الفصل الثامن

ويقضي دورَ الخطبة في تربية المختارة، ولم يحدث في اللغة الألمانية أن كتب رجلٌ دنيويٌّ أو شاعرٌ إلى امرأةٍ ما هو أشدُّ من ذلك سِحرًا وأعظم بَهْرًا، ولم يحدث أن كتب بسمارك مثل ذلك مرةً أخرى، وتُبديه تلك الرسائلُ المملوءة فتنةً في الذِّروة من خاطره ودَرْيِه، ومن نزواته ومجازاته، ومن دقَّته ورقَّته، وتقودها يدٌ سديدةٌ إلى دَرْبه رويدًا رويدًا، وفيما تراه يُقيت تقواها بعنصر جديد، وفيما هو يدعها تعتقد أنها تُروِّض رجلًا برِّيًّا، تُبصره يروِّض ابنةَ الريف تلك التي هي أجفَى منه وأحدث كثيرًا في الواقع، ويبلغ هذا التحوُّل من الغرابة ما تكتب معه ذات يوم إلى السيد المفتون بقولها: «إنك مغرمٌ بالرسميَّات، مع أنني أودُّ اقتحام جميع العوائق عند إمكان ذلك.»

ويساورُها قليلُ وجَل من إزعاجه في أول الأمر، وتكتب فتقول: «لا تنظر إليَّ بهذا المقدار من السخرية، ولم يبقَ عليَّ إلا أن أُمسَّ قليلًا حتى تذرِفَ عيناي نهرًا من الدموع، فلا ينبغي لك أن تفعل ذلك، فليس ذلك ما تبتغيه مني، آه! اعفُ عني، أنت الوحيد، اصبرْ عليَّ، انتظر فصل الربيع ونتائج ما زرعت.» ثم تذكر من فَورها ما قيل عن إرعاده للناس فتقول: «أنتظر منك أن تُظهر لي ما في قلبك من وفاء، وماذا يكون لو خدعتُ نفسي؟ إن الرِّيبة هي أخوفُ ما يكون في هذا العالم … يدلُّني خطُّ رسائلك على أنك غدوتَ أكثر اتِّباعًا لهواك مما تدل عليه كُتُبك السابقة، فهل هذا هو أمرُ فؤادك يا أوتو؟» ثم تُجيب عن سؤالها هذا بأسلوب نسويٍّ فتقول: «لا تُبالِ بكون الأمر على هذا المنوال، فلن أكون أقلَّ مرونةً مما كنتُ عليه يا حبيبي، وسأُحاول أن أثنيَ ما لا أقدر على كسْره، وإذا لم يتمَّ لي هذا فلم تسلُك سبيلي التزمتُ جانب الصمت وصنعتُ ما تريد.» وهكذا استطاع في أربعة أشهر أن يحملها على التسليم التام بحزم ممزوجٍ بلُطف، وهي إذا ما فرضتْ عليه مطالعةَ كُتُب جان بول ولُبسَ مِعطف من مخمَل — ويكره الأمرين — قَرَنَتْ ذلك بكلمة «لا» المعهودة.

وهو يبدو كثيرَ الحمد لها؛ لِما كان من تسليمها، وهو يظهر عظيمَ الشكر لها لِما كان من بقائه معتزلًا زمنًا طويلًا، وهو على ما كان من اكتشافه في نفسه قبل خِطبته ما يحتاج إليه العيشُ النشيط المنظَّم من شروط لازمة، وعلى ما كان من تجلِّي خطَّته قبل خِطبته بسنة، تُبصره قد بسط هذه التحولات على حسابها وزاد عزَّتَها بفوزه.

ويقصد منزلَه بعد خِطبته فيكتب قوله: «دخلتُ القرية فشعرت أكثر من قبل بمقدار ما في وجود مسكن للإنسان من بهجة، ولا تكادين تُقدِّرين يا فؤادي درجةَ ما يُساورني من اليأس عندما كنت أعود إلى منزلي بعد سياحة، وما كان الفراغ في حياتي ليظهرَ في زمنٍ مثل ظهوره في تلك الأحايين، وذلك إلى أن أنهمكَ في كتاب لا يكون كئيبًا في نظري، أو إلى أن أزاول عملي اليوميَّ آليًّا. والآن ما أشدَّ اختلافَ نظري إلى أيِّ شيء كان، لا من حيث الأمور الخاصة بك فقط، ولا من حيث إن هذا الأمر أو ذلك الأمر يلائمك فقط (وإن كنتُ قد شغلت بالي منذ يومين لأجدَ أصلحَ مكان لمكتبك)، بل لجدَّة الوجه الذي أُدرك به الحياة، وأجدُني مباليًا أيضًا بشئون الأسداد والأمن.» وهو قبل أن يحقِّق ما يصنع، ينسخ لها قصيدتَين قائمتَين لبيرون، (وإن لم تكونَا كذلك في نظره) طويلتَين محزنتين إلى الغاية، ويكتب في أسفلهما كلمةَ «هراء!» ويُرسلهما إليها من غير أن يمحوَهما مع ذلك.

وفي كتابه الثاني يبدأ تربيتَها بلطف، فيوجب عليها أن تُكِبَّ على تعلُّم اللغة الفرنسية، وإن لم تفعل ذلك عَطِلت من المقام في المجتمع الراقي، وهو يضع أجمل الصيغ وأكثرها سحرًا مع الجهر بذلك، ويمضي وقت قصير فيُخبرها بضرورة تعلُّمِها ركوبَ الخيل، وتمرُّ أسابيعُ قليلةٌ فيقول: «عُدتُ غيرَ مبالٍ بتلك القصائد الإنكليزية الهزيلة، والآن أُبصر سِنَّورًا١ أسود يلعب بها على ضوء الشمس، فيُدحرجها ككرة، فيسرُّني أن أرى ذلك.» بيدَ أنه يداوم على نسْخ ما تيسَّر من شعر بايرون فيُرسله إليها، وفي الكتاب التالي يُرسل إليها قصائدَ فرنسية عن الألم العامِّ، ويضيف — مع وهمٍ عجيب — الكلمةَ: «لا تَشغلي بالَكِ بأنني أقرأها الآن، فقد غدتْ غيرَ مؤذية لي.»

ويستشهد بإحدى تلك القصائد ذات مرةٍ فيُطلق العنان لخيال أيامه الأولى فيقول: «أجِدُني شديد الرغبة — في مثل تلك الليلة — أن أكون شريكًا في السرور وجزءًا من زوبعة في عتمة، فأثِبُ من فوق الصخور مع حصاني القافز في دويِّ انحدار نهر الرين»، وما كادت الفتاة تُدرك مذعورةً معنى كلمات خطيبها تلك، وما كادت تفهم ذكرياتِ فَتائه الفالت تلك، فوجدته كفارسٍ يقف حصانه الوثَّاب عند صخرة، حتى أبصرتْه يقلِب حالتَه الروحية بإضافته من خلال دخان سيغاره ساخرًا، قوله: «إن لهوًا كهذا مما لا يُسمَح به غير مرةٍ واحدة في عُمر المرء، مع الأسف.»

وهكذا كان قلب أوتوفون بسمارك مملوءًا بالمتناقضات.

وكان فؤادُ بسمارك يروق عندما يصف أفعالَه الراهنة، ولا تدورُ هذه الأفعال حول إدارة ما يملك، بل حول الأسداد والسلطان، وما مثَله إلا كمَثل القابلة٢ التي تنتظر الوضع دومًا، فيحدِّث في رسائله عن اضطراب نهر الإلبة، وعن التدابير التي تُتَّخذ للسيطرة على الجمَد،٣ وهو إذا ما قضى نصف لياليه في الماء لإصدار ما يجب من الأوامر؛ شعَر بأنه في حَبَر،٤ ويُحسُّ بسمارك أنه في عافية على الدوام إذا ما عالج قُوى الطبيعة الكبرى، ويقول بسمارك: «وداعًا! قِطعُ الجليد تدعوني عندما أعزف بنشيد بابِنْهايم وتُغنِّي جَوْقة الفلاحين الراكبين حصُنًا؛ فالشجاعة يا أصحاب! ولمَ لا يُنشِد هؤلاء الأغبياء في الحقيقة؟ فيا لَروعة هذا! ويا لَشعرية هذا! يظهر أن حياةً جديدة تهتزُّ فيَّ، والآن قد انتهى ذلك الانتظار الطويل وحلَّ الأمرُ محلَّه … خادمكِ بسمارك يُقبِّلك.» يا للهزَج!٥ يا لَبهجة الحياة! ثم يأتي في الذَّيل: «إذن، أرسلي إليَّ غلاف الرسالة التي وصلت إليك بعد خمسة أيام في الطريق، فسوف أشكو الأمر إلى برلين.» ثم يقصُّ عليها نبأ الليلة الحاسمة فيُخبرها بسَير حقول الجليد مع ضوضاء، «وتتكسَّر هذه الكُتَل الجليدية ويَشبو٦ بعضُها على بعض وتجول وتصول على ارتفاع القَصر، وهي تؤلِّف أحيانًا حواجزَ على طول نهر الإلبة فتتجمع المياه حتى تأتيَ على كل شيءٍ أمامها هائجةً، والآن قد كُسِر جميع المردة إربًا إربًا في النضال فتُبصرين الماء مستورًا بأجزاء جليدية صغيرة عائمة متصادمة حانقة على حين يحملها النهر إلى البحر الحر كسلاسلَ محطَّمة.»
ومن خلال مثل تلك البلايا الطبيعية، التي لم تكن في الحقيقة غيرَ تأملات لحال بسمارك النفسية، نسمع بسمارك الثوريَّ ينادي بوَغْيِ٧ الحرب، وندرك السبب في أن نسبه وحده هو الذي جعل منه نصيرًا للنظام الملكي.
وتُبصر بسمارك القوي المملوء حيوية، كما في ساعات النضال تلك التي تهدِّد فيها الأوساط فيفرض إرادته عليها، لا يزيد نشاطًا إلا عند قدرته كسياسيٍّ حكيم على تحويل الخِصام إلى وِئام، ومن قوله بحماسة:

إن من أعزِّ دواعي الغبطة ما كان في هذا الصباح من توفيقي بين واحد وأربعين فلاحًا وقحًا يحقد كلُّ واحد منهم على الأربعين الآخرين فيدفع مختارًا ثلاثين تاليرًا إذا ما استطاع أن يُخسِرهم عشرةَ تاليرات، ولو كان مدير الأسداد السابق في مكاني لسوَّف الأمر أكثر من أربع سنوات؛ لِما قد يجده في ذلك من بقرة حلوب. لقد استطعتُ أن أُصلح ذات بينهم في أربع ساعات، ولمَّا صارت الوثيقة الممضاة في جيبي ركبت العربة فكان لي بذلك من السرور النادر ما أجدُني مدينًا به لمقامي الرسمي. وقد دلَّني هذا الحادث مرةً أُخرى على أنَّ اللذة الحقيقية في المنصب الرسمي لا يمكن أن تُنال إلا إذا اتصل الرئيس بالمرءوسين اتصالًا شخصيًّا، والرئيس أو الوزير عندنا لا يتصل بمَن هم تحت إمرته إلا بالحبر والورق.

وإني حين أفكِّر فيما يمكن رئيس الأمة مهما بلغ من السموِّ والسؤدد أن يزيده من سعادة ويخفِّفه من بُؤس بفضل نشاطه الرسمي، وإني حين أفكِّر في أن الوزير أو الملك (ما لم يكن ضالًّا مجنونًا) لا يستطيع أن يُغمض عينيه عن يقين بأن وقَى أيَّ واحد ممن هم تحت رعايته من كدَر أو حبَاه بسرور، لا أقدر على منع نفسي من إنعام النظر في قصيدة لينو٨ المحزنة المسمَّاة ﺑ «الخلي». وليست حياتنا الدنيوية مجدية إلا من أجل أرواحنا. وإذا ما قِيس إمتاع الآخرين بالسعادة فوق الأرض بالحياة الأبدية وُجد أمرًا لا يُؤبه له، فهو ينقلب إلى غبار وتراب بعد ثلاثين عامًا، ثم تعصف به ألوف السنين، ومَن يمُتِ الآن لا يُبال بأنَّ حياته في هذا العالم كانت ذات بهجة أو غمٍّ.

وها هو ذا جالسٌ في عربته حاملٌ لمحضره في فروته، ويبلغ السنة الثانية والثلاثين من عمره، ويُفترض أن يكون راضيًا عن نفسه وعن العالم للمرة الأولى في حياته، ويفكِّر في الفلاحين الواحد والأربعين، وفي سبب تصارُعهم وتباغُضهم، وفي الوجه الذي قلَّب به أمورَهم فجعل الوفاق يسودهم، ويتمثَّل أمرَ الدول والأمم بدلًا من الفلاحين، ويتأمل فيما قد يشعر به القطب السياسيُّ — الوزير أو الملك — الذي يصنع على مقياس واسع ما استطاع صنعه بنفسه في هذا الصباح على مقياس محدود، ويُبصر من جديد النظامَ القِرطاسيَّ الكريه الذي يُفسد نظر كلِّ بروسي، ويُذعَر من رغبته الحارة في السلطان، ويحمل نفسه على نطاقه الضيق، ويسخر من سرور البشر ويقصد هادئًا باب أجداده.

ويوفَّق لكبير وقتٍ في بيته، ويقضي هذا الوقت في كتابة طويلِ الرسائل إلى حنَّة فيعرِض عليها آراءه ومشاعره ورِيَبه محاولًا في حياته الباكرة تلك صُنع ما يروقها، ويُخبرها بما كان من تبادُله الكُتُب هو وابنةُ عمِّه التي هي سَمِيَّة لها فكان يُحبُّها قبلها، وترتجف مع دهشٍ من إمكان حُبِّ الرجل مرتين بمثل تلك الشِّدَّة، ويُنبئها بأمر الكتاب الطويل الذي أرسله إلى ابنة عمه تلك عندما ترك خدمة الدولة، ويُضيف إلى ذلك قوله لها بعد فترة السنوات العشر تلك: «لا أزال عند رأيي الذي كنت قد أبديته حول عُقم نظامنا الإداري، وإذا أصاب رفقائي في الدراسة تقدُّمًا باهرًا شعرت متوجعًا — أحيانًا — بأنني كنت أستطيع أن أفوز بمثل ما نالوه، غير أن لي سُلوانًا بتفكيري دومًا في أنَّ بحثَ الإنسان عن السعادة خارج نفسه أمرٌ باطل.» وفيما هو يكتب ذلك عن صدق وإخلاص تجدُه يندفعُ بحرارة في سبيل انتخابه عضوًا في اللَّنْدتاغ، وتراه لا يألو جهدًا في اختياره عمدةً للناحية.

وهو يُداري رِيَبَها ومشاعرها بأسلوب أبويٍّ سامٍ سلسٍ فيقول لها: «ولمَ تودِّين البكاء بهذه المرارة يا ملاكي؟ ولكنْ بلِّغيني السبب في أنك تُريدين تذريفَ الدموع، وأنا رجلٌ من المارش القديم، وأنا امرؤٌ يَرغب في معرفة عِلل الأمور، وأنا الذي رُبِّيَ في بوميرانيَة فيما بين السنة الثانية والسنة السابعة عشرة من عمره فيُدرك الدُّعابة ببطوء أحيانًا.»

وهي إذا ما كتبت بعد زيارته رسالةً مملوءةً شوقًا إليه أجابها بقوله: «يجب أن تتعلَّمي الشكر لِما تمَّ لك من السرور، لا البكاء كالطفل عند ختامه.» وهكذا تُبصِر هذا الساخط الأزليَّ يوصي تلك الفتاة المتَّقدة بما لا عهد له به من الحبور الذاتي، وهي إذا ما بُهرت بوجود عُبَّاد لها جرحته في كبريائه، وهي تزدري — كما يروي — كلَّ من لا يعرف قيمتها، فتقول له: «سيدي! إن وَلُوعَ السيد ﺑ… بي دليلٌ على أن كلَّ رجل لا يعبدني هو جليف غير حصيف … ولا تكن من الاعتدال كما لو كنتُ قد اقتطفتُ إحدى شقائق النعمان بعد طواف عشر سنين في حدائق ألمانية الشمالية.» وما كان من زهوٍ فطريٍّ في السيد بسمارك الذي لم يصنع شيئًا لإثبات قيمته حتى الآن فإنه يحفزه إلى جعْل المرأة التي اختارها أزهَى نساء العالم طُرًّا٩ لهذا الاختيار وحده.

ويتلو التوراة كثيرًا في الوقت الحاضر، فيذكر ذلك، ويبدو وضْعه تجاه الزواج على الوجه اللُّوثريِّ تمامًا، فيقول دومًا: «علينا أن نكون قلبًا واحدًا وقالبًا واحدًا، وأنْ نألمَ معًا، ونُعرِب عن أفكارنا معًا، فلا تكتمي شيئًا عني، ولا يكون السرور حليفَك في كلِّ وقت عند مسِّ أشواكي. وعلينا أن نرضى بخَدْش أيدينا بها سويَّةً ولو دُميَت.»

ويصفُ لها وصفًا واضحًا أمرَ قديم أُسَر الخدَم والعُمَّال في أملاكه، ويُحدِّثها عن خدمة أجدادهم لأجداده، فيقول لها: «يصعُب عليَّ أن أُسرِّح أيَّ واحد منهم بعد أن يخدمني، ولا أُنكر أنني فخورٌ بثباتي على المبدأ المحافظ في هذا البيت حيث عاش أجدادي في غُرَفه منذ قرون، وحيث وُلِدوا وحيث ماتوا، وحيث تبدو صورهم على جُدُره وجُدُر الكنيسة فيظهرون فيها مدجَّجين بالسلاح، ومنهم الفرسان الطويلو الشَّعر أيام حرب الثلاثين سنة مع لِحًى وشواربَ مذرَّبة١٠ ومنهم رجال ذوو شعور مستعارة مذيَّلة وأحذية حُمر مكعَّبة ذوات جَرْس١١ في المجلس، ومنهم خيَّالة ذوو صفائرَ قد حاربوا من أجل فردريك الأكبر، وفي الختام تُبصرين أنيثًا١٢ سليلًا لأولئك فيركع الآن عند قدمَي فتاةٍ سوداءِ الشعر.»
وعكسُ اهتداء بسمارك هو الذي يقف نظر بسمارك مرةً أخرى، ويقرِّر هذا النصرانيُّ الجديد أن يُعنَى بالفقراء في أملاكه أكثر من قبل، فيقول: «إنني حين أفكِّر في كفاية تالير واحد لعَيش الأُسرة الواحدة من هذه الأُسَر الجائعة عدَّة أسابيع، وإنني حين أُنفق ثلاثين تاليرًا في سبيل زيارتكِ أجدُني سارقًا لهؤلاء الفقراء الذين يُعانون ألمَ السَّغَب١٣ والبرد، أجلْ، يمكنني أن أدفع المبلغ وأقوم برحلتي مع ذلك، غير أَنَّ هذا لا يُغيِّر من الأمر شيئًا، فمضاعفة ذلك المبلغ وجعلُه عشرة أمثاله مما لا يسكِّن سوى قليل من البؤس، وما عليَّ إلا أن أهدِّئَ نفسي بأن أُغالطها فأرى أن ما أبذله ليس تبذيرًا في سبيل لَذاذي، بل هو واجب أؤدِّيه نحو خطيبتي … والفقراءُ هم الذين يجب أن تُدفَع إليهم نفقاتُ أسفاري مع ذلك، ومن عويص المسائل أن أعرِف ماذا أُنفقه في لَذاذتي مما جعله الله تحت حراستي مع وجود أُناس يتضوَّرون جوعًا ويُقاسون قُرًّا١٤ في كنفي فيُرهِنون فراشهم وثيابهم عند عجزهم عن العمل، «فبِع ما تملك ووزِّعه بين الفقراء واتَّبعْني!» ولكن ما هو المدى الذي يؤدِّي إليه ذلك ألا إن الفقراء كثيرٌ، فلا تكفي جميع خزائن الملك لإطعامهم، وسنرى ما يكون.»

وفي تلك الحال حين رأى بسمارك أن يختبر إيمانَه الحديث، تجده يقتحم للمرة الأولى (وللمرة الأخيرة مع مشاعرَ بلغت تلك الدرجة من الروح النصرانية) مسألةً يُنكرها ذات يوم إنكارًا تامًّا لما يكون من قصوره عن إدراكه لها، والحقُّ أن تصوُّفَه هزلٌ غير ملائم لذكائه، وما يصفه بسمارك مذعورًا من سَرَقٍ نحو الجائعين، وما كان من تردُّدِه في التمتع بالملاذِّ المناسبة لمَن هم في مثل وضْعه ولو لبضع دقائقَ (تلك الملاذ التي يتمتَّع بها لِما كان من انتهاب أجداده الفرسان المعلَّقة صوَرُهم على الجُدُر للأسلاب)، فأمورٌ جديدة عليه، فأمورٌ غريبة عن مزاجه، فأمورٌ عابرة لغُربها، ومما لا مراء فيه أن بسمارك المالك راغبٌ في العناية بمرءوسيه، بيدَ أن مما لا يدور في خلَدِه ولا يأذَن فيه أن يبحث هؤلاء الناس في شئون أنفسهم وأن يُطالبوا بعيشٍ أفضلَ مما هم عليه وفقَ مرسوم؛ وذلك لأن بسمارك لم يَغْد نصرانيًّا صادقًا في الحقيقة فيُطلَب منه أن ينتقل إلى تلك المرحلة فتجده غيرَ قادرٍ على النفوذ إلى رسالة عصره الاجتماعية أو القول بها.

وبسمارك إذ يجاهد خطيبته أكثر من أن يجاهد نفسَه في سبيل التوراة والاعتقاد؛ فإنك تجده اليوم عاطفيًّا وتجده في الغد هزليًّا، وبسمارك يُمسكنا دومًا، وبسمارك في ذلك مخلص دومًا، وبسمارك يُفسِّر ويَنقُد التوراة ثم يصرخ من فَوره قائلًا: «ومَن هي العِفْريتة بولين؟ أهي ابنةُ عمٍّ لم أعرفها سابقًا؟ وإني بسبب هذه العِفْريتة أذكر أنني لا أستطيع أن أجد في التوراة نصًّا على حظْر تدنيس اسم الشيطان، فإذا كنتِ تعرفين ذلك فتفضَّلي عليَّ ببيان الإصحاح والآية.» والواقع أنك ترى الفارس والموت والعفريت يتناوبون هنالك، وهو يروي أنَّ أجداده لم يكونوا صادقي النصرانية، «ولم تكن أمي أحسنَ منهم إيمانًا، وهل أتاك حديثُ الرئيس الفريزي١٥ حين عِماده؟» ويسأل عن مكان أجداده الملحدين فيما مضى. ويقال له: إنهم كانوا مدينين فيرفض تعميده، ويقول: «أوَدُّ أن أكون حيث يكون آبائي.» ويمضي شجاعًا بعد تلك الوثنية، فيقول: «أذكر ذلك من الناحية التاريخية فلا أطبِّقه.» وهو يُعلِّق على ذلك كثيرًا من التأملات اليائسة، فيقول: «لا أريد أن أنطق بالرِّيَب.» وهو بعد مثل تلك العبارة يقدِّر ضرورةَ وصول رسائله قبل الميعاد بيوم.

وهو خرافيٌّ بفطرته، فتحرِّكُه الخرافةُ أكثر من تحريك الاعتقاد الديني له، فيحسُب في جميع أدوار حياته — حتى في أثناء شَيبته — الزمنَ الذي يجب أن يموت فيه، وهو كرجلٍ سياسيٍّ يذكُر الرقم فيضَع الله أمام دليل ذي حدَّين، فيقول: «إنني إذا لم أمتْ في السنوات (س) مِتُّ في السنوات (و).» أو يقول في كتاب إلى خطيبته: «لا تكادين تعرفين مقدار خُرافيَّتي، فمما حدث أن الساعة الكبرى — الدقاقة الإنكليزية التي ابتاعها جدِّي في شبابه — وقفت بغتةً ومن غير سبب في الدقيقة الثالثة بعد الساعة السادسة، وذلك في المكان الذي كانت فيه منذ سبعين سنة. اكتُبي إليَّ بسرعة واذكري أنك تتمتعين بصحة جيِّدة.»

ويكون هديرُ كيانه أوضحَ من ذلك عندما يُدوِّن نَجاواه١٦ الطويلةَ في يوميَّات بلا شروح، فهنالك يستعمل أعظمَ ما في كلامه الرجوليِّ من استعارات، «وذلك من مميزات الطبيعة البشرية لا ريب. فالذي يكترث لِما يسود حياتَنا الدنيا من سُخْفٍ ولَغْو وغمٍّ يكون أكثرَ انتباهًا من الذي يمسُّ ما هو أقلُّ قوةً من تلك العناصر العابرة الثائرة فينا بفعل ما للصَّفْو غير المكدَّر من أزهار سهلة الذُّبول، وما على الأرض من جليل، تراه أبدًا كملَك ساقط جميل مع عدم صُلْح عظيم في مقاصده وجهوده مع عدم نُجْح حَمِيٍّ شَجِيٍّ.»
وهكذا تنعكس تأملاتُه الكبرى — وفي مثل تلك الأمسية — حين يجلس وحيدًا في ردْهة ذات قِباب عالية يتدفَّق مثلُ تلك العبارات من أعماق نفسه بأسلوب عظيم كاعتراف شاعر، ولكن الصباح إذا لاح وبلغتْه دعوةُ النهار وأنذرتْه الدنيا وما فيها من صراع، هبَّ ذلك الفارس من سُباته،١٧ والآن يتكلم عن شِعر بايرون القاتم في الحسرة والألم، فيقول: «إنه شِعر مخنَّث يمكنني أن أُعارضه بأغنية الفارس: «اطلبِ الموت تُوهَبْ لك الحياة»، وأفسِّر هذا بقولي: توكَّل على الله، وضعِ الرِّكاب على طرفَي جوادك النَّزِق، وجُبْ به البلاد مخاطِرًا غيرَ هَيَّاب عالمًا بأن الموت آتٍ ذات يوم وإن لم يكن أبديًّا. ولكن مع عدم مشاركتي للسيد غَم.»
١  السنَّور: الهرُّ.
٢  القابلة: المولِّدة.
٣  الجمد: الماء الجامد والثلج.
٤  الحبر والحبور: السرور.
٥  الهزج: ضرب من الأغاني فيه ترنُّم.
٦  شبَا: علَا.
٧  الوغي: الصوت والجلبة.
٨  لينو: شاعر ألماني (١٨٠٢–١٨٥٠).
٩  طرًّا: جميعًا.
١٠  مذربة: حادة.
١١  الجَرْس: الصوت.
١٢  الأنيث: مَن كان فيه لين وتكسُّر وتثنٍّ فكان على صورة الرجل وأحوال النساء.
١٣  السغب: الجوع.
١٤  القُرُّ: البرد.
١٥  الفريزي: المنسوب إلى فريز، وهي من بقاع أوروبة الغربية، واقعة على شاطئ بحر الشمال ومقسومة بين هولندة وألمانية.
١٦  النجاوى: جمع النجوى، وهو الاسم من المناجاة.
١٧  السُّبات: النوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤