الفصل الأول

(١) العالَمُ البَهيجُ

فِي أَصِيلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ شَهْرِ «مارِسَ» هَبَّ نَسِيمٌ دَافِئٌ يُبَشِّرُ بِمقْدَمِ الرَّبِيعِ: مَلِكِ فُصولِ السَّنةِ، ويُؤْذِنُ بانقضاءِ فصلِ الشتاء.

وَقدِ اسْتَقبَلَتِ الكائناتُ كُلُّها هذا الْفَصْلَ الْبَهِيجَ فَرْحانةً مُتهلِّلةً، وَدَبَّتْ حَرارَةُ الشَّمْسِ فَأَنْعَشَتِ النُّفُوسَ، وَأَخَذَتِ الْأَرْضُ زِينَتَها فَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.

(٢) يَقَظَةُ النَّائِمِ

وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ أَطَلَّ صاحِبُنا النَّشِيطُ: «أَبُوْ بُرَيْصٍ» مِنْ حُفْرَتِه — وَكانَتْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الطَّرِيقِ — وَحاوَلَ أَنْ يَتَنَسَّمَ الهَواءَ (يَشُمَّهُ) بَعْدَ أَنْ حُرِمَهُ زَمَنًا طَويلًا. وَما أَخْرَجَ أَنْفَهُ مِنْ حُفْرَتِه حتَّى بَهَرَ عَيْنَيْهِ شُعاعُ الشَّمْسِ (غَلَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ نُورَهُما فَكادَ يُعْمِيهما) فَلَمْ تَقْوَيا عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ، لِاعْتِيَادِهما ظَلامَ الْحُفْرَةِ أَشْهُرًا عِدَّةً، فَأَسْرَعَ «أَبُو بُرَيْصٍ» عَائِدًا إِلَى جُحْرِهِ الْمُظْلِمِ.

وَكانَ «أَبُو بُرَيْصٍ» قَدْ نامَ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ — الَّتي اتَّخَذَها دارًا لَهُ — خَمْسَةَ أَشْهُرٍ كَامِلةً، وَلَمْ تَرَ عَيْناهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ فِي أَثْناءِ هذِهِ المُدَّةِ الطَّوِيلَةِ؛ فَلَيْسَ في قُدْرَتهِ — الآنَ — أنْ يُواجِهَ شُعاعَها السَّاطِعَ، دَفْعَةً واحِدَةً.

(٣) «أَبو بُرَيْصٍ»

أَرَاكُمْ تَسْأَلُونَ، وَقَدْ عَرَتْكُمْ (أَلَمَّتْ بِكُمْ، وَعَرَضَتْ لَكُمْ) دَهْشَةٌ. تُرَى: ما هو «أَبُو بُرَيْصٍ»؟

وَلَوْ أَمْعَنْتُمُ الْفِكْرَ قَلِيلًا لَعَلِمْتُمْ حَقِيقَتهُ.

وَإنِّي ذاكِرٌ لَكُمْ بَعْضَ أَوْصافِهِ، لتَتَعَرَّفوهُ بِلا عَناءٍ.

أمَّا لَوْنهُ فَهوَ رَمادِيٌّ، وَأمَّا ذَنَبهُ فَطَوِيلٌ نَحِيفٌ. وَلَهُ — إِلَى هذا — عَيْنانِ حادَّتا الْبَصَرِ، وأرْجُلٌ أَرْبَعٌ غايَةٌ في الْقِصَرِ، وجِسْمٌ تُغَطِّيهِ الْقُشُورُ. وَهُوَ يَأْوِي إِلَى جُحْرٍ ضَيِّقٍ، في حائِطٍ قَدِيمٍ مُتَهَدِّمٍ، أَوْ حُفْرَةٍ مَهْجُورَةٍ، حَيْثُ يَتَّخِذُ مِنْها بَيْتًا يَسْكنُهُ.

أظنُّكُمْ قَدْ عَرَفْتُم حَقِيقَةَ «أبي بُرَيْصٍ» الآنَ! ألَيْسَ كَذلِكُمْ؟ نَعَمْ: فإِنَّ «أبا بُرَيْصٍ» هُوَ الْبُرْصُ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ وَتَرَوْنَهُ يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ بِعَيْنَيْنِ فاحِصَتَيْنِ (باحِثَتَيْنِ) يَعْرُوهُما (يُصِيبُهُما) دَهَشٌ وَحَيْرَةٌ، وَهُوَ يُطِلُّ عَلَيْكُمْ مِنْ سَقْفِ الْحُجْرَةِ أَوْ حائِطِها.

(٤) الرُّفْقَةُ النَّائِمَةُ

وما اسْتَقَرَّ «أبُو بُرَيْصٍ» في جُحْرِهِ الْمُظْلِمِ زَمَنًا يَسِيرًا، حتَّى عاوَدَهُ نَشاطُهُ؛ فَنَظَرَ إِلَى رِفَاقهِ: الْبِرَصَةِ، فرآها لا تَزالُ نائِمَةً مُنْذُ الْخَرِيفِ؛ فَضَحِكَ مِنْها ساخِرًا، وقال: «ها ها ها! يا لَها من مُتَكاسِلَةٍ نَؤُومٍ (كَثِيرةِ النَّوْمِ)! إِنَّها لا تَزالُ رَاقِدَةً مُنْذُ الْخَرِيفِ، وَأَفْواهُها مَفْتُوْحَةٌ … هيه! أمَا آنَ لَها أنْ تَسْتَيْقِظَ مِنْ سُباتِها (نَوْمِها)، لِتَسْتَقْبِلَ الرَّبِيعَ الْبَهيجَ!»

ثُمَّ اسْتَأْنَفَ «أبُو بُرَيْصٍ» كلامهُ (عادَ إِلَى حَدِيثهِ)، وَهُوَ يَبْتَعِدُ عنْ رِفَاقِه (أَصْحابِه)، وَيَعْجَبُ منْ تَكاسُلِها، وَيَقُولُ: «إِنَّهَا غَارِقَةٌ في نَوْمِها، فَهيَ صُمٌّ لا تَسْمَعُ، وَكَأَنَّني — إِذْ أُنَادِيها — أُنَادِي حِجارةً، فَوَدَاعًا، أَيَّتُها الرِّفاقُ!»

(٥) بَهْجَة الرَّبيع

ثُمَّ خَرَجَ «أبُو بُرَيْصٍ» مِنْ جُحْرِهِ، لِيَنْعَمَ بِحَرارَةِ الشَّمْسِ تَارِكًا رُفْقَتَهُ (أصْحَابَهُ) مُسْتَسْلِمَةً إلى النَّوْم، وَأَنْشَبَ مَخَالِبَه (عَلَّقَ أَظفارَهُ) الصَّغِيرَةَ في حائِطٍ قَرِيبٍ مِنْ جُحْرِهِ، وَاسْتقبلَ الرَّبيعَ فرْحانَ مُبْتَهِجًا.

وَما اسْتَقَرَّ في مَكانِه لَحظَةً حتَّى تَمَلَّكَهُ السُّرُوْرُ، فَبَرِقَتْ عَيْنَاهُ السَّوْداوانِ، واضْطَرَبَ ذَيْلُه الطَّوِيلُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى فُرْصَةً سانِحَةً لِتَحْقِيقِ مَأْرَبِهِ (رَغْبَتِه).

(٦) الفَرِيسَةُ

أَتَعْرِفُونَ سرَّ هذا الْفَرَحِ؟ إِنَّي مُخْبِرُكُمْ بِه: لَقَدْ سَمِعَ «أبو بُرَيْصٍ» حَرَكَةً خَفِيفَةً طالَما أُعْجِبَ سَمْعُهُ بِطَنِينِها (صَوْتِها)؛ فابتهجَ وظَهرَ نَشاطُهُ، وَتَرَبَّصَ (انْتظرَ وَتَرقَّبَ) لانْتهازِ تِلكَ الْفُرصَةِ السَّانِحَةِ، وَأرْهفَ سَمْعَهُ (أصْغَى وَتسمَّعَ)، حتَّى يَتَبَيَّنَ صاحِبَ الصَّوْتِ.

ورَأَى «أبُو بُرَيْصٍ» ذُبابةً زَرْقاءَ، تَطيرُ مِنْ حَوْلِهِ، وتَطِنُّ بالْقُرْبِ مِنهُ: «زِي … زي …»؛ فاشْتغلَ بِصَيْدِها عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وترصَّدَ لها حتَّى لا تُفْلِتَ منهُ، وحدَّق بَصَرَهُ فِيها.

ولوْ رأيْتَهُ حينَئِذٍ لرأيتَ مَنْظَرًا عَجَبًا؛ فَقدْ كان يُخرجُ لِسانَه ويَلْحَسُ شَفَتَيْهِ، مُتَحَفِّزًا لِاقْتِنَاصِ فَرِيسَتِهِ فِي شَرَهٍ (حِرْصٍ شَدِيدٍ) لا مَثيلَ لهُ.

ثُمَّ أعادَتِ الْحَشَرَةُ طَنِينَها: «زِي … زِي …»، وطارَتْ إِلَى حَجَرٍ نَاتِئٍ (مُرْتَفِعٍ خارِجٍ) فِي طَرَفِ الْحَائِطِ.

فَغَضِبَ «أبُو بُرَيْصٍ» مِنْ فِرَارِها (هَرَبِها)، وَحَزَنَهُ أَنَّها لا تَكادُ تَسْتَقِرُّ في أيِّ مَكانٍ تَحُلُّ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ دَقِيقَتَيْنِ.

وَلَمْ تَمْضِ لَحْظَةٌ أُخْرَى، حَتَّى اقْتَرَبَتْ مِنْ «أبِي بُرَيْصٍ»، وحامَتْ (دَارَتْ) حَوْلَ طَائِفَةٍ مِنَ الْحَشَائِشِ، وَلَمْ تَفْطِنِ الْحَمْقاءُ إلى عَيْنَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ تَرْقُبَانِها، وَتَتَرَبَّصَانِ لَها.

فَقالَ صاحِبُنا وهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: «لَقَدْ حَانَتِ الْفُرْصَةُ، وإنِّي — إنْ أَضَعْتُها — لَأَكونَنَّ مِثالًا لِلْحَماقَةِ وَالْكَسَلِ!»

ثمَّ اسْتَعَدَّ «أبُو بُرَيْصٍ» وَتَهَيَّأَ لِاقْتِناصِها — فِي حَذَرٍ وانْتباهٍ — وقالَ: «واحد … اثنان …» ثُمَّ هَبَّ (نَهَضَ وَقَفَزَ) فِي الثَّالِثَةِ هَبَّةً واحِدةً، فَأَصابَ طِلْبَتَهُ (حَاجَتَهُ)، وظَفِرَ بِصَيْدِهِ السَّمينِ.

وامْتَلأَتْ نَفْسُ «أبِي بُرَيْصٍ» غِبْطَةً وسُرُورًا لِنَجَاحِهِ وَظَفَرِهِ بِتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ، والْتَمَعَتْ عَيْناهُ، وَاهْتَزَّ ذَيْلُهُ فَرَحًا وابْتِهاجًا.

ثُمَّ قالَ ولِسانُهُ يَخْتَلِجُ (يَتَحَرَّكُ ويَرْتَعِشُ) مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ: «مَا أَلَذَّهُ طَعامًا، وَما أَشْهاهُ غِذاءً! فَلْنَتَلَمَّسْ وَاحِدَةً أُخْرَى.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤