الفصل الرابع والعشرون

إثبات التالي

affirming the consequent
العبارة الشَّرْطيَّة conditional هي العبارة التي تضع شرطًا condition (يُسمى المقدَّم antecedent) ثم تمضي (في «التالي» consequent) لتتحدث عما يلزم عن هذا الشرط؛ أي لتتحدث عما يكون عليه الحال إذا ما تحقق هذا الشرط، وفي مغالطة إثبات التالي يتم الانتقال في الاتجاه العكسي، من إثبات التالي إلى إثبات المقدَّم.
في كتابه «المنطق الصوري والرياضي» يقول د. عبد الرحمن بدوي: «يقع المرء في هذه الأغلوطة حينما يعتقد أن الشرط ولازمَهُ (أي المقدَّم والتالي) في القضية الشرطية منعكسان؛ أي أن بوسعه أن يعكس القضية فيمضي من التالي إلى المقدَّم، مثلما هو يمضي من المقدم إلى التالي، كأن يقول:
إذا كان الحكم النيابي صالحًا لمصر لَبَقِيَ فيها مدة طويلة،
وما دام الحكم النيابي قد بقي في مصر مدة طويلة؛
إذن هو حكم صالح لمصر.
وتُرتكَب هذه الأغلوطة في كلِّ حالة نعتقد فيها أن نظرية ما صحيحة لأن نتائجها التي لا بُدَّ أن توجد إذا كانت صحيحة هي نتائج موجودة؛ فنظن أن التحقيق verification كافٍ للبرهنة على صحة النظرية، والاستنتاج في هذه الأحوال لا يكون صحيحًا إلا في الحالة التي نجزم فيها بأن هذه النظرية وحدها هي التي تفسر حدوث هذه النتائج، وفيما عدا ذلك لا يكون الاستنتاج مفيدًا لليقين.»١

يرى البعض أن هذا في حقيقة الأمر هو أساس المنهج العلمي: فإذا كانت النظرية العلمية «أ» يلزم عنها التنبؤ «ب»، فإن كل ملاحظة صادقة للتنبؤ «ب» تزيد من احتمال صدق النظرية «أ»:

إذا صَدَقَت النظرية «أ» لَوُجِد التنبؤ «ب»،
التنبؤ «ب» موجود؛
إذن النظرية «أ» صادقة.
وهو كما ترى مأزق حقيقي تقع فيه نظرية «التحقيق» verification (أو التأييد confirmation) فمهما جمعنا من ملاحظات عن «ب» التي تلزم عن «أ»، فسوف يظل هناك احتمال قائم أبدًا بأن تأتي الملاحظة القادمة مكذِّبةً للنظرية «أ».

•••

والآن انظر إلى الحُجة التالية:

إذا كان شيءٌ ما إنسانًا فهو إذن فان.
سقراط إنسان؛
إذن سقراط فان.

إنها بالطبع حُجة صائبة تمامًا ولا غبار عليها البتة، ولكن انظر إلى الحجة القادمة التي يتم فيها عكس القضية والمضي من إثبات التالي إلى البرهنة على المقدَّم:

إذا كان شيء ما إنسانًا فهو فانٍ،
سالي فانية؛
إذن سالي إنسان.

وهنا يتبدى الخطأ بوضوح، فالحق أن سالي قد تكون قطة، فانية بكل تأكيد، ولكنها ليس إنسانًا. وانظر إلى الحُجة التالية:

إذا كنت أنا أطول من سلمى، لكانت سلمى قصيرة.
سلمى قصيرة؛
إذن أنا أطول من سلمى.
ومن الشائق حقًّا أن دراسةً أُجريت على الأشخاص غير المدربين في المنطق قد كشفت أن أكثر من ثلثي المشاركين يقبلون مثل هذه الحجج المغلوطة،٢ إنها حجج تتشبه بالحجة الأولى الصحيحة التي صورتها:

إذا كان «أ» كان «ب»، وما دام هناك «أ»، إذن هناك «ب».

أو بتعبير آخر:
إذا «أ» إذن «ب»،
«أ»
إذن «ب».
غير أنها تختلف عن هذا اختلافًا مهمًّا؛ لأن صورتها كالآتي:

إذا كان «أ» كان «ب»، وما دام هناك «ب»؛ إذن هناك «أ».

أو بتعبير آخر:
إذا «أ» إذن «ب»،
«ب»
إذن «أ».
فالمشكلة هنا هي وجود افتراض مضمر مُفادُه أن «أ» فقط هي التي يلزم عنها «ب»، وهو افتراض لم يَرد في القياس، ذلك أن قياس الحجة يترك الاحتمالات مفتوحة لأشياء أخرى يلزم عنها «ب». يمكن أن يُترجم هذا إلى الصورة التالية:
إذا «أ» إذن «ب»،
إذا «ج» إذن «ب»،
«ب»
إذن «أ».
وهو كما ترى قياس بيِّن الخطأ، ولا يصح عكس القضية الشرطية إلا إذا أخذت صورة: إذا — وفقط إذا — «أ» إذن «ب» if, and only if, A then B.

•••

يندر أن ينخدع أحدٌ بهذه المغالطة حين تأتي في صورةٍ صارخة فجة، غير أنها قد تخفى على أفطن الناس عندما تأتي متسربلةً بنصوصٍ جليلة أو مشحونة بعواطف قوية، وكثيرًا ما نصادف هذا الخطأ المنطقي في الإعلانات التليفزيونية والخُطب السياسية:

إذا كنتَ فتًى رياضيًّا جذابًا قوي الشخصية فسوف ترغب في شراء سيارة BMW.
وباقي القياس مضمر تقديره:
أنت ترغب في شراء سيارة BMW.
أنت، إذن، فتًى رياضي جذاب قوي الشخصية.
ومن الثابت المسجل تاريخيًّا أن كلا الطرفين في المناقشات عن الإرهاب في بريطانيا قبل تفجيرات ٧ يوليو ٢٠٠٥ كانا يستخدمان هذه المغالطة، فقد كان بعض أعضاء الحكومة البريطانية يُحاجُّ بأن القوانين البريطانية المضادة للإرهاب كافية لمنع أي هجمات إرهابية، ومن حيث إنه لم تحدث هجماتٌ إرهابية في بريطانيا، إذن القوانين البريطانية المضادة للإرهاب كافية:
إذا كانت القوانين المضادة للإرهاب كافية فلن تحدث؛ إذن هجمات إرهابية،
لم تحدث هجمات إرهابية؛
إذن القوانين المضادة للإرهاب كافية.
هكذا استخدم أعضاء الحكومة البريطانية حجة «إثبات التالي» affirming the consequent، والتي تَبيَّنَ خطؤها في ٧ يوليو ٢٠٠٥، أما الطرف الآخر، أنصار الحريات المدنية، فقد حاجُّوا بأنه لا حاجة لبريطانيا إلى قوانين جديدة لأن الإرهابيين لا يستهدفون سوى الولايات المتحدة، وكان تبريرهم لذلك هو أنه لو كان الإرهابيون معنيين بمهاجمة بريطانيا لحدثت هجماتٌ إرهابية، وهو ما لم يحدث:
إذا كان الإرهابيون مَعْنِيِّين ببريطانيا لَحدثَتْ هجماتٌ إرهابية،
لم تحدث هجمات إرهابية؛
إذن الإرهابيون غيرُ معنيين ببريطانيا.
وهو أيضًا مثال ﻟ «إثبات التالي» affirming the consequent الذي تَبَيَّن خطؤه في السابع من يوليو ٢٠٠٥.

(١) أمثلة أخرى لمغالطة إثبات التالي

  • إذا كنتُ في الإسكندرية فأنا في مصر.

    أنا في مصر؛

    إذن أنا في الإسكندرية.

  • إذا كانت الطاحونة تلوث مياه النهر لزادت حالات موت الأسماك.

    حالات موت الأسماك في ازدياد؛

    إذن الطاحونة تلوث مياه النهر. (من الواضح أن موت الأسماك يمكن أن يحدث لأي سبب آخر، كاستخدام المبيدات الحشرية.)

  • أنت تكذب في قولكَ، وأنت لا تجيد الكذب فيحمر وجهك دائمًا عندما ترتكبه، وها هو وجهك متورد وأنت تتحدث.

  • إذا سقط المطر لَابْتَلَّ الرصيف.

    الرصيف مبتل؛

    إذن لا بُدَّ من أن يكون المطر قد سقط. (قد تكون البلدية قد غسلت الرصيف للتو!)

  • إذا كان ستيفن كينج هو الذي كتب الأناجيل لكان كاتبًا رائعًا.

    ستيفن كينج كاتب رائع؛

    إذن ستيفن كينج هو الذي كتب الأناجيل.

  • جميع الفصاميين يتصرفون بطريقة غريبة.

    هذا الشخص يتصرف بطريقة غريبة؛

    إذن هذا الشخص فصامي.

  • إذا كان هذا المتهم أهلًا للمحاكمة فسوف يجيب بالتأكيد عن ٨٠٪ على الأقل من أسئلة هذا الاختبار.

    هذا المتهم أجاب عن ٨٧٪ من أسئلة الاختبار؛

    إذن هذا المتهم أهل للمحاكمة (بالطبع قد يكون فاقدًا للأهلية لدواعٍ أخرى لا يحصرها الاختبار).

  • إذا حظرنا مباريات الكرة بجميع مستوياتها لقضينا على ظاهرة الشغب في الملاعب.

    القضاء على ظاهرة الشغب في الملاعب أمر مرغوب؛

    إذن حظر المباريات جميعًا أمر مرغوب.

  • إذا حظرنا كل علاقة جنسية لقضينا على مرض الإيدز.

    القضاء على مرض الإيدز أمر مرغوب؛

    إذن حظر العلاقات الجنسية أمر مرغوب.

  • إذا كان لسالي جراءٌ فإنها بالضرورة كلبةٌ أنثى.

    سالي كلبة أنثى؛

    إذن سالي لها جراء.

(٢) إنكار المقدَّم denying the antecedent

قلنا إنَّ القضية الشرطية هي العبارة التي تضع شرطًا (يسمى «المقدَّم» antecedent) ثم تمضي (في «التالي» consequent) لتتحدث عما يكون عليه الحال إذا ما تحقق هذا الشرط، أي ما يلزم عن هذا الشرط، وفي مغالطة إنكار المقدم تقرر المقدمة الأولى عبارة شرطية؛ ثم تقوم المقدمة الثانية بإنكار مقدم هذه العبارة الشرطية (أي إنكار الشرط) ثم تدعي الحجة أنه يترتب على ذلك إنكار التالي (أي إنكار اللازم الذي يترتب على الشرط).
وبعبارة أخرى: يقع المرء في مغالطة إنكار المقدم إذا قام في قضية شرطية بنفي المقدم واستنتج من ذلك نفي التالي، كما في المثال الآتي:
إذا كنتُ نائمًا فإن عيني تكون مغمضة،
أنا لست نائمًا؛
إذن عيني ليست مغمضة.
وصورته:
إذا «أ» إذن «ب»
لا «أ»؛
إذن لا «ب».

إن حقيقة أن عيني تكون مغلقة أثناء النوم لا تمنع احتمال أن أغلقها وأنا في تمام اليقظة، غير أن هذا النوع من الاستنباط قد يكون خادعًا جدًّا إذا كان مطمورًا في حجة أكثر تعقيدًا؛ وذلك بسبب الخلط بين معنى «إذا» ومعنى «إذا وفقط إذا»، فالحق أن الحجة السابقة تكون صائبة إذا كانت المقدمة الأولى تقرر أنني لا أغلق عيني إلا عندما أكون نائمًا.

يكثر استخدام هذه المغالطة من قِبل المحامين، إذ يدَّعون أن غياب دليلٍ معين هو برهانٌ على براءة المتهم، فإذا اختفى الشخص س، مثلًا، والذي تُشير الأدلة إلى أن المتهم قد قام بقتله، فإن المحامي قد يدفع بأنه من دون جثة فليس بالإمكان إثبات القتل:
إذا عُثِر على جثة «س» فقد يكون موكِّلي قد قتله،
لم يُعثر على جثة «س»؛
إذن موكِّلي لا يمكن أن يكون قد قتل «س».

وهي كما ترى مغالطة، يعبر عنها بالمبدأ المأثور «غياب الدليل ليس دليلًا»، وإن تكن المغالطة أعقد من ذلك.

(٢-١) أمثلة أخرى لمغالطة إنكار المقدَّم

  • كل الطيور لها أجنحة.

    الخفاش ليس من الطيور؛

    إذن الخفاش ليس له أجنحة (بالطبع كون الطيور جميعًا ذوات أجنحة لا يمنع أن تكون هناك مخلوقات أخرى، كالحشرات والخفافيش، ذات أجنحة).

  • سعيد يلعب الشطرنج دائمًا على الغداء يوم الأربعاء.

    وبما أن اليوم هو الخميس؛

    إذن من المحال أن سعيدًا يلعب الشطرنج الآن.

    (بالطبع لا شيء يمنع سعيدًا من أن يلعب الشطرنج في الأيام الأخرى.)

  • إذا كانت السماء تمطر فإن الرصيف يكون مبتلًّا.

    السماء لا تمطر منذ أسبوع؛

    إذن الرصيف لا بُدَّ من أن يكون جافًّا.

    (بالطبع ليس هناك استحالة في أن يكون الرصيف قد تم غسله للتوِّ.)

  • إذا كنت في الإسكندرية فإنا إذن في مصر.

    أنا لست في الإسكندرية؛

    إذن أنا لست في مصر.

  • كل الطماطم حمراء (إذا كان شيء ما هو طماطم فلا بُدَّ من أن يكون أحمر).

    هذا ليس من الطماطم؛

    إذن هذا ليس أحمر.

  • إذا كانت سياساته ناجعة فإن البطالة سوف تنكمش.

    ولكن سياساته غير ناجعة؛

    إذن البطالة لن تنكمش.

    (بالطبع قد تكون هناك أسباب أخرى تفضي إلى انكماش البطالة رغم سوء السياسات.)

  • إذا كان هذا الاختبار قائمًا على معايير مخادعة، فسوف يكون إذن اختبارًا غير صادق.

    ولكن المعايير ليست مخادعة؛

    إذن فالاختبار صادق.

١  عبد الرحمن بدوي: «المنطق الصوري والرياضي»، ص٢٤٦.
٢  Stephen law: “The Philosophy Gym”, Headline Book Publishing, London, 2003, p. 275.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤