سوق اللصوص!

غادر الشياطين المطعمَ مستقلين قاربًا من قوارب الصيادين … وكان معهم «واو»، ولم يقطعوا مسافة طويلة … فقد كان مقرُّهم العائم قريبًا جدًّا من المطعم …

وعندما توقَّف القارب … ألقى بحبل سميك على وتدٍ مثبَّت بممشى المقر … ثم جذب الحبل فالتصق القارب بالمقر … وتمكَّن الشياطين من النزول بسهولة. وكان «واو» قد سبقهم في النزول، وقام بفتح باب المقر العائم … وقال لهم بالإنجليزية: مرحبًا.

انتظر «أحمد» حتى دخلَت «إلهام» و«ريما» … ثم لَحِق بهما، ولكنه توقَّف يتابع ما يجري، فقد لاحظ أن «عثمان» تسمَّر في مكانه مبحلقًا في البحار … فقال له: ماذا حدث يا «عثمان»؟

عثمان: ألن يعودَ هذا البحار من حيث أتى؟

في هذه اللحظة فرح «واو» وقد سمع ما قاله «عثمان»، فطمأنه قائلًا: هذا القارب يتبع المنظمة والبحَّار يعمل لدينا …

كانت «إلهام» ومعها «ريما» قد تجولتَا في غُرَف أو قمرات المقر ووجدوها مجهزةً تجهيزًا جيدًا، كذلك المطبخ. أما دورة المياه … فقد وقف «واو» يشرح لهم مزاياها الخفية … فيها طريقٌ يؤدي إلى مياه النهر مباشرة دون أن يلاحظَ أحد، فنهايتُه تحت قاع المقر …

وأين هذا الطريق؟ إنه تحت قاعدة الحمام … وقد دفع «عثمان» إلى التعليق، قائلًا: إنه أمر مثير حقًّا … فيمكننا إدارة معركة من هنا …

قطع حديثَهم ثلاثُ طرقات على الباب الخارجي، فقال «واو»: إنه «يانج البحار» …

عثمان: هل يريد أن ينصرف؟

واو: إن له مواعيد عمل حتى منتصف الليل … ويذهب هو ويأتي غيره …

أحمد: إذن ماذا يريد؟

واو: سأرى …

ذهب «واو» إلى باب العوامة وفتحَه وأطلَّ برأسه خارج الباب لدقائق، ثم عاد وقال لهم: سأغيب لدقائق.

وعندما أطلَّ «عثمان» من زجاج إحدى النوافذ رآه يحادث «يانج» … ثم عاد إليهم وأشار لهم ليلتفوا حوله … ثم قال لهم: «مختار العزيزي» ظهر في ضاحية «تسيمشاتو».

أحمد: وأين تقع هذه الضاحية؟

واو: إنها في الجانب الشرقي من المدينة، ولكم عندي معلومة عنها …

اندفعَت «ريما»، تقول في لهفة: نريد أن نسمعها …

واو: كانت الأمواج تضرب أرضَ الجزيرة في هذا الجزء، فتترك فيها بِرَكًا ومستنقعات لم تكن تجفُّ أبدًا … لكن أهل الجزيرة جفَّفوها وردموا مساحة من البحر، وأقاموا حواجز ينكسر عليها الموجُ ويرجع مهزومًا.

وبدلًا من المستنقعات القديمة انتشرَت ناطحات السحاب … ومراكز التسوق العملاقة … وسلاسل الفنادق العالمية الفاخرة تفصل بينها مساحات خضراء، وتوصل بينها جسور تتعلق بمعجزة معمارية في الهواء.

أحمد: وهل سنذهب إليه؟

واو: لا، ليس الآن … فهو مراقَب من رجالنا طوال الأربع وعشرين ساعة، وهو يتحرك هناك بحريَّة … لكن إذا ظهرتم فستفسدون كلَّ شيء …

إلهام: هو يتحرك بحرية … معنى هذا أنه لا يُقيم هناك؟

واو: لا … إنه يقيم في شارع كوينز رود سنترال.

أحمد: هذا يعني أنه له علاقات في «تسيمشاتو».

واو: سأعرف …

أحمد: كيف؟

واو: سأُطلق عليه بعض عجائز العاكي.

ولم تمضِ ساعة … إلا وكان «أحمد» و«إلهام» يلبسون زيَّ العساكر، وهو زيٌّ صينيٌّ داكن وقبَّعات تُشبه المظلات، ويسيرون مع بعض كبار السن وسط شوارع «تسيمشاتو»، وافترق عنهم «عثمان» و«ريما»، وقد ارتديَا الزيَّ الكوبي … وأمام باب أحد الفنادق الفخمة، وقف رجل يُشبه إلى حدٍّ بعيد «مختار العزيزي» … في هذه اللحظة اقترب «أحمد» من «عثمان»، وقال له: هل ترى ما أرى؟

عثمان: إنه «مختار العزيزي»، أليس كذلك؟

أحمد: هو … ولكنه كان بدون شارب.

عثمان: إذن يجب اختبار الشارب، أليس كذلك؟

ابتسم «أحمد»، وقال له: ماذا تنوي أن تفعل؟

عثمان: سأطلب من هذا الرجل العجوز أن يُشعلَ غليونَه من كبريت «مختار العزيزي». فهم «أحمد» ما يقصده «عثمان»، وأشار على البُعد ﻟ «واو» … وعندما اقترب منه أخبره بما يدور في رأسه … فنقل «واو» كلَّ ما سمعه إلى رجل عجوز من الهاكا كان يقف معهم … وكان «أحمد» يُراقبهم في حذر … وما إن انتهى «واو» حتى عاد إلى «أحمد»، وقال له: هذا الرجل داهية … إنه عجوز ماكر ويفعل أيَّ شيء مقابل المال …

اقتضب «أحمد»، وقال له: هذا سيكون خطرًا علينا …

أكمل «واو» حديثَه، قائلًا: هو لا يستطيع مخالفة أوامري … لأنه يعرف عقابي.

ابتسم «أحمد» في راحة، وقال له: دَعْه يقوم بالدور …

وقف الجميع يرقبون العجوز وهو يقترب من «مختار العزيزي» وهو يُمسك الغليون بيدٍ واضعًا إياه في فمه … وباليد الأخرى يُشير له طالبًا إشعاله … و«العزيزي» لا يفهم، فمدَّ يدَه له بالغليون … فابتسم «العزيزي»، وأمسك به ووضعه في فمه … فابتسم الرجل وأخذ يُشير بيده يطلب إشعاله، ففهم «العزيزي» … وأخرج ولاعة، وشرع يُشعلها ويُشعل بها الغليون … وفي هذه اللحظة، وقع العجوز الماكر فوق صدرِ «مختار العزيزي» … فتطوحَت يدُه لأعلى فأمسكَت النيران بشاربه … فما كان منه إلا أن جذبه وطوَّحه بعيدًا وصار بلا شارب … والشياطين يتابعون ما يجري عن بُعد والضحكات تملؤهم … لقد انكشف «العزيزي»، وفي نفس اللحظة … أحاط به رجلان واصطحباه إلى داخل الفندق. أما الرجل العجوز … فقد انحنى على الأرض ليلتقط غليونه … فحمله أحدُ رجال «العزيزي»، وانتحى به جانبًا … ثم وضعه في سيارة جيب. ولم تمضِ لحظات إلا وخرج «مختار العزيزي» يضع شاربًا جديدًا، ويسير بين رجلين قصيرين ذوي ملامح صينية، ولكن يبدو عليهما أنهما بطلان رياضيان … واستقل ثلاثتهم سيارة جيب أخرى، وانطلقَت السيارتان … نظر الشياطين ﻟ «واو» … فلديهم فرصةٌ جيدة لمطاردة «مختار»، ولكن أين السيارات …

لم ينسَ «أحمد» أن «واو» رجل المنظمة هنا … أي أنه سيحسب حسابَ كلِّ شيء؛ لذلك نظر إليه مطمئنًا.

ابتسم «واو» … وجرى كالقط في رشاقته وغاب للحظات، وعاد بسيارة لاندكروزر.

صاح «أحمد»، قائلًا في امتنان: كيف عرفت أني أحب هذه السيارة؟

واو: أليست سيارتك في مصر من نفس الماركة؟

قفز الجميع إلى السيارة، و«أحمد» يقول له: إنك رجل رائع يا «واو» …

واو: ولكي أكون رائعًا بحقٍّ يجب أن أُبلغَكم أن هؤلاء الرجال الذين ستواجهونهم خطرٌ جدًّا … فهم محترفو رياضات القتال … ومواجهتهم صعبة وغير آمنة … ولا تنسوا أنها رياضات أجدادهم …

ابتسم الزملاء، وعنهم قالت «ريما»: اطمئن أيها العم «واو» … سنكون أكثرَ منهم مهارة …

كان «أحمد» هو الذي يقود السيارة … وقد طارد سيارة «مختار العزيزي» بمهارة دون أن يشعر به أحد، حتى وصلوا إلى وسط المدينة المزدحم … فترجلوا وتركوا سياراتهم على جانب الطريق واستقلوا التليفرنك — القطار المعلَّق على كابل من الصلب — إنه يتكوَّن من عربتَين يشدُّهم هذا الكابل إلى ارتفاع ٥٥٤ مترًا، حيث قمة فيكتوريا، وبالمثل فعل الشياطين ومعهم «واو» … حيث استقلوا القطار الذي يليهم … وبدءوا الصعود بعدهم بقليل.

ولم يمضِ وقت طويل حتى كان «مختار العزيزي» قد وصل إلى قمة فيكتوريا، ومعه رجاله وبينهم عجوز الهاكا، ورآهم «أحمد» يطلعون من سور يُشبه الشرفة، يُطلُّ على هُوَّة ساحقة، فصاح في «واو» قائلًا: سيُلقون بالعجوز من هذا الارتفاع.

واو: لا تخشَ عليه منهم … فهذا العجوز سوف ترى منه مفاجآت غير متوقعة. كانت عربة التليفرنك قد وصلت بالشياطين وهم في ملابسهم الصينية والكورية … رغم أن ملامحهم عربية … وقد علقت «ريما» على ذلك، قائلة: سوف يكتشفنا «العزيزي» ورجاله في هذا الزي …

فردَّت عليها «إلهام» قائلة: سيظنوننا سائحين عرب.

إلهام: ولكن «العزيزي» يعرف «أحمد» …

وفجأة تبدَّدَت كلُّ مخاوف الشياطين حينما تحرَّك «العزيزي» ومَن معه مرة أخرى في اتجاه محطة الترام … وهنا قال «واو»: إنهم ذاهبون إلى المدينة الصينية … ولو صدقَت توقعاتي فستكون وجهتهم سوق اللصوص …

ريما: وما سوق اللصوص هذا؟

واو: سترَينه بعينيك.

وحضر الترام … إنه يتكوَّن من طابقَين، ولكنه عجوز فاق عمرُه التسعين عامًا … وصَعِد «مختار» ومَن معه، واستقروا في أول دور … وصَعِد الشياطين إلى الدور العلوي … وتحرك الترام وبدأت المقاعد ترتجُّ، ويكاد جسم الترام يحتكُّ بزوايا البيوت القديمة. وأخذ الشياطين يستعرضون شوارع المدينة العتيقة، التي تتجاوز فيها دكاكين تعرض آخر منتجات الإليكترونيات … وصيدليات حديثة، ومحال لبيع الأخشاب، وأخيرًا يصلون إلى شارع كات، والذي يُطلق عليه الناس «سوق اللصوص» … وعندما وصلوه نظر «واو» إلى «ريما»، وقال لها: هل رأيتِ … كلُّ شيء مسروق يباع هنا … الأنتيكات القديمة التي لا يعرف أحد من أين جلبها بائعوها وهم من المهاجرين … وكتب قديمة … وساعات ثمينة ومجوهرات.

ويهبط الليل على المدينة الصينية العتيقة … فلا تهدأ الحركة في شوارعها وأزقَّتها الضيقة المضاءة بالمصابيح … ولا تنقطع أمواجُ البشر عن الحركة … وأمام محلٍّ لبيع الملابس المقلدة … وقفت مجموعة «العزيزي» … وتحدثوا قليلًا مع البائع … ثم غادرهم البائع واختفى في دكانه لدقائق، ثم عاد واصطحبهم إلى داخل المحل واختفوا ومعهم العجوز …

ووقف الشياطين ينتظرون خروجهم ومعهم «واو» … غير أنهم تأخروا في الخروج، فصاح «واو» في غيظ قائلًا: هذه المحال لها بابان.

انطلق «أحمد» و«عثمان» يجرون إلى الزقاق الخلفي حيث ظهر المحل … فخرج من الباب الرئيسي في نفس اللحظة كلٌّ من «مختار العزيزي» وعجوز الهاكا ومَن معهما. لقد صار العجوز صديقًا لهما، هذا ما قاله «واو» … وعندما لاحظ الانزعاج البادي على وجه «ريما»، قال لها: هو الآن صديقهم وصديقنا؛ أي أنه لن يبيعَنا لهم … ولكنه يستفيد من كلانا.

إلهام: معنى هذا أنه لن يُفيدَنا في شيء؟

ولم يتمكن «واو» من إكمال جملته … فقد تلقَّى ضربة على مؤخرة رأسه من قبضةِ يدٍ خرجَت من نافذة البيت، الذي وقف مستندًا على حائطه …

فسقط «واو» مغشيًّا عليه … وانحنَت «إلهام» تفحصه …

بينما وقفَت «ريما» تحميها، فتلقَّت هي أيضًا ضربةً من يد أخرى أسقطَتها بجوار «واو» …

وبدأ أعضاء العصابة يظهرون بلا حذر … وفي هذه اللحظة وعند عودة «أحمد» و«عثمان» شاهدَا «ريما» و«واو» على الأرض … وقبل أن يقررَا التدخل … صاحَت «إلهام» فيهما تُحذرهما، قائلة: انتبهَا.

جلس «أحمد» القرفصاء، في الوقت الذي قفز فيه «عثمان» لأعلى، وعند عودته إلى الأرض كانت قدمُه قد انطلقَت كالصاروخ، فأصابَت أحد الرجال في رقبته، فأوقفَت الهواء في حلقه، فجحظَت عيناه وسقط على الأرض قبل أن يستقرَّ «عثمان» على الأرض واقفًا …

في نفس اللحظة انتفض «أحمد» ليقفَ، وقبل أن يستقيم واقفًا … كانت قدمه أيضًا تنطلق لتُصيبَ كتف الرجل الآخر مما جعله يدور حول نفسه … فدار «أحمد» دورةً كاملة حول نفسه على مشط قدمه … ولَحِقه بضربة في صدره أسقطَته بلا حَراك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤