الفصل التاسع

وأخذ بطن ريتا يكبر ويتمدَّد فضاق عليها المِشَدُّ، وبطؤت حركتها، وتحرَّك الجنين في بطنها وزال ماء الجمال من مُحيَّاها، وامتلأت بشرة وجهها ببقع غيَّبت بهاءها، وأفقَدَتْها دلالَها السالب قديمًا، وملاحتها وحسنها الجاذب، بل غيَّرتها من قالَبٍ إلى قالب، فحزنت لرؤيتها، واستأتُ لعِلَّتها، وغمَّني منظر الملاك الكريم راضِخًا تحت وقر الآلام، يصدُّ عنه الرائي بعد أنْ كاد يُقْرِئه والسلام، على أني مع شفقتي عليها لا أعلم لما نَفَرْتُ منها وكَرِهتْها نفسي … لعل ذلك لأجل الولد الذي كان مُزمِعًا أنْ يربطني بها برباط لا يَنْفَصِم.

وهذه المرة ليست كتلك المرة، فقد خافت من تنافُرِنا القبل وهَجَرَتْنا، ولو لم تأت ظروف تدعو لاجتماعنا، لأَفْضَتْ بنا الحال إلى نزاع طويل وإلى شحناء عبوس.

وكانت ريتا لم تألف ابتكارًا من نومها، فاستيقظت ذات يوم على غير عادتها، وشكت ألمًا مُبْرِحًا في الكُلَى، فدعوا الطبيب فقال بعد فحْصِها: إنَّ حالتها تُنْذِر بالخطر، فلَطَمَ البارون على وجهه، وندب حظَّه وبكى حتى لان الحديد، وذاب الجليد، على أنَّ ريتا نَقِهَتْ من مرضها بعد زمن قصير وبشَّرَ الطبيب بزوال الخطر عنها، فقال البارون: هذه أيضًا من بعض أسعاد القدر، وكنت في مرضها أؤانسها وألاطفها؛ لِتَطِيبَ نفسها وتقرَّ عينُها.

وكانت تتقلب ظهرًا لبطن كالصِّلِّ (الثعبان)، ومع ما كانت تؤلمها حركة ابنها كنتَ تراها راضية صابرة، كمن تصبر على الآلام؛ رجاء أنْ تبلغ المرام، وكان مَرَضُها سببًا لخُلْف المواعيد بيننا.

وكان الطبيب يزورها مرات في كلِّ يوم، فيجلس إلى سريرها ويتلو عليها أخبار اليوم، ويقص على سماعها فكاهات ونوادر غريبة، تخفِّف عنها وطأة الحب.

وما زالت الأيام تجري في مجراها، والليالي تمر بالنجوم الضاحكة، فتضحك من صفاها، وريتا تتنازع البقاء إلى أنْ أزِف زَمَنُ وِلادَتِها، وصار منها أقرب من الجفن إلى العين، فثقلت حركتها ثقلًا مُبِينًا، وكنتَ تراها على الغالب جامِدة البصر، كأنها تنظر إلى منظرٍ بهيٍّ، ومُنِعَتْ عنها الناس فأضحت غرفتُها كوادي الموت، واستولت عليها رهبة السكون.

وفي صبيحة ذات يوم أبكرت إليهم، فراعني ما سمعته من أصواتٍ غريبة وحركة رواح ومجيء، فسألت البارون: هل ولدت؟

– لا يا مكسيم، لم تلد بعدُ وإنما أنت تسمع صوت أختها فقد قدمت بالأمس من انجة، وعَهِدْنا إليها تدبير المنزل مدة، وهي امرأة في غاية الرِّقة وقد حوت لُطْفَ العذارى، وخير ما اقتنت النساء من الآداب.

ولم ينته من حديثه حتى فُتِحَ البابُ وخرجت منه امرأة جميلة؛ شعرها الأسود مُرسَل على كتفيها بأجمل ما توجد الطبيعة، فقدَّمني البارون لها، فقالت: قد وصَفَتْك ريتا لي وصفًا يستحيل عليَّ ألَّا أعرفك معه، وما لك عندها من الودِّ المُصفَّى يدعوني لأن أخطب لك ودِّي وأُصفِّيه.

– أشكرك يا سيدتي على لطفك والتفاتك إليَّ.

– ما علمته عنك يجعلني لا أشك بلطفك، والآن اسمح لي أنْ أذهب إلى المطبخ؛ لأُلْقِي نظرة.

– الناظر؟

– أمهلوني خمس دقائق وأعود إليكما بالحليب والخبز فتأكلان.

ولما ذهبت قال فركنباك: ما رأيك يا مكسيم، إنَّ هذه المرأة أجمل من أختها …؟ لكن الحذر من ابنتها فهي فتَّانة، ومع أنها لا تزيد على الثامنة عشر من عمرها، فنَظَراتها تَسْحَر وحركاتها تأْسِر، وإياك أنْ تتمادى معها؛ مخافةً أنْ تحملك أمها على الأدهم، وتعاقبك ولا ترحم، إلَّا إذا كان لك مقصد حميد، واعلم يا مكسيم، أنك إذا اقترنت بها يكون طالعك سعيدًا، وعمرك مجيدًا، وتكون نِلْتَ أجمل العذارى، وأكملهن، وأفضلهن، وإذا كانت فقيرة بلا صداق، فأنا أمهرها على قدر الطاقة والاستحقاق، وقد كتبت لعمِّك أقول: «عندك ابن أخٍ وعندي ابنة أختٍ فما رأيك …؟» وأظن أنه لا يمانع ولا يحول دون مُرادِي.

فسُرِرْتُ بجونريت سرورًا بالغًا النهاية، لا لما ذهب إليه البارون؛ بل لأني غَدَوْتُ أرى في البيت غير وجه ريتا.

وبينا الأفكار تثور ودمائي تقوم وتقعد دخلتْ مع ابنتها، فقالت لي: أقدِّم لك ابنتي لويزا وقالت لها: أعرِّفك بالمسيو مكسيم جوشران، كاتِم أسرار عمِّك.

وإذ ذاك دعانا الخادم للطعام، فجعل البارون يده بيد لويزا، وقال: اعط يدك لجونريت.

كان بين الأم وبنتها فرق عظيم، فهي أشبه بريتا أختها، لها مثل صوت تلك ومثل حركاتها ومقاطعها، ومع أنَّ عمرها يفوق عمر تلك بعشرين سنة فهي لم تزل بغضاضتها.

أمَّا لويزا فهي على قول أمِّها أشبه بأبيها، ذات عينين كعيون الغزال، ومحاسن أقلها الذكاء والإدلال، وكأن الآداب تمثَّلت فيها والحلاوة استجمعت في فِيها، بل كأنها أعطيت هَيْبة أبيها وجلاله، فما يراها الرائي إلَّا ويحترمها ويحفظ أدبه أمامها، فأكْرِمْ بها حسناء دون أنْ تتحسن وردية لم تتلون …! هواك يا عذراء نائم في جنانك، ورائده كامن وراء أجفانك! فما هي إلَّا نظرة فتنقلب نظراتك وتتغير طباعك ورغباتك.

فقال البارون لجونريت: كيف ريتا اليوم؟

– صحتها اليوم أحسن منها مساء أمس، ولا يمضي أسبوع حتى ترى لك وريثًا.

– ليت في الناس من يجعل هذا الأسبوع ساعة، فأعطيه مائتي ألف فرنك.

– هذه منك غلطة تُعَد بألف.

– كيف؟

– لأن الزمان — كما قيل — هو النسيج الذي تُحاك منه الحياة، فينبغي أنْ نحرص عليه ونستفيد منه.

– هذا الفكر ليس لك يا جونريت فهو لفرنكلين.

– نعم له، وإنما استعرته لأردَّ على رأيك الفاسد.

– كلامك اليوم من نضار، فسأمسك لساني من الآن فصاعدًا.

– مائتا ألف فرنك …؟ نحن نعلم أنك لا تتعب في كسب المال …!

– مثل الكيماويين أليس كذلك؟ سلي مكسيم يخبرك إذا كان المال يأتي من نفسه إلى صندوقي …؟ وأنت يا لويزا هل عندك مقاصد تتعلَّق بمجيئك إلى باريس؟

– نعم، أن أسمع الموسيقى وأتمِّم دروس اللغة الإنكليزيَّة.

فقلت لها: إني أقدِّم لك إذا أَذِنْت كتابًا أبْلَغَ ما كتب في هذه اللغة.

فالتفتت إلى أمِّها الْتِفاتة معنوية، كمن تطلب إليها إذنًا، فقالت أمها: لا بدَّ أنَّ تلك الكتب أدبية تفيد الأخلاق والعوائد.

– إنَّ الكاتب لشلي هو شاعر الملكة فيكتوريا، ولا يمكن مثل هذا الشاعر إلَّا أنْ يتأدَّب في كتاباته.

– لا بأس إذن.

فقال فركنباك: علمتُ يا لويزا أنك لا تُحْسِنين الضرب على البيانو، فهل تشائين أنْ آتيك بمدرس يعلمك إيَّاه؟

– هذا كل ما كنتُ أتمنَّاه، وكأنك يا عمَّاه تعرف ما يدور في أفكاري.

– كوني قريرة وأؤمِّل أنْ تَعِيَ دروسك جيدًا كيما تُحْسِنين الضرب عليه، فتسترضين بعلك بعد زواجك، أليس كذلك يا مكسيم؟

فدخلت عجوز وهمست في أذن جونريت فقامت هذه من ساعتها، وقالت: ريتا ترغب في أنْ تراكما قبل أنْ تذهبا للمكتب، فذهبنا إلى غرفتها، وكانت جالسة على المقعد بثوب كبير مُنحَلِّ الأزرار، مملوء بالنقوش والتصاوير، ولما أنْ رأتني همَّت أنْ تقف فخانتها عزيمتها، ثم جلست مُتعبَة، فقالت: أتخونني قواي حتى لا أستطيع الوقوف؟ ترى دَنَا أَجَلِي أم ماذا يا ربَّاه؟ متى ينقضي هذا العذاب، فخفق قلب البارون لهذا الكلام وتولَّاه الحنان، وشاء أنْ ينشِّطها ببعض كلام عذْبٍ فخانه اللسان، فانحنى عليها وقبَّل خدَّها وجبهتها، ومسح عَبْرة سَكَبَتْها عينه.

على أنها استجمعت قواها في يده ومدَّتها لي فأمسكتها للحال، فضغطتْ عليها ونظرت إليَّ نظرة تُتَرْجِم عن شعور قلبها، فشعرتُ إذ ذاك بانفعال أشق ما قاومتْ حياتي، وأدركت الفرق بين حِطَّتِي ورفعة هذا الصاحب الذي ما زال يُبْرِهن لي عن حبِّه والْتِفاته، هذا الصاحب الذي ما فتئ يتعب في مستقبلي ليحقِّقه ويضمنه، فكان جزائي له سَلْب شرَفِه، وسلب امرأته على أني نويت أنْ أُصْلِح الشرف الذي دنَّسْته، وأنْ أعوِّض عن غلطتي بإخلاصٍ ثابت، لا تبدِّده الامتحانات، وأنْ أشتري سقوطي بسلوكٍ حسن، وأنْ أمْحُوَ من فِكْري ذكرى غرامٍ جرَّ وراءه ندمًا وحزنًا.

وبينما أنا في حلٍّ ومُرْتَحل وأفكاري تصعد من لُجَّة، وتنزل في أخرى، دخل الطبيب ضاحكًا كعادته فسلَّم علينا.

فقال لها الطبيب: كيف أنت اليوم، فأجابت: إني مُنحطَّة القوى خائرة، فهل ترى زمن الولادة بعيد؟

– أقرب من قاب قوسين، ويجب أنْ تستحضري المُرضِع اليوم.

– لا لزوم لمُرْضِع فأنا أُرْضِع ولدي.

– الرِّضاعة تُتْعِب، ومن كان مثلك يألف الاجتماعات والتنزُّه فصعب عليه أنْ …!

– قد حسبت لذلك حسابًا مُدقَّقًا.

طالت زيارتنا لها فظهرت عليها دلائل التعب، وكان ثوبها حين تتنفَّس يرتفع وينخفض مرَّةً بعد مرة ببطء، كأنما تُلاعِبه نسيماتٌ عليلة.

فودَّعناها وخرجنا فقال درتيل لفركنباك: أرى في كلِّ ما تقول البارونة وتفعل تكلُّفًا وتصنُّعًا غير مألوف، ولا أعلم من أشار عليها أنْ تُرْضِع ابنها.

– الشيء الطبيعي يبدو أحيانًا غير طبيعي، ولا تحسبني أقل شعورًا منك، فقد أدركت ذلك منها … ولكني أعجب كيف أنك تسألني عن حوادث كهذه، أسرارها عند الطب والأطباء؟!

– نعم … لكني أعني بذلك أنك ستصوم حولًا كاملًا عن النساء.

– إذا جعتُ ففي الحانات مآكل لذيذة.

– ذاك أمر آخر، والآن أنا ذاهب.

آه، كم عذبني هذا الطبيب الملعون، وإني لأقسم أن له نظرًا ثانيًا غير نظره يرى به الخفايا، فلما ابتعد تسرح همِّي وخفَّ عنائي، وتنفَّسْت تنفُّس الفَرَج والراحة.

فقلت لفركنباك: إنَّ لهذا الطبيب أفكارًا مُستغرَبة.

– وهو مع ذلك سليم القلب، ناصِح السريرة، وإنما يقول ما يقول؛ لأنه من السوفسطائيين؛ أي من الفلاسفة الذين يشكُّون في كلِّ شيء، فأرباب هذا المذهب أشبه بتلك الأيدي الجميلة الملعونة التي تعطِّل ما تمسُّه، ولهم ضحكة غريبة تؤثِّر على الأفكار أيما تأثير … إنَّ ضحكة جوزيفا أحب إليَّ من كلِّ شيء … لكن كيف حال حبيبتك كورالي؟

فاضطربت وتلَعْثَم لساني مما أدرك منه أني لم أهتمَّ بها.

فقال: تُرى من أيَّة جِبِلَّة خُلِقتَ؟ وهل إنَّ ما يدور في عروقك مخلوط بماء مبرَّد …؟ ما لم تكن حبيبتك من اللاتي لا يمكن تسْمِيتهنَّ …؟ آه منك يا لصُّ، قل هل هي جميلة؟ ومن هو ذاك الرجل الذي تسرقه؟

فلم أدرِ بادِئًا ما أقول، وكأن جذوة في كلِّ خدٍّ من خدَّيَّ اتقدت ثم قلت: كيف تشاء أن أبوح بسر اؤتمنت عليه …؟ ولكني قد صرفت أفكاري عن تلك المرأة التي أحبها تمامًا، والدليل على ذلك أني من الآن أقدم ذاتي لكورالي، وأكون بخدمتها متى تشاء.

فترنح سرورًا وقال: هذا ما يُعَدُّ كلامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤