا وَالدَّارُ وَالْوَطَنُ
فَفَرَّقَ الدَّهْرُ وَالتَّصْرِيفُ أُلْفَتَنَا
وَصَارَ يَجْمَعُنَا فِي بَطْنِهَا الْكَفَنُ

فلما فرغت من شعرها بكت بكاءً شديدًا، ولم تزل تبكي حتى وقعت مغشيًّا عليها، واستمرت في غشيتها ثلاثة أيام، وماتت ودُفِنت في قبره، وهذا من عجيب الاتفاق في المحبة.

حكاية بدر الدين وزير اليمن والشيخ

ومما يُحكَى أن الصاحب بدر الدين وزير اليمن كان له أخ بديع الجمال، وكان شديد الحرص عليه، فالتمس له مَن يعلِّمه فوجد شيخًا ذا هيبة ووقار وعفة وديانة، فأسكنه بمنزل بجانب منزله وأقام على ذلك مدة أيام، وهو كل يوم يذهب من بيته إلى بيت الصاحب بدر الدين ليعلم أخاه ثم ينصرف إلى منزله، ثم إن الشيخ تعلق قلبه بحب ذلك الشاب وقوي به غرامه وهاجت بلابله، فشكا حاله يومًا إلى الشاب، فقال له الشاب: ما حيلتي وأنا لا أستطيع مفارقة أخي ليلًا ونهارًا، فهو ملازم لي كما ترى. فقال له الشيخ: إن منزلي بجانب منزلكم، فيمكن إذا نام أخوك أن تقوم أنت تدخل الخلوة وتظهر للناس أنك تنام، ثم تأتي إلى حائط السطح وأنا أتناولك من وراء الجدار، فتجلس عندي لحظة ثم تعود من غير أن يشعر بك أخوك. فقال الشاب: سمعًا وطاعة. فجهَّزَ الشيخ من التحف ما يليق بمقامه.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الشاب، فإنه دخل الخلوة وصبر حتى أخذ أخوه في مضجعه، ومضت ساعة من الليل حتى استغرق أخوه في النوم، ثم قام وتمشى إلى الحائط فوجد الشيخ واقفًا ينتظره، فناوله يده فأخذه ودخل به المجلس، وكانت تلك الليلة ليلة البدر، فجلسا وتنادما ودارت بينهما كاسات الراح، فأخذ الشيخ في الغناء وقد ألقى البدر شعاعه عليهما. فبينما هما في فرح وسرور، ولذة وحبور، وحظ يدهش العقل والطرف ويجل عن الوصف، إذ انتبه الصاحب بدر الدين من منامه فلم يجد أخاه، فقام فزعًا فوجد الباب مفتوحًا، فطلع منه فسمع همس الكلام، فصعد من الحائط إلى السطح فوجد نورًا ساطعًا بالبيت، فنظر من خلف جدار فوجدهما والكأس دائر بينهما، فحسَّ به الشيخ والكأس في يده، فأطرب بالنغمات وأنشد هذه الأبيات:

سَقَانِي خَمْرَةً مِنْ رِيقِ فِيهِ
وَحَيَّا بِالْعَذَارِ وَمَا يَلِيهِ
وَبَاتَ مُعَانِقِي خَدًّا لِخَدٍّ
مَلِيحٌ فِي الْأَنَامِ بِلَا شَبِيهِ
وَبَاتَ الْبَدْرُ مُطَّلِعًا عَلَيْنَا
سَلُوهُ لَا يَنِمُّ عَلَى أَخِيهِ

فكان من لطافة الصاحب بدر الدين أنه لم سمع هذه الأبيات قال: والله لا أنمُّ عليكما. ومضى وتركهما في أتمِّ سرور.

حكاية العاشقين في مكتب التعليم

ومما يُحكَى أن غلامًا وجارية كانَا يقرآن في مكتب، فتعلَّقَ الغلام بحب الجارية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤