اللقاء المثير!

حين وخزَت الساعةُ رسغَ «أحمد»، كان يقف مع «عثمان» محاولًا تفسيرَ ما يجري … وعندما نظر إلى الشاشة عرَف أن الذي يطلبه هو رقم «صفر» … فقام بضغطِ زرٍّ أسفل الشاشة، وتلقَّى الاتصال قائلًا: «العزيزي» في مصر أم في هونج كونج يا زعيم؟

رقم «صفر»: أرجوكم العودة إلى المقر السري والاستعداد لعقد اجتماع عاجل.

أخبر «أحمد» كلًّا من «ريما» و«عثمان» بما طلبه منهم رقم «صفر»، واستداروا ثلاثتُهم ليسيروا في اتجاه أحدِ منافذِ الخروج من صالة السفر … ومنه توجَّهوا إلى حيث تقف اللاندكروز، وما إن رَكِبوها وأغلقَت أبوابها … حتى انطلق بها «أحمد» مغادرًا أرضَ المطار … وكان الطريق خاليًا، فلم يستغرق وقتًا طويلًا حتى وصل إلى كورنيش نيل الجيزة الذي غادره أيضًا في اتجاه المقر السري الصغير المطل على هضبة الأهرام … في إحدى الفيلات الواقعة على ترعة المنصورية.

بمجرد أن وصلَت السيارة إلى ميدان الرماية حتى بدأ مربع أحمر يُضيء في تابلوه السيارة … وظهر رقم أزرق في عداد إليكتروني يقل تدريجيًّا بسرعة كبيرة … وهو يدل على المسافة الباقية على المقر … وعندما وصل الرقم في اللوحة إلى ٤٠ مترًا، كان الكمبيوتر في غرفة اجتماعات المقر السري الصغير يُعلن وصولَ سيارة الشياطين …

وهنا سمع الشياطين في السيارة صوتَ رقم «صفر»، يقول لهم: حمدًا لله على سلامتكم …

علَّق «أحمد»، قائلًا في دهشة: إن رقم «صفر» في المقر …

إلهام: إذن سيحضر معنا الاجتماع في القاعة …

اقتربَت السيارة بسرعة كبيرة من باب المقر … وظهرَت فيلَّا كلاسيكية تتوسط حديقة واسعة … يحوطها سورٌ عالٍ له بابٌ حديديٌّ كبير … عند اقتراب السيارة منه … انفتح تلقائيًّا … وبمجرد دخول السيارة … أُغلق مرة أخرى … اتجهَت السيارة إلى باب مغلق في نهاية الحديقة … عندما بلغَته انفتح لأعلى … ولم يظهر منه غيرُ ظلام دامس … لم يُضِئ «خالد» مصابيح السيارة … بل اجتاز الباب … وسار في الظلام على هدى سهم كان يومض في تابلوه السيارة … بعد عدة ثوان … ظهر عن بُعد ضوءٌ خافت ما لَبِث أن غطَّى سيارة الشياطين تمامًا … فقد وصلوا إلى الجراج، ومن الجراج انتقلوا وهم يتحدثون إلى صالة الاجتماعات.

كان بقية الشياطين بالقاعة — تبادلوا التحية — وما إن استقروا على مقاعدهم انطفأ النور، وأُضيئَت شاشة عملاقة ظهر عليها وجهُ رقم «صفر» مقسَّم إلى مربعات ومستطيلات صغيرة متداخلة … وانبعث صوتُه من سماعات الإذاعة الداخلية.

يقول: مساء الخير عليكم …

انتظر قليلًا قبل أن يُكملَ كلامَه، قائلًا: أعرف أن القضيةَ تعقَّدَت … فلدينا الآن أكثر من «مختار العزيزي» في مصر وخارجها؛ فقد رأى رجال الأمن بالمطار الجديد والقديم رجلَين يُشبهانِه تمامًا، متواجدَين في المطارَين في وقت واحد … ومنذ وقتٍ قصير اتصل «مختار» آخر ﺑ «عثمان» أثناء تواجُدِه بالمطار … ثم موجِّهًا كلامَه ﻟ «عثمان» قائلًا: ماذا قال لك أيها الفتى الأسمر؟

ابتسم «عثمان» في رضا لمداعبة الزعيم الرقيقة، وقال: قال إنه مسافر إلى هونج كونج.

رقم «صفر»: وهل سجَّل تليفونُك رقمَه؟

عثمان: لا … لم أجد أرقامًا ولا بيانات …

رقم «صفر»: إنه يحادثك من الطائرة …

علق «عثمان»، قائلًا في دهشة: كيف حدث هذا؟

رقم «صفر»: ما أبلغتُكم به صحيح … وقد عرفتُه في حينه، وكان «مختار العزيزي» تحت أيدينا، وكان يمكننا القبض عليه قبل أن يركب الطائرة …

وهنا تدخَّل «أحمد» طارحًا سؤالًا ملحقًا بقوله: لماذا لم تقبضوا عليه؟

رقم «صفر»: لأننا نريده هناك … في هونج كونج. وبدلًا من القبض عليه وعلى الرجل الكبير فقط، فيتم القبض على أهم أعضاء الشبكة في الخارج.

أحمد: تقصد المصدر الرئيسي للنفايات الذرية.

رقم «صفر»: نعم، هذا صحيح …

ريما: لديَّ سؤالٌ يا زعيم …

رقم «صفر»: دائمًا أسئلتك تكون مهمة يا «ريما» …

شعرَت «ريما» بالغبطة، وقالت: لماذا هونج كونج بالذات، رغم أنها ليس لها نشاطات ذرية … وليس لديها نفايات تتخلص منها؟

رقم «صفر»: لذلك السبب الذي ذكرتيه اختاروها …

عثمان: تقصد أنها مركز عقد صفقات بعيدًا عن دولة المصدر حتى يبعدوا تمامًا عن الشبهات.

رقم «صفر»: طبعًا؛ فهذه التجارة محرمة دوليًّا.

أحمد: وهل سنلحق به في هونج كونج؟

رقم «صفر»: نعم، أنت و«إلهام» و«ريما»، ورابعكم «عثمان» …

ثم أضاف: ادرس الموضوع جيدًا وبسرعة … لديكم ملف العملية.

انتهى. كان الليل قد انتصف، وحان موعد نوم الشياطين، ولم يكونوا قد تناولوا عشاءهم. بعد ذلك انصاعوا للأوامر مرحِّبين وذهبوا إلى قاعة الطعام؛ حيث تناولوا أكواب اللبن مع القليل من السندويتشات تحسُّبًا لكسل المعدة أثناء النوم … وكانت الملاحظة المهمة التي سجَّلها مركزُ المتابعة … أنهم لم يتبادلوا الحديث أثناء العشاء، بل ساد القاعةَ هدوءٌ شديد.

دقائق أخرى وعمَّ هذا الهدوءُ كلَّ أركان المقر بعد أن لجأ الشياطين إلى أسِرَّتهم، وراحوا في سُبات عميق.

وفي الخامسة من صباح اليوم التالي، استيقظ فريقُ «ملك التيتانور» بمعاونةِ أجهزةِ التنبيه الداخلية … وتناولوا إفطارًا سريعًا، واستقلوا اللاندكروزر، وانطلقوا يسابقون الريح ليلحقوا بالطائرة المسافرة إلى هونج كونج من المطار الجديد. كان الطريق الدائري مزدحمًا بالسيارات … وكانت الحركة عليه أبطأ مما تحتمل أعصاب الشياطين … لولا أن الجزيرة الوسطى كانت تجهِّز لتوسعة الطريق … فانتقل إليها «أحمد» … وطاوعَته اللاندكروزر في هذا … وانطلق بعد ذلك يعوض دقائق التأخير التي تسبَّب فيها الطريق، لولا أحد السائقين المتعطلين على الطريق الدائري في الاتجاه المقابل … رأى ما فعله «أحمد» … فترك طريقَه وانتقل الطريق الجديد الذي لم يكتمل بعد … غير أن بعض العوائق من مخلفات الجزيرة الوسطى … والتي لم تزل بعد عرقلته عن استوائه على الطريق … فاندفع بسرعة لم يحسبها … فانقلبت السيارة وكادت تصطدم باللاندكروزر … ولولا مهارة «أحمد» ما تمكَّن من تفاديها، ولانْتَهى أمرُ الشياطين … غير أنه لم ينتهِ بعد، والذي انتهى هو الطريق الدائري الذي أفضى بهم إلى شارع جسر السويس، فانحرفوا يمينًا فقد أصبحوا خلف المطار … وعلى أول طريق علوي قابلهم، صَعِدوا واستداروا معه إلى أن أصبحوا على شفا المنزل المؤدي إلى المطار … فانزلقوا نازلين …

لقد وصلوا المطار قبل ميعاد الطائرة بوقتٍ كافٍ … وسرعان ما أنهَوا الإجراءاتِ، وقبل إغلاق باب الطائرة … كانوا يستقرون على مقاعدهم. وقبل أن ينتهوا من مراجعة ملف العملية، كانت تنبيهات قائد الطائرة تنبعث من سمَّاعات الإذاعة الداخلية تطلب منهم ربطَ الأحزمة …

وكما قالت «إلهام» تُعلِّق على هذه الرحلة: مرة أخرى هونج كونج.

استوَت الطائرة في السماء وانطلقَت تُكمل الطريق إلى هونج كونج، وحضرَت المشروبات ومعها المطبوعات السياحية، التي ذكَّرَت «إلهام» بأول رحلة لهم إلى هونج كونج … لقد تذكَّرَت شعار هذه الجزيرة الذي يتكون من الأسد والتنين وزوارق اليانك الصينية والتاج الذهبي … والأمواج الزرقاء والسماء الحمراء … وعندما حكَت ﻟ «أحمد»، قال لها: ألَا تذكرين العم «واو»؟

ابتسمَت في سعادة، وقالت له: ذلك الرجل الصيني الصغير ذو العينَين الضيقتَين الورديَّتَين؟

ردَّ «أحمد» في سعادة، قائلًا: نعم هو … وهناك مفاجأة جميلة …

إلهام: هل سنراه؟

أحمد: بمجرد نزولنا من الطائرة …

انتعش «عثمان» كثيرًا، وقال: هل هو مرافقنا؟

أحمد: هذا ما قرأتُه في ملف العملية …

إلهام: أنا لم أستكمل قراءتَه بعد …

عثمان: هناك ملاحظة أخرى …

أحمد: ما هي؟

عثمان: سننزل في نفس الفيلا التي نزلنا فيها من قبل …

أحمد: هذا ضروري؛ لأنها مقرُّ المنظمة في هونج كونج.

في قوس هائل دارَت الطائرة فوق مياه بحر الصين الجنوبي … ورأى الشياطين عن بُعد النقطَ البُنيَّة تتناثر هنا وهناك … إنها بعضٌ من المائتين وخمسين جزيرة التي تتكون منها مستعمرة هونج كونج، ويربطهم بالأرض الأم … خليج الصيادين … وأخيرًا ظهرَت جزيرة هونج كونج متوجة بقمة فيكتوريا، التي ترتفع ٥٥٤ مترًا عن سطح البحر كما قرأ الشياطين عنها في رحلتهم السابقة … وحول قمة فيكتوريا غابة من ناطحات السحاب تتزاحم … إنها العاصمة التجارية والمالية للجزيرة … واصلَت الطائرة هبوطَها في محاولات ماهرة من قائدها لتفادي أسطح المنازل ونوافذها، أو كأنها تبدو كذلك … وابتسم الشياطين وهم يرونها تهبط في الماء … فهم يعرفون أنها ستُلامس أرضًا صلبة رغم أنهم لا يرَون غيرَ الماء يُحيط بهم من كلِّ جانب … فمطار «كاي تاك» يمتدُّ كشريط ضيق وسط البحر … عندما استقرت الطائرة على أرض المطار … هدأ ضجيجُ المحركات شيئًا حتى صمتَت تمامًا، وصفَّق الركاب لمهارة قائد الطائرة … فانبعث صوتُه يقول لهم: شكرًا، وحمدًا لله على سلامتكم …

انفتح الباب، وطفق الركاب يغادرون من الطائرة عبر أنبوب يمضي إلى صالة وصول المطار …

وقبل أن يغادر الشياطين هذا الأنبوب، رأوا الرجل العجوز الطيب يرفع يدَيه يُحَيِّيهم بحفاوة.

كان لقاءً رائعًا بينهم … ومن وسط ابتسامته قال لهم: أتذكرون ماذا قلت لكم في أول لقاء بيننا؟

أحمد: نعم، قلت إنه طيار محترف … فمطار هونج كونج واقعٌ وسط عوائق كثيرة من ناطحات سحاب وغيرها … ولا يعمل على هذا الخط إلا أبرع الطيارين. «واو» … «واو» … ما زلت تذكر كلَّ شيء.

ضحك الشياطين لهذه المداعبة الذكية، وقال «أحمد»: وما زلت أذكر سببَ تحدُّثِك للإنجليزية بهذه الطلاقة.

واو: وقلت لك إن الإنجليزية هي لغة المحاكم والحكومة ورجال الأعمال، ولأول مرة منذ خرجوا من القاهرة تتحدث «ريما»، قائلة: هل سنتناول الغداء في المطعم العائم؟

واو: هل كنتِ نائمة؟

ريما: لقد استيقظت تمامًا …

واو: نعم، سنتناول الغداء في مطعم جامبو القائم في ميناء إيبردين … والعشاء أيضًا …

قالت «ريما»: هذا رائع؛ فأنا أحب كرنفال الألوان الذي تصنعه آلاف المصابيح التي تغطي القوارب، التي تصطفُّ في الميناء بالعشرات.

واو: إنها بيوت الصيادين.

كان العشاء رائعًا ومفيدًا … إنها أسماك طازجة … قُطعت حية وتُبلت بكثير من الأعشاب، وقُدِّمت إليهم نيئة … إنهم لم ينسوا طعمها … لذا لم يكن جديدًا عليهم. فتناولوا غداءهم في نهمٍ، وما إن انتهَوا حتى قال «عثمان»: أشعر برغبة في النوم …

ضحك «واو»، وقال له: هذا ما أشعر به كلما تناولتُ وجبةَ أسماك طُهيَت على الطريقة اليابانية …

عثمان: وهل عندك حلٌّ؟

واو: نعم؛ يمكنك النوم في المقر العائم لنا …

في تساؤل ودهشة سأله «أحمد»، قائلًا: ألنا مقرٌّ عائم هنا؟

واو: نعم؛ ومتحرك …

عثمان: تقصد أنه له محركٌ ويمكننا قيادته؟

واو: عند الضرورة …

وفي لهفة سألَته «ريما»، قائلة: وأين هو؟

واو: بالقرب من المطعم …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤