فلما كانت الليلة ٤٠٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: لما حَمِي النهار وقفت في شارع يُعرَف بالحرم لأستظل من حرِّ الشمس، وكان للدار جناح رحب بارز على الطريق، فلم ألبث حتى جاء خادم أسود يقود حمارًا، فرأيت عليه جارية راكبة، وتحتها منديل مكلَّل بالجواهر، وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده، ورأيت لها قوامًا حسنًا، وطرفًا فاترًا، وشمائل ظريفة، فسألت عنها بعضَ المارين فقال لي: إنها مغنية. وقد تعلَّقَ بحبِّها قلبي عند نظري إليها، وما قدرتُ أن أستقرَّ على ظهر دابتي، ثم إنها دخلت الدار التي كنت واقفًا على بابها، فجعلتُ أتفكَّر في حيلة أتوصَّل بها إليها. فبينما أنا واقف إذ أقبل رجلان شابَّان جميلان فاستأذنا فأَذِن لهما صاحب الدار، فنزلا ونزلت معهما، ودخلت صحبتهما، فظنَّا أن صاحب الدار دعاني، فجلسنا ساعةً فأتى بالطعام فأكلنا، ثم وضع الشراب بين أيدينا، ثم خرجت الجارية وفي يدها عود فغنَّت وشربنا، وقمت لأقضي حاجة، فسأل صاحب المنزل الرجلين عنِّي فأخبراه أنهما لا يعرفاني، فقال: هذا طفيليٌّ، ولكنه ظريف فأجملوا عشرته. ثم جئتُ فجلستُ في مكاني، فغنَّت الجارية بلحن لطيف، وأنشدت هذين البيتين:

قُلْ لِلْغَزَالَةِ وَهْيَ غَيْرُ غَزَالَةٍ
وَالْجُؤْذُرُ الْمَكْحُولُ غَيْرُ الْجُؤْذُرِ
لِمُذَكَّرِ الْخَلَوَاتِ غَيْرِ مُؤَنَّثٍ
وَمُؤَنَّثِ الْخَطَوَاتِ غَيْرِ مُذَكَّرِ

فأدته أداءً حسنًا، وشرب القوم وأعجبهم ذلك. ثم غنَّتْ طُرقًا شتَّى بألحان غريبة، وغنَّت من جملتها طريقة هي لي، وأنشدت هذين البيتين:

الطُّلُولُ الدَّوَارِسُ
فَارَقَتْهَا الْأَوَانِسُ
أَوْحَشَتْ بَعْدَ أُنْسِهَا
فَهْيَ قَفْرَاءُ طَامِسُ

فكان أمرها أصلح فيها من الأولى. ثم غنت طُرقًا شتَّى بألحان غريبة من القديم والحديث، وغنَّت في أثنائها طريقة هي لي بهذين البيتين:

قُلْ لِمَنْ صَدَّ عَاتِبَا
وَنَأَى عَنْكَ جَانِبَا
قَدْ بَلَغْتَ الَّذِي بَلَغْـ
ـتَ وَإِنْ كُنْتَ لَاعِبَا

فاستعدْتُهُ منها لأصحِّحه لها، فأقبَلَ عليَّ أحدُ الرجلين وقال: ما رأينا طفيليًّا أصفق وجهًا منك، أَمَا ترضى بالتطفُّل حتى اقترحتَ؟ وقد صحَّ فيك المثل: طفيلي ومقترح. فأطرقْتُ حياءً ولم أُجِبْه، فجعل صاحبه يكفُّه عني فلا ينكف، ثم قاموا إلى الصلاة فتأخرتُ قليلًا، وأخذتُ العود وشددتُ طرفَيْه وأصلحته إصلاحًا محكمًا، وعدت إلى موضعي فصليَّتُ معهم، ولما فرغنا من الصلاة رجع ذلك الرجل إلى اللوم عليَّ والتعنيف، ولجَّ في عربدته وأنا صامت؛ فأخذَتِ الجاريةُ العودَ وجسَّته فأنكرت حاله وقالت: مَن جسَّ عودي؟ فقالوا: ما جسَّه أحدٌ منا. قالت: بلى والله لقد جسَّه حاذِقٌ متقدِّم في الصناعة؛ لأنه أحكَمَ أوتارَه، وأصلحه إصلاحَ حاذقٍ في صنعته. فقلتُ لها: أنا الذي أصلحتُه. فقالت: بالله عليك أن تأخذه وتضرب عليه. فأخذته وضربت عليه طريقة عجيبة صعبة، تكاد أن تُمِيتَ الأحياءَ وتُحْيِيَ الأموات، وأنشدت عليه هذه الأبيات:

وَكَانَ لِي قَلْبٌ أَعِيشُ بِهِ
فَاكْتَوَى بِالنَّارِ وَاحْتَرَقَ
أَنَا لَمْ أُرْزَقْ مَحَبَّتَهَا
إِنَّمَا لِلْعَبْدِ مَا رُزِقَ
إِنْ يَكُنْ مَا ذُقْتُ طَعْمَ هَوًى
ذَاقَهُ لَا شَكَّ مَنْ عَشِقَ

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤