الفصل الثالث

(١) «أبُو مَعْبَدٍ»

مالَتِ الشَّمْسُ لِلغُرُوبِ، والصَّدِيقَانِ لا يَزالانِ يَتحدَّثانِ أَحاديثَ شَتَّى. وإنَّهما لَكَذَلِكَ إذِ الْتَفَتَ «أبو بُرَيْصٍ» فَجْأَةً إلى صاحبَتهِ، وقال: «هذا ابنُ عمِّكِ قادِمًا علَيْنا، يا «أُمَّ هُبَيْرَةَ». وهوَ آيةٌ مِن آياتِ القُبْحِ والدَّمَامَةِ، وقدْ نَسِيتُ اسْمَه؛ فهلْ تَذْكُرينَه لِي مُتَفضِّلَةً؟»

فالْتَفتتْ «دابَّةُ النَّهرِ» إلَى القادِمِ، وحَيَّتْهُ قائِلةً: «عِمْ مَساءً يا ابنَ عَمِّي «النَّقَّاقُ»، ولْيَطِبْ لَيلُكَ! كَيفَ تَجِدُكَ يا أَبا مَعبَدٍ؟»

فقالَ لَها «النقَّاقُ»: «بخَيْرٍ — يا ابْنةَ العَمِّ — مادُمْتِ أَنتِ بِخَيْرٍ.»

فاسْتَأْنَفتْ «دابَّةُ النَّهرِ» قائِلةً: «ما لِي أَراكَ تُسْرِعُ فِي خُطَاكَ، يا «أبا مَعْبدٍ»؟ أَلا تَستَرِيحُ مَعنا قَليلًا؛ لِتَشْرَكَنا في أَسْمارِنا وأَحَادِيثِنا المُعْجِبَةِ، وتتَعرَّفَ بِصَدِيقِي العَزِيزِ «أَبِي بُرَيْصٍ»؛ فهوَ يُحِبُّ أن يَراكَ وَيأْنسَ بكَ؟»

فقالَ لها «النقَّاقُ»: «مَعذِرةً — يا ابْنةَ العَمِّ — فلَسْتُ أَستطِيعُ البَقاءَ مَعَكُما؛ لِأَنَّني في حاجةٍ إلَى زِيارةِ حَديقةِ الكُرُنْبِ، قبْلَ أن يَضيعَ الوَقْتُ. فوَداعًا!»

(٢) ابْنُ العَمِّ

فقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «إِنَّ ابنَ عمِّكِ «النقَّاقَ» يَجْمعُ إلَى دَمامَةِ المَنظرِ (قُبْحِ الهَيْئَةِ) قِلَّةَ الذَّوْقِ، فهلْ أَنْتِ واثِقةٌ أَنهُ ابنُ عمِّكِ حقًّا؟»

فقالتْ «دَابَّةُ النَّهرِ»: «لَيْسَ في هذا أقلُّ شَكٍّ. ولَوْ أَنْعَمْتَ النَّظَرَ، لَرَأَيتَنا مُتَشابِهَيْنِ في أَشْياءَ كَثيرَةٍ، وإنْ كانَ مَوْطِنُه البَرَّ، ومَوطنِي البَرَّ والبَحْرَ معًا عَلَى أَنَّ له مِثلي …»

فقاطَعها «أبو بُرَيْصٍ»: «كَيفَ يَكُونُ «النقَّاقُ» ابنَ عمِّكِ، وهوَ بَطِيءُ الخُطَى، يَمشي مُتَثاقِلًا، ولا يَقدِرُ عَلَى القَفْزِ كما تَقفِزِينَ؟ وكَيفَ تَزْعُمِينَ أنَّه يُشْبِهُكِ، وأَنتِ جمِيلَةُ المَنظَرِ، حَسَنةُ التَّكْوينِ، رَقِيقَةُ الْجِلدِ، لَمَّاعَةُ البَشْرَةِ؛ عَلَى حِينِ أرَى جِسمَ «النقَّاقِ» مُشَوَّهًا، تُغطِّيه بُثُورٌ (خُرَّاجاتٌ صَغيرةٌ ودَمامِيلُ) كريهةٌ بَشِعةٌ؟»

(٣) فَضلُ «النقَّاقِ»

فقالتْ لهُ: «لَسْت أُنْكِرُ علَيكَ أنهُ يَبْدُو — لِمَنْ يَراهُ — قَبِيحَ الْمَنظرِ دَمِيمَ الْخِلْقَةِ. ولكِنْ: أيُّ ذَنْبٍ لهُ فِي ذَلِكَ؟ أتُراه كان قادِرًا عَلَى تَجْمِيلِ صُورتِه فلَمْ يَفْعَلْ؟ كَلَّا — يا «أبا بُرَيْصٍ» — فإِنَّ مِن كمالِ عَقْلِكَ وأَصَالَةِ رَأْيِكَ أَلَّا تَغْتَرَّ بالظَّواهرِ؛ فهِيَ لا تَدُلُّ علَى حقِيقَةِ النفْسِ المُحَجَّبَةِ عنَّا (الْمَسْتُورةِ المُخبَّأَةِ). إِنَّ «النَّقاقَ» — لَوْ عَلِمْتَ — مِن كِرامِ الضَّفادِع، وهوَ طَيِّبُ القَلبِ مَحْمُودُ الأَثَرِ. وما أجْدَرَ النَّاسَ أنْ يُحِبُّوه؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ وَقْفٌ علَى مُحارَبةِ الْحَشَراتِ الضَّارَّةِ الَّتي تُتْلِفُ الْحَرْثَ (الزَّرْعَ)، وتُفْسِدُ البُقُولَ والْخُضَرَ. ولكنَّ النَّاسَ — لسُوءِ حَظِّه — لا يُنْصِفُونَهُ، ولا يَقْدُرونَ هذا الصَّنِيعَ (لا يَشْكرونَ لهُ هذا الْجَميلَ). فكَيفَ لا أُحِبُّ هذا التَّاعِسَ المَظْلومَ؟»

فقال «أبو بُرَيْصٍ»: «لَقدْ حَبَّبَتْهُ إلَى نَفْسي تِلكَ المآثرُ (المفاخِرُ) الَّتي قَصَصْتِها علَيَّ؛ فما أكْرمَه دابَّةً! وما أبَرَّهُ مُصْلِحًا».

ثُمَّ استَأْنَفَ «أبو بُرَيْصٍ» قائلًا: «لَقدْ جَنَّ اللَّيلُ (أظْلَمَ)، ولا بُدَّ لي مِنَ العَوْدةِ إلَى دارِي. وأنا علَى ثِقةٍ أنَّ أُسْرَتي ستَلْقَانِي غَاضِبَةً؛ لأنَّنِي تَأَخَّرْتُ — فِي هَذَا اليَوْمِ — عَنِ العَوْدَةِ حَتَّى هَذِهِ السَّاعةِ. فَوَداعًا أيَّتُها الرَّفِيقَةُ العَزيزةُ!»

فَقالتْ لهُ: «إلَى اللِّقاءِ القَريبِ، يا أبا بُرَيْصٍ.»

(٤) المَطَرُ

وكانَ «أبو بُرَيْصٍ» يَنامُ علَى صَوْتِ الضَّفادِعِ — كلَّ لَيْلَةٍ — ويُطْرَبُ لأَناشِيدِها الجميلَةِ، ونَقِيقِها الَّذِي طَالَما ألِفَ الاستِماعَ إلَيْهِ.

وبعْدَ أسابيعَ عِدَّةٍ، أمَطَرَتِ السَّمَاءُ — فَجْأَةً — فِي وَقتِ الصَّباحِ، ثُمَّ هَطَلَتْ (تَتابعَ مَطرُها)، وانْهمَر المَطرُ (سالَ غَزيرًا كَثيرًا). حتَّى إذا كادَ النَّهارُ يَنتَصِفُ، بَدَّدتْ أضْواءُ الشَّمسِ ما تَراكَمَ مِنَ السُّحُبِ الكَثيفَةِ. وكَانَ «أبو بُرَيْصٍ» — في أثْناءِ هُطُولِ الْأَمطارِ — مُلازِمًا جُحْرَه في نَفَرٍ — (جَماعةٍ) مِن أُسْرَتِه، وهُم: «بُرَيْصٌ» و«أَبْرَصُ» و«سامُّ أبرصَ»، وَغَيْرُهم مِن الْأَبارِصِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤