الفصل العاشر

جئت المكتب في ذات يوم متأخِّرًا على خلاف عادتي فلم أجد البارون، فسألت لامبون عنه فقال: لا أدري ما الداعي لتأخيره، وأظن أنَّ الحادث العظيم قد تمَّ أو كاد، فقلت: وأنا أظن كذلك، فهل لك أنْ تعينني على إرسال البريد المُستعجِل؟ ثم أذهب وأستعلم.

وبينما كنَّا في مُنْتَهى الإكباب على الشغل دخل البارون من الباب تلوح عليه علامات السرور والفرح، فضمَّني إلى صدره حتى كاد يخنقني، وقال بصوت يقطعه الحنان: صبيٌّ، آه يا مكسيم يا ولدي العزيز؟ ما أسعدني، لي ولد، لي وريث، أتسمع؟ لي وريث، ما أدنى الإسعاد إليَّ وما أسخى نُعْمَى الأيام عليَّ!

كان يبكي ويضحك معًا، وكنت أشعر أنَّ يده العريضة تَضْطَرِب فوق كتفي.

فقلت في نفسي لتراع السماء من آثامي: كيف تُمحَى من مُخيِّلتي ذكرى أيام قضيتها بالفِسْق، وهَتْك أعراض الناس؟ وهل إنها تزول وفي الوجود وَلَدٌ ربما كان من دمي؟

فكنت في حِيرة كلُّ حِيرة دونها، ولم أجد ما أقول له، غير أنَّ شِدَّة الحنان جعلته لا يدرك ارتباكي.

ثم استلقى على مقعد وامتلأت وجنتاه دمًا فقال: كنت عند جوزيفا، ولما جئت البيت نحو منتصف الليل سمعت فيه حركةً غير عادية، فدعونا درتيل فأسرع إلينا، وجعل يداويها ويعتني بها، وقبل الفجر اشتدت الأوجاع عليها، فبكت بصوتٍ عالٍ وانتحبت، حتى كاد قلبي يذوب وكنت لا أنام ولا أسكن، أمشي في البيت ذهابًا وإيابًا مشية أسدٍ سائر.

وكنت من هنيهةٍ إلى أخرى أتسرق إلى غرفتها؛ عساي أسمع غير البكاء والعويل، فتارةً أنظر من الشباك، وطورًا من ثقوب الباب، وآناتٍ أُلْقِي إلى زجاج النوافذ جبينًا يتألَّق بالعرق، ولو كنت بليلي إذن لرأيت بأيِّ شكل مرَّت عليَّ ساعات الليل، وفي الصباح جاءت جونريت تتكلَّم ملامِحُها عن صعوبة الولادة بأفصح من لسانها، فقالت: «لم تلد بعدُ، ويقول الطبيب: إنَّ موضع الولد في الرحم غير حَسَنٍ، وإنَّ حالتها تُنْذِر بالخطر، ولكثرة ما تؤلمها الولادة اضْطُرَّ أنْ يُعْطِيَها جرعتين من المورفين لتخفيف آلامها.» فاحْكُم يا مكسيم على حالتي إذ ذاك، فقد يئستُ من نَجاتِها، وقطعت الأمل منها ومن طفلها، وإني لأعجب من بقاء عقلي سالمًا بعد ما تولَّاه من الاضطراب، ونحو الساعة التاسعة اتَّكأت على المقعد تعبًا، واجِفَ القلبِ، قليلَ الرجاءِ بحال من سار إلى المشنقة، وقد رأى الحبل مُدلًّى، وما كدت أُغمِض غمض طرفي حتى دخلت جونريت عليَّ بسرعة وقبلتني بفرح وقالت: «صبي! صبي! قد ولدت ريتا صبيًّا بعد أنْ كانت في أشد الخطر.» وقالت: «انظر ابنك.» وكانت عيناها تنهمر منهما الدموع، كما يجري من ينبوعٍ صافٍ، فبكيت لبكائها وجرى الدمع رغم قيادي … إنَّ الدموع تُسكِّن الأحزان وتطفئ النيران.

وبينا فركنباك يقصُّ عليَّ القصة، غلب الحنان عليَّ فاغْرَوْرَقت عيناي فمسحت الدموع عنها، وقلت: أهنِّئك يا مولاي بوريثك، وأسأل الله أنْ يجعله من أولاد العمر والسلامة … قد فضَضْتُ البريد في غيبتك مع لامبون.

– نِعْمَ ما فعلت، وأرى الآن أن تعهد إلى لامبون إتمام الشغل، وتذهب معي إلى حيث نقضي بعض المهام الصغيرة، وسأفكِّر غدًا بأن أُحِيل عنك جزءًا من الأشغال وأصرفه إلى غيرك.

فتركْنا المكتب وذهبنا إلى الحانة، فجلسنا على المائدة، فقال البارون: إذا كنَّا لا نأكل هنا، فإنا لا نأكل اليوم؛ لأن جميع أهل البيت منشغلون بريتا وطفلها، ولم يهتمَّ أحدٌ منهم بالطعام.

ثم أخذ قطعة كبيرة من الخبز ووضعها في فيه مرَّة واحدة، قائلًا: سأسمِّيه هنري، وأجعل عرابته جونريت، وسأرى فيمن يكون عرابًا له، أشكرك اللهم فبعد أنْ كانت سلالتي على وشك الانْمِحاء، وبعد أنْ كان اسم فركنباك على قيد شبرٍ من الفناء، عادت السلالة فنَمَتْ، واغتدى لي ولدٌ يرث ما عندي من الأموال الطائلة والخيرات الجزيلة.

فلم أُجِبْه وتركته يعوم ما شاء في بحور الخيال والمسرَّات، وإذ رأيته يلتهم الطعام التهامًا قلت: إنَّ المسرَّة بنت عم الشراهة، فحيث تُوجَد تلك تأتي هذه.

– ذاك أمر واضح، ومتى ترعرع هنري أتبنَّى طفلةً من بنات الفقراء وأجعلها معه مدة حَداثته ليستأنس بها.

وبعد الغداء قصدتُ بيت فركنباك لأسْتَطْمِن عن صحة البارونة، فدخلت وَجِلًا، مضطرب الأفكار؛ خائفًا من أنْ تكون جونريت وقفت على سرِّي، وعلمت بما ندفن في طوايا الكتمان، وكان خوفي منها لما رأيتُها عليه من الذكاء والدهاء، فإذا بها جالسة على كرسي مستطيل والتعب بالغٌ منها، والنعاس حائم على جفنيها، فألقيت عليها السلام، فمدت لي يدها فأمسكتها، فإذا هي رخوة باردة، فقالت: قد رفضتُ اليوم زيارة كلِّ الأصحاب إلَّاك، فلا تؤاخذني إذا لم أقف؛ لأني كليلةٌ لم أنم غرارًا.

– أشكرك يا سيدتي على هذا الالتفات، وأشكرك أيضًا لاعتنائك الزائد بالبارونة ريتا.

– إني أعلم بكلِّ ما تُضْمِره لأختي من الحبِّ والانعطاف، وكأنك بهذا الكلام تسألني عنها.

– نعم، لقد قلتِ الحق، ولم يخِبْ ظنُّك، فأنا أحب البارون أكثر منها؛ لأنه كان سبب سعادتي، وإيذانًا بمِنَنِه قد أتيت الآن لأهنِّئه، وأبثَّ له عواطف قلبي وشعائر إخلاصي، فأرجوك يا سيدتي أنْ تنوبي عني لدى البارونة بإهداء التهاني.

– لا بد أنَّ فركنباك شرح لك كيف كانت ولادتها، وبشَّرك بالنتيجة، وقد كدتُ بالأمس لا أصدق أنها تعيش على تلك الآلام، وتسلم من تلك الأخطار … أمَّا درتيل فقد سحر الألباب النافرة، وأشْخَصَ العيون الزاجِرة بما أبداه من الدربة والمهارة، فكنتَ تراه يسخِّر العلوم لإبادة الأخطار، فكأني به العِلْم تجسَّد في إنسان، وقام بشكل جثمان، ومجمل القول أنه تَعِب عليها تَعَب إنسان يهواها ويظنُّ بقاءه ببقائها.

وسكتت هُنيهةً ثم قالت: ولم أزل أذكره كيف جاءني بغتة، وقال لنا النصر …؟ لنا النصر، صبي؟ واحتمل في يديه الطفل الرخو مستهلًّا وقال: آه ما أجمله يا سيدتي، وما أبرع البارونة في إتقان مصنوعاتها! أتحب أنْ تراه يا مكسيم؟

وقبل أنْ أجيب ضغطت على زِر الكهربائية فدخل الخادم.

– يا جان قل لنعمة تأتي بالولد.

وكانت نعمة مهابةً، قليلةَ ماء المُحيَّا، كريهةَ المنظر، قبيحة الشكل، إذا رآها المُصلِّي كفر، وإذا آنسها الشيخ نفر، وهي إنما دُعِيت بأمر الطبيب؛ لما اشتُهرت به من ملاطفة الأطفال، وحسن إرضاعهم، فدخلت نعمة وفي يدها لفائف من حرير ناعم، مُغشَّاة بالنقوش المذهبة، يتحرك من خلالها رُؤَيسٌ كرأس النعامة، فأخذتْه جونريت من نعمة بكل تحفُّظ وقالت: انظر يا مكسيم، انظر الطفل الحلو … أيكون شيء في الدنيا أجمل من هذا الشاروبيم …؟ خذ قبِّله.

أمَّا حضور هذا الطفل فلم يُحدِث بي الانفعال الذي كنت أخشاه، بل نظرت إليه نظرة شماتة واستخفاف، كأنه مُهانٌ مكروه، على أني بقوة الطبيعة انعطفت إليه وقبلته، وبعد ذلك أعطيتُها إياه فأعطته لنعمة.

وإذ كانت قد طالت زيارتي لها همَمْت بالذهاب، فسألتني أنْ أبقى أيضًا وقالت بصوتٍ ألطف وألذَّ ما يكون للأسماع: لا، لا تخف أنْ تكون زيارتُك مجلبة لإقلاقي، إذ لو كان ذلك لكنت أول من يفتح لك الباب ويرجوك الذهاب، وبما أنَّ ريتا الآن نائمة فقد أمرت الخدام أنْ يُعلِموني إذا استيقظت، ومن هنا إلى هناك نستطيع أنْ نتحادث مليًّا … وقد مضى على قدومي إلى باريس خمسة عشر يومًا، لم تمكِّني الظروف في خلالها أنْ أجتمع بك على حِدَة؛ لأظهر لك ما ألهمَتْنِيه أخلاقُك المُرضية من حبِّك واحترامك، ولا أعلم ما يكنُّ لنا المستقبل، وما تُضْمِر لنا الليالي ولعل هناك خيرًا … وأطلب إليك أنْ توالي زياراتك إلينا، وتجعل الحبَّ مُتبادلًا، وأنت تعلم أنَّ البارون وإنْ كان مسنًّا فله عوائد الشبان وأخلاقهم، فبينما يكون في المنتزهات والنوادي، نكون نحن في البيت نقلِّب الطرف في السقف والحيطان، فلو كان عندنا في مثل هذه الأوقات شابٌّ أديب نظيرك، لحدَّثناه مليًّا وقرأنا معه كتبًا وأقاصيص شتَّى.

– إني أقبل طلبك شاكرًا، وأعدك بموالاة الزيارات، قلت هذا ثم ودَّعتها وذهبت … وقد أدركت من مجمل أقوال جونريت وحديثها أن لها مقاصد هناك تُخْفِيها، وقلت في نفسي: يظهر أن البارون حدَّثها بمسألة زواج بيني وبين بنتها، فالآن أفهم معنى تلك النظرات التي كانت تصرفها إليَّ، والآن أُدْرِك الفرق بين معناها والمعنى الذي نسبته لها، والآن برح الخفاءُ، وتبدَّى الضياء، والآن أفهم سرَّ استِقْصائها عني واستطلاعها أحوالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤