الفصل الثاني

كيفية النوم وتنظيمه: نظرة عامة

باستطاعتنا فهمُ الكثير من الأمور حول ما يحدث لكلٍّ من الدماغ والجسد خلال النوم، حتى ولو لم نكن على يقين من الوظيفة الفعلية للنوم (انظر الفصل الرابع). وفي حين أنه يمكن تعريف النوم على أساس من التغيرات السلوكية، فإن القدرة على قياس أنماط النشاط الكهربائي للدماغ هي التي قدَّمتْ تعريف النوم عند البشر وغيرهم من الثدييات.

(١) التخطيط الكهربائي للدماغ

يتألف الدماغ من مليارات الخلايا العصبية التي يتصل بعضها ببعض بواسطة إشارات كهربائية وكيميائية (الناقلات العصبية). وتتسبب التفاعلات المشتركة لهذه الخلايا العصبية في حدوث تغييرات في الجهد، وهي تلك التي يُمكن تسجيلُها من فوق سطح الدماغ. وكان ريتشارد كانتون هو أول مَن قام بهذه التسجيلات على الحيوانات في أواخر القرن التاسع عشر، وطوَّرها بيرجر لاحقًا لتتماشَى مع المعايير البشرية فاستحدث التخطيط الكهربائي للدماغ. ويمكن تسجيل الجهد بين الأقطاب (انظر الشكل رقم ٢-١) عند وضع قطبين أو أكثر على فروة الرأس. وقد تمكَّن بيرجر من إثبات أنه حال استيقاظ الأشخاص، يُظهِر التخطيط الكهربائي للدماغ نمطَ نشاطٍ سريع (عالي التردُّد) وذي سعة صغيرة، وحين يَبدَأ الأشخاص في الخلود إلى النوم يُصبح هذا النمط أكثر بُطْئًا (منخفض التردد) ويتسم بموجات كبيرة السعة (انظر الشكل رقم ٢-٢). وقد تمكَّن العديد من الباحثين — اعتمادًا على ملاحظات بيرجر خلال ثلاثينيات القرن العشرين — من توصيف «المراحل» المختلفة للنوم التي أمكن تمييزُها عن طريق التخطيط الكهربائي للدماغ. وفي عام ١٩٥٣ قدم كلٌّ مِن كلايتمان وأسيرنسكي وصفًا لما يُعرَف الآن بنوم حركة العين السريعة. وبحلول أواخر الستينيات، كان كلٌّ مِن ألان ريشتشافن وأنتوني كيلز قد صاغا توصيفًا محددًا لمراحل النوم على أساس الأنماط المختلفة للتخطيط الكهربائي للدماغ.
fig2
شكل ٢-١: يمكن قياس التخطيط الكهربائي للدماغ، والتخطيط الكهربائي للعين والتخطيط الكهربائي للعضلات في نفس الوقت على الأشخاص عن طريق وضع أقطاب للتسجيل على الجلد في الأماكن المُشار إليها. وبالنسبة إلى التخطيط الكهربائي للدماغ، فعادةً ما يتم استخدام الكثير من الأقطاب، يتراوح عددها ما بين ٨ ومئات الأقطاب وفقًا لطبيعة التحليل المطلوب.
fig3
شكل ٢-٢: أنماط التخطيط الكهربائي للدماغ للبالغين في مراحل النوم والاستيقاظ المختلفة. (أ) يُصنِّف العمود ١ في الجدول النوم إلى مرحلتي حركة العين غير السريعة والسريعة. ومدرج في العمود ٢ نظام تصنيف حديث للنوم، يقسمه إلى فئات أشمل: الاستيقاظ، ثم مراحل نوم حركة العين غير السريعة ٣، ٢، ١ وحركة العين السريعة. تشرح الأعمدة الإضافية في (أ) أشكال موجة التخطيط الكهربائي للدماغ ووقت حالات النوم المختلفة. يوضح الشكل (ب) آثار التخطيط الكهربائي للدماغ المستخدمة لتحديد حالات النوم المختلفة.
هناك نوعان مختلفان من النوم — نوم حركة العين السريعة ونوم حركة العين غير السريعة — وهما اللذان يتناوبان لتشكيل دورة نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة كل ٩٠ إلى ١٠٠ دقيقة تقريبًا (انظر الشكل رقم ٢-٣). وثمة أربع إلى خمس دورات للنوم في كل ليلة، وذلك اعتمادًا على مدة النوم نفسها. هذا، ويطلق على تصور فترة النوم بأسْرِها مصطلح «هيبنوجرام»؛ وهو عبارة عن رسم بياني لدورة النوم كاملة. وكما هو مُوضح في الشكل رقم ٢-٢، فإن المرحلة الأولى من نوم حركة العين غير السريعة تتميز بوجود موجات ثيتا، ويُشار إلى هذا أيضًا بالنعاس أو نوم الوَسَن. وقد تَحدُث ارتعاشةُ الأطراف واختلاجُها بصورة مفاجئة خلال هذه المرحلة. أما المرحلة الثانية من نوم حركة العين غير السريعة فتتميز بظهور موجات نشاط قصيرة يُطلق عليها «مغازل النوم» وموجات ذات سعة عالية وترددات منخفضة تُعرَف بمعقدات-كيه. وكما يوضح التخطيط الكهربائي للعضلات، ينخفض النشاط العضلي بينما يخبو الإدراك الواعي للمحيط الخارجي. وعادةً ما يُطلق على المرحلتين الثالثة والرابعة لنوم حركة العين غير السريعة النوم العميق أو النوم البطيء الموجات، وتتميز تلك المرحلة من النوم بوجود موجات دلتا. كما تظهر حالات «الخطل النومي» أو اضطرابات النوم في تلك المرحلة متمثلة في الإصابة برهاب الليل، والتبول اللاإرادي، والسير والتحدث أثناء النوم. هذا، وترتبط الفترة الزمنية المنقضية في النوم البطيء الموجات بمقدار الحرمان المسبق من النوم (انظر الفصل الرابع). وخلال نوم حركة العين السريعة تتطابق أنماط موجات بيتا التي يُظهِرها التخطيط الكهربائي للدماغ تقريبًا مع الأنماط التي تظهر عند شخص في حالة من اليقظة التامة؛ ولهذا السبب عادةً ما يُطلق على نوم حركة العين السريعة «النوم المتناقض».
fig4
شكل ٢-٣: الشكل (أ) يُوضح دورات حركة العين غير السريعة والسريعة لفترة نوم كاملة تبلغ ٧ ساعات (رسم بياني لدورة النوم). تتفاوت فترات النوم على مدار الليل كما يسجلها التخطيط الكهربائي للدماغ. تحدث فترات النوم البطيء الموجات غالبًا خلال نصف الليل الأول، بينما يتكرر نوم حركة العين السريعة بشكل أكبر خلال نصف الليل الثاني. يمكن أن يحدث الاستيقاظ بصورة طبيعية بعد نوم حركة العين السريعة، لكن ليس دائمًا. (ب) امتد جزء من التخطيط الكهربائي للدماغ (حوالي ٧٠ دقيقة) من (أ). يتغير التخطيط الكهربائي للدماغ البشري باستمرار من الاستيقاظ وحتى النوم بداية من أنماط منخفضة السعة وعالية التردد في فترة الاستيقاظ إلى تذبذبات متزامنة عالية السعة ومنخفضة التردد خلال فترة النوم البطيء الموجات، نوم حركة العين غير السريعة المرحلة ٣ و٤. هناك انتقال سريع من النوم البطيء الموجات إلى نوم حركة العين غير السريعة المرحلة ٢ و١ قبل فترة من نوم حركة العين السريعة. ثم تتكرر الدورة كل ٩٠ دقيقة تقريبًا.
تتغير نسبة نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة في كل دورة خلال فترة الليل، وذلك مع ارتفاع مستويات المرحلتين الثالثة والرابعة من نوم حركة العين غير السريعة (النوم البطيء الموجات) خلال الدورات القليلة الأولى، وتزايد معدلات نوم حركة العين السريعة في الدورات اللاحقة (انظر الشكل رقم ٢-٣). يرتبط نوم حركة العين غير السريعة بوجه عام بحالة فسيولوجية أكثر استقرارًا حيث أنماط التنفس المنتظمة وانخفاض معدل ضربات القلب، بينما يتسم نوم حركة العين السريعة بكونه عملية أكثر نشاطًا مع معدلات أكثر تغيرًا ولكنها بصفة عامة أكثر ارتفاعًا للتنفس والقلب وضغط الدم وتدفقه إلى المخ. وتتألف دورة نوم الإنسان من نحو ٢٥٪ في المتوسط من نوم حركة العين السريعة (انظر الشكل ٢-٢أ). وكما يتضح من التعريف، عادةً ما يصاحب نوم حركة العين السريعة حركات سريعة للعين، وتَظهَر عند قياس النشاط الكهربائي الذي تولِّده العضلات المسئولة عن تحريك العين باستخدام التخطيط الكهربائي لحركات العين. يصاحب نوم حركة العين السريعة أيضًا تثبيط لعضلات الهيكل العظمي، وتُقاس بواسطة أقطاب توضع بالقرب من الذقن. كما يتضح من التخطيط الكهربائي للعضلات (انظر الشكل رقم ٢-١).

(٢) رؤية الأحلام

يمكن رؤية الأحلام في كلٍّ من نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة، إلا أن أحلام نوم حركة العين السريعة تَمِيل إلى أن تكون أكثر طولًا، وأكثر وضوحًا، ومركَّبة وغريبة. ومن المعتقد أن الأحلام تستغرق في مدتها معظم فترة نوم حركة العين السريعة وربما تشكل نحو ٤٠٪ من نوم حركة العين غير السريعة وتحدث في الوقت الحقيقي؛ فلم تَعُدِ الفكرة القديمة عن أن الأحلام تحدث بصورة خاطفة حين نستيقظ من النوم تحظَى بقدْر كبير من التأييد الآن. قدَّم جيه ألان هوبسون بحثًا مُفصَّلًا عن الأحلام ورؤيتها في كتابه «الأحلام: مقدمة قصيرة جدًّا». وتتلخص الفكرة بإيجاز في أن مضمون الحلم متغير للغاية إلا أنه غالبًا ما يتضمن صاحب الحلم وأشخاصًا مألوفين بالنسبة إليه. والأحلام، في أغلب الأحيان، عبارة عن تجارب مرئية، ونادرًا ما تتضمن أيَّ مذاق أو رائحة. أما إذا كان الأشخاص مصابين بالعَمَى منذ ولادتهم؛ فإن أحلامهم يُهيمِن عليها الصوت، وحاسة اللمس والمشاعر العاطفية. وبالنسبة إلى هؤلاء الذين فَقَدوا البصر في طفولتهم (في عمر ٧-٨ سنوات)، فإن التجارب المرئية هي التي تُهيمِن على أحلامهم. وفي كثير من الأحيان تَكُون الأحلام غريبة للغاية، لكنها — في الأساس — عادةً ما تنبع من التجارب التي نمُرُّ بها. وتُفيد إحدى النظريات القائمة أن الحُلم هو ناتج ثانوي لمعالجة المعلومات وتقوية الذاكرة.

المربع رقم ١: سمة غريبة لنوم حركة العين السريعة

ينتاب الذكور خلال نوم حركة العين السريعة حالات انتصاب ليلية، وتشهد الإناث حالة من تَحَفُّل البظر. وقد قامتْ دراسة هذه الحالات في معظمها على الذكور؛ نظرًا لاستمرار حالات الانتصاب لديهم معظم مرحلة نوم حركة العين السريعة عند نومهم خلال الليل أو النهار. وقد رُصدت حالات انتصاب خلال مرحلة نوم حركة العين السريعة لدى الرُّضَّع وحتى لدى الأشخاص الموضوعين تحت أجهزة الإنعاش. وهناك بعض الآراء التي تُفيد بأنه حتى رسومات الكهوف في لاسكو بجنوب فرنسا تصوِّر ذكورًا يمرُّون بحالات انتصاب واضحة أثناء النوم. هذا، ولا يغير الجِماع قبلَ النوم من مستوى انتفاخ القضيب في مرحلة ما بعد النوم. ويؤثر الاحتساء المفرط للكحول، الذي يُثبِّط انتصاب القضيب حين يكون الشخص مستيقظًا، تأثيرًا طفيفًا على قوته أثناء النوم. ولقد ثبت كذلك أن بعض الثدييات الأخرى مثل الفئران والكلاب تمر بحالات انتصاب للقضيب أثناء نوم حركة العين السريعة. وعلى الرغم من أن نوم حركة العين السريعة مرتبط بأكثر أحلامنا وضوحًا، فإن الدراسات التجريبية تُشير إلى أنه لا توجد أي علاقة بين المضمون الجنسي للحلم وانتصاب القضيب.

(٣) نموذج تنظيم النوم والاستيقاظ الثنائي العملية

fig5
شكل ٢-٤: شكل يوضح العناصر الرئيسية لدورة النوم والاستيقاظ وكيفية الحفاظ عليها وتفاعل تلك العناصر معًا. يتم تنظيم النوم عن طريق آليتين شاملتين تتضمن كلٌّ منهما ساعة الجسم التي تعمل على مدار اليوم؛ نظام الإيقاع اليومي (الذي يعرف بالعملية سي) ونظام تزايد ضغط النوم الاستتبابي الذي يعتمد على فترة الاستيقاظ (ويُعرف بالعملية إس). ثم يؤدي النوم ذاتُه دورَه في التغذية الراجعة التي تنظِّم كلًّا من العملية سي والعملية إس. ويلعب الضوء دورًا محوريًّا في تنظيم الساعة البيولوجية أو نظام الإيقاع اليومي، التي تَحمِيها دورة النوم والاستيقاظ عن طريق وقْف إنتاج الميلاتونين تمامًا من الغدة الصنوبرية، ويعمل الضوء أيضًا على تنظيم مستويات الانتباه. ومِن شأن بعض الأنشطة الاجتماعية مثل أوقات تناول الوجبات أو الاستيقاظ الإجباري عن طريق المنبِّه أن تساعد على توجيه نشاط النوم والاستيقاظ.
يقدم نموذج تنظيم النوم الثنائي العملية الذي استُحدث لأول مرة عام ١٩٨٢، على يد ألكسندر بوربلي، أسلوبًا مفيدًا للغاية حول كيفية التفكير في توقيت النوم والاستيقاظ. ويشير ذلك النموذج إلى أن مُذبذِبَين يساعدان على النوم؛ الأول: عبارة عن «عدَّاد» النوم والاستيقاظ يشبه الساعة الرملية، والثاني: تناوُب يومي داخلي على مدار الساعة لكل من النوم واليقظة. تتفاعل هاتان العمليتان لتحديد توقيت النوم، ومدته وشكله (انظر الشكل رقم ٢-٤). ويصف عداد الساعة الرملية النمط الحَدْسي للنوم؛ حيث تعتمد احتمالية خلودنا إلى النوم على الفترة الزمنية التي قضيناها مستيقظِين، وترتفع احتمالات استيقاظنا كلما طالت فترة النوم التي استغرقناها. ويُعَدُّ هذا المفهوم الذي يبدو بسيطًا الجزءَ المتوازن للنموذج الثنائي العملية، الذي يُطلَق عليه «العملية إس»، والذي «يقيس» الفترة الزمنية التي قضيناها نائمين أو مستيقظين، ويتنبأ أيضًا ﺑ «ضغط النوم»، فكلما طالت فترة الاستيقاظ؛ ارتفع معها ضغط النوم (انظر الشكل رقم ٢-٥). وحين نخلد إلى النوم، ينخفض ضغط النوم حتى يصل إلى المرحلة الكافية من الانخفاض التي نتمكن معها من الاستيقاظ. ويرتفع معدل النوم البطيء الموجات في فترة النوم كلما ارتفع معدل ضغط النوم (العملية إس) كما يحدث في حالة الاستجابة لقلة النوم على سبيل المثال.
وعلاوة على ذلك، فإننا نُدرك بديهيًّا أن خلود المرء إلى النوم في الساعة ١٢ من منتصف الليل بشكْل عامٍّ يكون أسهل من محاولة خلوده إلى النوم في الساعة ١٢ منتصف النهار. ويرجع ذلك إلى أن المَيْل إلى النوم له إيقاع مستمر على مدار الساعة تُحدِّده ساعة داخلية في الدماغ تعمل على مدار الساعة أيضًا، وهي التي تقع في النواة فوق التصالبية تحت المهاد. وتُولِّد تلك الساعة البيولوجية، بصورة عفوية ومن دون أي تأثُّر بالإشارات البيئية، إيقاعاتٍ على مدار الساعة، تتحكَّم بدورها في تحديد توقيت العديد من الوظائف السلوكية والفسيولوجية والأيضية للجسم، وتتم بشكل منتظم، بما في ذلك النزعة الطبيعية للنوم، وشكل ذلك النوم، وتنظيم الحرارة، وإفراز الهرمونات مثل الميلاتونين والكورتيزول، ووظائف القلب والرئة، ومعدلات الجلوكوز والأنسولين وغيرها من الوظائف المتعددة. وتعمل تلك النظم الداخلية، التي تستمر لقرابة ٢٤ ساعة، بشكل متزامِن مع الإشارات الزمنية الخارجية التي تحيط بنا على مدار الساعة، وأكثر هذه الإشارات أهمية دورة الضوء والظلام على مدار ٢٤ ساعة. وفي النموذج الثنائي العملية، تحدد الساعة البيولوجية اليومية نظام النوم والاستيقاظ على مدار ٢٤ ساعة وتعرف ﺑ «العملية سي» (انظر الشكل رقم ٢-٥). ويتناول الفصل الثالث من الكتاب تفصيلًا عملَ الساعة البيولوجية وتنظيمها من خلال الضوء.

وتعمل كلٌّ من العملية إس وسي — في ظل الظروف الطبيعية — بشكل دوري مُعاكِس بعضهما لبعض للحفاظ على الشعور باليقظة خلال النهار ونوبات من النوم العميق ليلًا. فيقابل الزيادة المطردة في إشارة الساعة البيولوجية المنبهة للفرد خلال معظم أوقات النهار زيادة مماثلة في ضغط النوم الاستتبابي مع استمرار ساعات اليقظة أو السهر. وعلى العكس من ذلك، تواجه النزعة المتزايدة للنوم ليلًا انخفاضًا في دافع الاتزان الداخلي الاستتبابي الذي يحدث أثناء النوم. فمن دون نزعة الإيقاع اليومي للنوم، سوف تَقِلُّ فترة النوم خلال الليل؛ حيث إن ضغط النوم سيتبدد سريعًا خلال النصف الأول من النوم. ولم يُعرَف بعدُ السببُ الرئيسي لكَوْن بعض الأشخاص ينامون لفترات طويلة وآخرين لفترات قصيرة، لكن من المرجَّح أن يرجع هذا إلى كيفية استجابة الدماغ لارتفاع ضغط النوم.

fig6
شكل ٢-٥: نموذج تنظيم النوم ثنائي العملية. يتفاعل كلٌّ من مؤقِّت الإيقاع اليومي الذي يعمل على مدار اليوم مع محفِّز الاستتباب (الخط المتقطع) لتحديد توقيت ومدة وشكل النوم؛ حيث يتعارض إيقاع تعزيز النوم خلال الليل واليقظة/الاستيقاظ خلال النهار، وهو الذي يُحفِّزه الإيقاع اليومي مع محفز الاستتباب الذي يعزز النوم خلال اليوم. أثناء النوم (التظليل الأسود)، يتبدد ضغط النوم الاستتبابي. وتحدث «بوابة النوم» (التظليل الرمادي)؛ نتيجة للتأثيرات المشتركة لمذبذبَيِ الإيقاع اليومي والاستتباب. يرتفع ضغط النوم خلال فترة الاستيقاظ ولكنه يتعارض مع العملية سي حتى يبدأ النوم.

(٤) أسوأ ما في العالَمَين: الاستيقاظ لفترة طويلة في التوقيت الخاطئ

يمكن أن تتفاعل كلٌّ من العملية إس والعملية سي تحت ظروف معينة؛ مما يؤدي إلى شعور بالغ بالنعاس، الأمر الذي قد يؤثر على سلامة المرء بشكل كبير (انظر الفصلين الثامن والتاسع). فإذا استيقظ الفرد لفترة طويلة (ضغط نوم مرتفع) وتصادَف أنه ظلَّ مستيقظًا خلال الليل كذلك، حيث يحفز نظام الإيقاع اليومي النوم بشدة، تنتاب المرءَ حينَها «عاصفة» من الشعور بالنعاس. وفي ظل هذه الظروف، تتفاعَل كلٌّ من العمليتين بطريقة تجعل الشعورَ بالنعاس أسوأ بكثير من الشعور المتوقع من مجرد مزج آثار العمليتين معًا. وتَنتُج عن هذا التفاعل غيرِ المنتظم خطورةٌ شديدة تحديدًا عند بقاء الفرد مستيقظًا ما بين الثالثة والسادسة صباحًا، وهو الوقت الذي يَصِل فيه إيقاع النظام اليومي للنعاس إلى ذروته، ويصاحبه ارتفاعٌ في ضغط النوم بسبب طول فترة استيقاظ الفرد (انظر الشكل رقم ٢-٥). يُعَدُّ هذا أمرًا شائعًا بين عُمال المناوبات، والأطباء، ورجال الإطفاء وغير ذلك من المِهَن التي تتطلب اليقظة خلال ساعات النوم الطبيعية، ويصبح هذا الوقت تحديدًا هو الأكثرَ عُرْضة لوقوع الحوادث والإصابات الأخرى الناجمة عن الشعور بالنعاس.

(٥) قصور النوم: مشكلة النهوض في الصباح

بالإضافة إلى تحديد توقيت النوم وشكله، يحدد النموذج الثنائي العملية كذلك المسار الزمني العام للنعاس والأداء خلال اليوم. عادة ما يتزايد الشعور بالنعاس كلما طالت فترة الاستيقاظ، إلا أنه يتدخل فيه أيضًا نظام الإيقاع اليومي البيولوجي القوي، الذي يؤثر بدوره على الحالة المزاجية العامة والقدرة على التركيز، والتذكر والتفاعل. ويظل الأداء خلال النهار مستقرًّا نسبيًّا، تحت ظروف النوم/الاستيقاظ الطبيعية، وذلك قبل أن ينخفض مستوى الأداء تدريجيًّا مع اقتراب نهاية اليوم، كما هو متوقَّع مع امتداد ساعات الاستيقاظ. ومع ذلك، فقد يتنبَّأ النموذج ثنائي العملية بأعلى درجات الانتباه في نهاية فترة النوم، حين ينخفض ضغط النوم ليصل إلى أدنى مستوياته. غير أن التجارب الشخصية تشير إلى أن الأمور لا تسير دائمًا على هذا المنوال، وأن هناك عملية ثالثة توضح سبب شعورنا بالترنُّح عند الاستيقاظ من النوم أو ما يُعرَف بقصور النوم، أو «العملية دبليو» (انظر الشكل رقم ٢-٥). في واقع الأمر، قد يستغرق الوصول إلى اليقظة التامة بضعَ ساعات، وتكون الدقائق التالية للاستيقاظ مباشرةً هي الأكثر صعوبة. وتتفاعل عملية قصور النوم كذلك مع كلٍّ من العملية سي والعملية إس، وحينئذٍ يتفاقم الوضع ويصبح أكثر سوءًا ويمتد لفترة أطول عند الاستيقاظ في التوقيت الخاطئ من النظام اليومي؛ إما في منتصف الليل، وإما من النوم العميق.

(٦) أسباب الشعور بالنعاس بعدَ تناوُل الغَدَاء وليس قبلَ الخلود إلى النوم

بينما ينخفض معدل اليقظة والانتباه بصفة عامة خلال اليوم، فثمة وهلة قبل وقت النوم المعتاد مباشرةً يكون من الصعب خلالَها الخلود إلى النوم ويرتفع معدل اليقظة نسبيًّا. ويكمن السبب وراء «حالة استمرار الاستيقاظ» تلك في أن نظام الإيقاع اليومي وقت اليقظة، وهو الذي يظل مرتفعًا نسبيًّا مع قرب انتهاء النهار، لم تقابله بشكل كامل الزيادة الاستتبابية للنوم على مدار اليوم. وتتزامن نهاية «حالة إبقاء الاستيقاظ» مع بداية إنتاج هرمون الميلاتونين من الغدة الصنوبرية، الأمر الذي يُشارُ إليه أحيانًا بعملية فتح «بوابة النوم». وفي ذلك الوقت يزداد الشعور بالنعاس والقدرة على الخلود إلى النوم سريعًا (انظر الشكل رقم ٢-٥). وسوف نتناول في قسم لاحق من هذا الفصل إن كان بدء إنتاج الميلاتونين هو المتسبب في هذا الشعور بالنعاس، أم أن ذلك محض مصادفة.

وينتاب المرءَ كذلك الشعورُ ﺑ «خمول ما بعد الغَدَاء» بسبب عدم التزامن الطفيف في توقيت حدوث كلٍّ من العملية إس والعملية سي، ويحدث هذا الخمول بغضِّ النظر عما إذا كان الطعام قد استهلكه الجسم تمامًا أم لا. يتزامن هذا «الخمول» أو التراجع في الأداء وحالة الانتباه مع حدوث التقاطع المعتاد بين زيادة الشعور بالنعاس نتيجة لحدوث العملية إس، وانخفاض الشعور بالنعاس نتيجة لحدوث العملية سي. فإذا لم يكن ثمة تزامن طفيف بين كلٍّ من زمنَيِ العمليتين، فسوف تعزز العملية إس في هذه الحالة الشعور بالنعاس قبل معارضتها من العملية سي، ويؤدي هذا بدوره إلى الشعور بالخمول في منتصف فترة الظهيرة. لا يشعر الجميع بهذا الخمول، وسبب هذا على الأرجح يعود إلى الاختلافات الفردية البسيطة في التوقيت النسبي لكلتا العمليتين. ومع ذلك، قد تفسِّر زيادةُ اختلاف التوقيت بين العمليتين عادةَ القيلولة في بعض المجتمعات، حيث تؤدي فترات النوم القصيرة والمتأخرة ليلًا إلى قدْر أعلى من ضغط النوم خلال النهار الذي لا يمكن مجابهتُه من قِبَل نظام الإيقاع اليومي أثناء النعاس، الذي تأخر نفسُه بسبب التعرض للضوء الاصطناعي في المساء؛ مما يسهل مِن أخْذ إغفاءة طويلة أثناء فترة ما بعد الظهيرة. أضِف إلى ذلك تناولَ وجبة غَدَاء دسمة وبعض المشروبات، حينئذٍ ستقِلُّ فُرَص بقائك مستيقظًا!

(٧) هل تشبه طائر القُبَّرة أم البومة؟ شخصيات نهارية وأخرى ليلية

إذا كنتَ ممَّن يبقَوْن متيقظين خلال النهار وتخلد إلى النوم مبكرًا، فأنتَ أشبَهُ بطائر «القُبَّرة»، أما إذا كنتَ تكرَه النهار وتفضِّل البقاء مستيقظًا أثناء الليل، إذن فأنتَ أشبَه ﺑ «البومة». استُخْدِمَت تلك التشبيهات لمحاولة وصف ظاهرة التفضيل اليومي — أي إذا ما كنتَ من الشخصيات النهارية أم الليلية — وذلك بناءً على الأوقات التي تفضِّل فيها الخلود إلى النوم والأوقات التي تؤدي فيها عملك على أكمل وجه. وبينما تظن أن هذا الأمر اختيار شخصي، فإن أسلوب التفضيل اليومي يحدده النموذج ثنائي العملية، وهو مشفَّر في جيناتك على نحو جزئي.

تخيل تجربة يتم فيها وضْع مجموعة من الأشخاص في نفس فترات الضوء والظلام (١٦ ساعة من الضوء: ٨ ساعات من الظلام) لعدة أسابيع، وستجد أن بعض الأشخاص سيخلدون إلى النوم ويستيقظون مبكرًا؛ وبعضهم سيخلد إلى النوم في وقت متأخر ويستلقي؛ بعضهم سينام لمدة ٧ ساعات فقط، والبعض الآخر ﻟ ٩ ساعات وهكذا. سيجد كل شخص التوقيت الطبيعي الخاص به خلال اليوم وسيتعرفون على ما يفضلونه خلال اليوم، والتوقيت الطبيعي للنوم ومدته. عبر مجموعة من السكان، سنجد اختلافًا في التفضيل اليومي وكذلك فترات النوم؛ نتيجة للاختلافات الفردية في تفاعل كلٍّ من نظام الإيقاع اليومي والنظام الاستتبابي لدى كل فرد. فتتسم الشخصيات النهارية، على سبيل المثال، التي تَمِيل إلى الخلود إلى النوم والاستيقاظ مبكرًا بأن لديها: (١) ساعة بيولوجية يومية أقصر (تقترب — أو حتى أقل — من ٢٤ ساعة)، وتدور بشكل أسرع من الساعة البيولوجية للشخصيات الليلية. (٢) نزعة طبيعية كبرى للخلود إلى النوم مبكرًا؛ نتيجة للارتفاع السريع لضغط النوم أو للحساسية تجاه ضغط النوم الاستتبابي. (٣) نزعة طبيعية أقوى للاستيقاظ مبكرًا نتيجة للفقدان التدريجي الأسرع لضغط النوم الاستتبابي، أو مزيج بين كلٍّ من هذه العناصر.

تختلف الشخصيات النهارية والليلية أيضًا في توقيت الشعور بالنعاس والقدرة على الأداء أثناء النهار، الأمر الذي يحدده التفاعل بين كلٍّ من العملية سي والعملية إس أو «الربط النسبي بين العمليتين»؛ أي «ضبط التوقيت»، بين فترة حلول النوم واليوم وفقًا لنظام الإيقاع اليومي. وتستيقظ الشخصيات النهارية في وقت مبكر من اليوم وفقًا لآلية التنبيه لديهم؛ حيث إن نومهم متقدِّم كثيرًا على الشخصيات الليلية. وعلى الرغم من أن إيقاع نومهم يسبق الآخرين، فإنه مع ذلك، لا يميل إلى الانتقال بنفس قدْر النظام الداخلي لإيقاعهم اليومي؛ مما يعني أن الشخصيات النهارية تنام وتستيقظ في مرحلة متأخرة نسبيًّا من إيقاعهم اليومي عن الشخصيات الليلية؛ ومن ثَمَّ تستيقظ الشخصيات النهارية متأخرة في «يومها» داخل نظام الإيقاع اليومي؛ أي إنهم يتمتعون بمستوًى مرتفع من اليقظة والأداء أثناء النهار وينخفض هذا المستوى سريعًا خلال اليوم. على الصعيد الآخر، تستيقظ الشخصيات الليلية في وقت مبكر من «يومهم» داخل نظام الإيقاع اليومي؛ ومن ثَمَّ يشعرون بالنعاس ويتسم أداؤهم بالضعف في الصباح، لكنَّ أداءهم لا يتراجع بقدْر تراجُع أداء الشخصيات النهارية مع نهاية اليوم. ولذلك يُمكِن تفسير الاختلافات السلوكية التي تمَّ رصدُها بين الشخصيات النهارية والليلية — والمتمثلة في أن الشخصيات النهارية تشعر بقدر أكبر من اليقظة والانتباه أثناء النهار ويفضلون تنفيذ المهامِّ شديدة الأهمية في ذلك الوقت من اليوم، بينما تتمتع الشخصيات الليلية بشعور أفضل وبمستوًى أفضل من الأداء في وقت متأخر من النهار — وفقًا لمرحلة نظام الإيقاع اليومي التي يستيقظون فيها. ومِن اللافت للنظر أن تلك الاختلافات لا تتغير بالرغم من كافة العوامل التي يمكن أن تؤثر على أنماط اليقظة خلال وقت النهار في الحياة اليومية، مثل احتساء المشروبات التي تحتوي على الكافيين، والانخراط في العمل، والشعور بالتوتر والضغوط وما إلى ذلك؛ مما يوضح الدور الجوهري والعلاقة بين كلٍّ من العملية سي والعملية إس في تحديد أنماط اليقظة، والحالة المزاجية والأداء خلال النهار.

(٨) الضوء وعلاقته بالإيقاع اليومي وهرمون الميلاتونين، والنوم، والاستيقاظ

يلعب الضوء دورًا مهمًّا في تنظيم النوم والاستيقاظ، فالتعرض للضوء يؤثر بشكل مباشر على كلٍّ من توقيت الإيقاع اليومي (العملية سي) من جهة والنعاس والأداء (العملية إس) من جهة أخرى. كما أن للضوء عددًا من الآثار «غير البصرية» على العمليات الفسيولوجية بجسم الإنسان بخلاف تأثيره على الرؤية، ومن بينها تعديل نظام الإيقاع اليومي، وتحسين المقاييس الذاتية والموضوعية لليقظة، وزيادة معدل ضربات القلب ودرجة حرارة الجسم ليلًا، والتأثير على بعض الهرمونات، مثل خفض إفراز هرمون الميلاتونين من الغدة الصنوبرية.

(٨-١) الضوء والنوم

تولِّد الساعة البيولوجية اليومية في النَّوى فوقَ التصالُبية في الدماغ إيقاعًا يوميًّا يُقارب الأربع والعشرين ساعة، ولكنه ليس أربعًا وعشرين ساعة بالضبط. ومن أجل ضمان ضبط توقيت الإيقاع اليومي مع إيقاع العالَم الفِعْلي، يجب إعادة ضبط هذه الساعة الداخلية كلَّ يوم من خلال إشارات الوقت البيئية. وفي ظل الظروف العادية يعمل التعرض للنمط اليومي للضوء والظلام على مدار أربع وعشرين ساعة على مزامنة (الربط بين) الإيقاع البيولوجي والإيقاع البيئي (انظر الشكل رقم ٢-٤). وتمثل دورة الضوء والظلام اليومية أهم إشارات الوقت البيئية، ويقتصر الْتقاط هذه المعلومات الضوئية في الثدييات على العين بشكل حصري، وفي حالة فقدان البصر تتلاشى القدرة على الارتباط بالضوء. تتلقى الساعة البيولوجية في النَّوى فوق التصالبية في الدماغ إسقاطًا مباشرًا من العين عبر قناة تُسمَّى القناة الشبكية تحت المهادية (وهي مسار عصبي من شبكية العين وصولًا إلى منطقة ما تحت المهاد)؛ ومن ثَمَّ يمثل الضوء الملتقط عبر الشبكية «منظم الوقت» الأساسي الذي يزامن بين توقيت النوم وإيقاعات الساعة البيولوجية الأخرى. وفي حالة هذا الربط، يرتبط عمل الإيقاع الفسيولوجي والسلوكي المتعدد بالوقت أو المرحلة؛ من أجل السماح بأداء المهام الوظيفية على الوجه الأمثل. أما تعذُّر الحصول على معلومات الضوء والظلام تلك، التي يُعانِي منها معظم المصابين بالعَمَى التامِّ، فيؤدي إلى رجوع نظام الإيقاع اليومي إلى دورته الطبيعية المخالفة لدورة الأربع والعشرين ساعة، وتصبح غير متزامنة مع الإيقاع اليومي ومدته ٢٤ ساعة. ونتيجة لذلك، فإن غالبية المكفوفين يُعانون من اضطراب النوم الذي يُسمَّى «اضطراب النوم والاستيقاظ غير المتزامن مع ساعات اليوم الأربع والعشرين»؛ حيث تصبح دورة النوم والاستيقاظ، والانتباه، وأنماط الأداء والإيقاعات الأخرى لديهم غير متزامنة مع إيقاع الأربع والعشرين ساعة لليوم الاجتماعي الذي يُحاولون التعايش معه (انظر الفصل السادس). يحدث اختلال الساعة البيولوجية أيضًا لدى المُبصِرين الذين لا يتعرَّضون لدورة الضوء والظلام المعتادة على مدار ٢٤ ساعة، مثلما يحدث لدى عمال الورديات الليلية، أو بعد تغير سريع في أنماط الضوء والظلام عقب السفر برحلة بين مناطق زمنية مختلفة من حيث الضوء والظلام أو ما يُسمَّى «اضطراب الرحلات الجوية الطويلة» (انظر الفصل التاسع)؛ مما يسبب عواقب صحية واضطرابات في النوم. ولذلك يلزم التعرض لدورة الضوء والظلام الثابتة على نحو يومي للحفاظ على الارتباط الطبيعي بين الإيقاع اليومي وتوقيت النوم.

وللضوء أيضًا تأثير مباشر على العملية إس؛ حيث يؤدي التعرض للضوء إلى تعزيز اليقظة والأداء إلى حدٍّ كبير خلال كلٍّ من النهار والليل، كما يؤثر على عمق النوم ليلًا التالي لذلك. وقد أظهر تصويرُ الدماغ بعدَ التعرض للضوء زيادة النشاط في العديد من مناطق الدماغ المرتبطة باليقظة، والإدراك، والذاكرة (المهاد، والحصين، وجذع الدماغ) والحالة المزاجية (اللوزة)؛ ومن ثَمَّ يمكن أن يؤدي التعرض للضوء في التوقيت غير المناسب إلى الإخلال بتوقيت النوم والساعة البيولوجية، ليس هذا فحسب بل وإفساد مستويات اليقظة والأداء والحالة المزاجية أيضًا.

(٨-٢) الإيقاع والاكتئاب

تطور فهمُنا للكيفية التي ينظِّم بها الضوء كلًّا من النوم والإيقاع اليومي تطورًا ثوريًّا على مدى السنوات القليلة الماضية مع اكتشاف نظام جديد تمامًا لاستقبال الضوء في عيون الثدييات، بما في ذلك البشر. ولا تقع مستقبلات الضوء المكتشفة حديثًا تلك في ذلك الجزء من العين الذي يحتوي على الخلايا العصوية (المسئولة عن الرؤية الليلية) والخلايا المخروطية (المسئولة عن الرؤية النهارية) التي تستخدم في تكوين صور للعالَم من حولنا، ولكنها تقع في الخلايا العقدية التي تشكل إسقاطاتها العصب البصري. وتوفر الخلايا العقدية للشبكية اتصالًا وظيفيًّا بين العين والدماغ، ولكن عددًا قليلًا من الخلايا العقدية المتخصصة (١–٣٪) لدَيْها حساسية مباشرة للضوء وتسقط صورها على أجزاء من الدماغ لها علاقة بالنوم والتحكم بالإيقاع اليومي، بما في ذلك النَّوى فوق التصالبية ومنطقة أخرى تحت المهاد تسمى منطقة أمام التصالُبية البصرية البطنية الوحشيَّة (انظر الفصل الثالث).

هذه الخلايا الشبكية العقدية الحساسة للضوء تحتوي على صبغة حساسة للضوء تسمى ميلانوبسين. لاحظ أنه ينبغي عدم الخلط بين صبغة الميلانوبسين وهرمون الميلاتونين الذي تفرزه الغدة الصنوبرية، أو صبغة الميلانين في جلد الإنسان؛ فهي مختلفة تماما! صبغة الميلانوبسين هي الأكثر حساسية «للضوء الأزرق» المرئي قصير الموجة مع ذروة الحساسية للضوء بطول موجي حوالي ٤٨٠ نانومترًا. بمقدور هذا النظام تغيير الساعة البيولوجية اليومية أو تنظيم النوم حتى لدى الحيوانات أو البشر الذين فَقَدوا الخلايا العصوية والمخروطية المسئولة عن الرؤية الليلية والنهارية أو الذين أصيبوا بالعمى التام، وما دامت طبقة الخلايا العقدية للعين سليمة، فمن الممكن أن يحدث الترابط. تثير هذه الحقيقة آثارًا هامة بالنسبة إلى أطباء العيون، الذين يَجهَلون إلى حدٍّ كبير هذا النظام البصري الجديد وأثره على الفسيولوجيا البشرية. على سبيل المثال، إذا كان نظام الخلايا الشبكية العقدية الحساسة للضوء لا يزال سليمًا، فمن الضروري تشجيع الأفراد (حيثما أمكن) على تعريض أعينهم لضوء النهار بما يكفي للحفاظ على الربط الطبيعي بالإيقاع اليومي وتوقيت النوم واليقظة. أمَّا المرضى المكفوفون الذين من المقرر أن تُجرَى لهم عملية استئصال لعيونهم دونما سبب ضروري فينبغي تقييم حالتهم لتحديد إن كانت أعيُنُهم لا تزال قادرة على اكتشاف الضوء ومزامنة نظام الساعة البيولوجية؛ إذ إنه من شأن فقدان كلتا العينين أن يؤدي إلى الإصابة باضطرابات النوم غير المنتظم على مدار الأربع والعشرين ساعة. وعلاوة على ذلك، فإن المرضى المصابين بأمراض شبكية العين الداخلية، التي تؤدي إلى موت الخلايا الشبكية العقدية، مثل المياه الزرقاء، معرضون بشدة لخطر اختلال الساعة البيولوجية واضطرابات النوم. يجب أن يتلقَّى هؤلاء الأفرادُ المشورةَ بخصوص مشاكل اضطرابات النوم، ويُنصح لهم بشدة تلقِّي العلاج بهرمون الميلاتونين في الوقت المناسب، هذا الذي أثبتَ قدرتَه على تثبيت توقيت النوم لدى المرضى المصابين بالعمى التام (انظر الفصل السادس).

إن خلايا الشبكية العقدية الحساسة التي تلتقط الضوء الأزرق لا يقتصر عملها فقط على ضبط توقيت الساعة البيولوجية، بل تلعب أيضًا دورًا رئيسيًّا في تثبيط إفراز الميلاتونين، والحدِّ من النعاس، وتحسين زمن رد الفعل، وتنشيط مناطق الدماغ التي تتوسط بين اليقظة والنوم. وتستخدم آثار الضوء تلك على نطاق واسع في تطبيقات إكلينيكية ومهنية عديدة لعلاج اضطرابات النوم والإرهاق المصاحبين لاضطرابات إيقاع الساعة البيولوجية، والاكتئاب والخَرَف، والسرطان، أو في أي مجال تُفيد فيه إجراءات الحدِّ من النعاس، مثل المدارس والجامعات والشركات، والمهن التي تتطلب اليقظة التامة على مدار الساعة مثل التمريض والشرطة ورجال الإطفاء، والمهن الحساسة المتعلقة بسلامة الآخرين، مثل الطيارين والجيش ومراكز التحكم ومحطات الطاقة، وما شابَهَ (انظر الفصل التاسع). وقد تبين أيضًا أن العلاج بالضوء الأزرق أثبت فعاليته في علاج الاضطراب العاطفي الموسمي (ما يعرف ﺑ «اكتئاب الشتاء»)، الناجم عن التغيرات الموسمية في التعرض للضوء والظلام.

كما أن توقيت التعرض للضوء له أهمية خاصة أيضًا. فبمقدور الضوء إما تقديم الساعة البيولوجية، مغيرًا السلوك وعملية الأيض بحيث يتم في وقت مبكر، وإما تأخير الساعة البيولوجية حسب توقيت التعرض للضوء. وفي الظروف الطبيعية، يؤدي التعرض للضوء في وقت الغسق والجزء الأول من الليل (ما بين الساعة السادسة مساءً والساعة السادسة صباحًا) إلى تأخير الساعة البيولوجية، في حين يؤدي التعرض للضوء في وقت متأخر من الليل وقرب الفجر (ما بين الساعة السادسة صباحًا والساعة السادسة مساءً) إلى تقديم الساعة. وتوصف العلاقة بين توقيت المحفِّز وحجم التغير الناتج واتجاهه في صورة منحنى استجابة الطَّور، وهو أمرٌ في غاية الأهمية عند النظر في آثار تغير التعرض للضوء والظلام الذي يشهده المرء خلال اضطراب الرحلات الجوية الطويلة أو أثناء العمل بنظام النوبات (انظر الفصل التاسع). ورغم أن الإيقاع اليومي واليقظة ليسا في حساسية النظام البصري، فإنهما لا يزالان قابلين للتأثر بمستويات الضوء المنخفضة نسبيًّا، إذا دام التعرض لذلك الضوء أكثر من عدة ساعات. وفي ظل هذه الظروف، يؤدي الضوء الخافت نسبيًّا داخل المنزل مثل مصابيح السرير وضوء شاشة الكمبيوتر إلى إحداث آثار كبيرة على أنظمة الساعة البيولوجية والنوم، وقد يؤدي إلى تفاقم اضطرابات النوم (انظر الفصل السادس).

(٨-٣) هرمون «دراكولا»: الميلاتونين والنوم

تعتبر خلايا الشبكية العقدية الحساسة للضوء مسئولة عن تنبيه الجسم عند رؤية الضوء، ولكن كيف يَعرِف الجسم بحلول الظلام؟ يُعطي هرمون «دراكولا» أو الميلاتونين هذه الإشارة إذ لا يتم إفراز هذا الهرمون إلا في الليل، فيما يتوقف إفرازه مع رؤية الضوء. فالميلاتونين الذي تفرزه الغدة الصنوبرية هو المكون الكيميائي الحيوي الرئيسي المرتبط بالظلام ويعدُّ تمثيلًا داخليًّا لطول الليل في البيئة. ومع تغير طول الليل مع تغير المواسم عند خطوط العرض غير الاستوائية، فإن الميلاتونين لا يكتفي فقط بكونه رمزًا لطول الليل يوميًّا، بل هو أيضًا علامة على الوقت في السنة (أي المواسم).

يتكون الميلاتونين من التربتوفان، وهو حمض أميني غذائي، يتحول عبر عدة خطوات إلى سيروتونين ثم إلى ميلاتونين. ويتم إفراز الهرمون بشكل رئيسي من الغدة الصنوبرية، رغم أن شبكية العين ومناطق أخرى في الجسم يمكن أن تفرز كميات ضئيلة يعتقد أنها تساعد في ضبط الوقت المحلي. وتصل مستويات الهرمون إلى الذروة في بلازما الدم واللعاب في حوالي الساعة الثانية صباحًا في الظروف الطبيعية، مع وصول معدلات أيض الهرمون ونزوله في البول إلى ذروتها حوالي الساعة الرابعة والنصف صباحًا. وتفرز خلايا الغدة الصنوبرية الميلاتونين «عند الطلب» من الساعة البيولوجية، فهو لا يخزن ويُفرز من الغدة الصنوبرية تحت السيطرة المباشرة للنَّوى فوق التصالبية. وعلى غير العادة ينطلق المسار من النَّوى فوق التصالبية مارًّا بالحبل الشوكي (عبر العقدة الرقبية العلوية) قبلَ أن يعود إلى الغدة الصنوبرية؛ وهو ما يعني أن المصابين بالشلل الرباعي مع تضرر العمود الفقري عند العقدة الرقبية العلوية لا يُفرَز لديهم الميلاتونين (رغم أن بعض نظم الإيقاع اليومي الأخرى لا تتطلب هذا المسار، مثل إفراز الكورتيزول، وتنظيم درجة حرارة الجسم، وإيقاع النوم واليقظة؛ تظل هذه الأمور طبيعية نسبيًّا).

كما أن تعريض العين على نحو حصري للضوء ليلًا يؤدي إلى وقف إفراز الميلاتونين تمامًا ويقدم تقييمًا غيرَ مباشر لمدخلات الضوء إلى النَّوى فوق التصالبية عبر مسار يمر بالعين والنوى فوق التصالبية والغدة الصنوبرية. فهناك مستقبلات ميلاتونين على الخلايا العصبية بالنوى فوق التصالبية، ويعتقد أن الميلاتونين يوفر تغذية راجعة للساعة البيولوجية لضمان حدوث تزامن سليم للإيقاعات الداخلية. ونظرًا للعلاقة الزمانية الوثيقة بين النَّوى فوق التصالبية وإفراز الميلاتونين، فغالبًا ما يتم استخدام إيقاع الميلاتونين ﮐ «محدد طوري» للساعة البيولوجية في الدراسات الإنسانية.

بَيْدَ أن الدور المباشر للميلاتونين في النوم أقل وضوحًا. ففي حين أن إفراز الميلاتونين يتزامن مع النوم لدى الكائنات النهارية مثل البشر، فإن إفراز الميلاتونين في الكائنات الليلية مثل الجرذان والفئران البيضاء أيضًا يَحدُث في الليل، خلال فترة نشاطها، والعديد من سلالات الفئران لا تُفرِز أيَّ ميلاتونين على الإطلاق؛ مما يشير إلى أن الميلاتونين قد لا يكون له أيُّ تأثير على النوم. ومما لا شك فيه أن إيقاع الميل إلى النوم لدى البشر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنَظْم الميلاتونين؛ إذ إن فتح «بوابة النوم» يتم بالتزامن مع بداية إفراز الميلاتونين. ومع ذلك فقد يكون ثمة تزامن بين هذه الأحداث بكل بساطة، حيث إن مَن لا يُفرِزون الميلاتونين — مثل المصابين بالشلل الرعاش، وكثيرٍ ممَّن يستعملون مثبطات بيتا، ومرضى استئصال الغدة الصنوبرية — تستمر لديهم إيقاعات الساعة البيولوجية في النوم واليقظة، ولا يُبدُون سوى تغييرات طفيفة في بنية النوم؛ ومن ثم فإن نظام الساعة البيولوجية، وليس الميلاتونين نفسه، هو ما يفتح الأبواب للنوم ويعطي الضوء الأخضر لإفراز الميلاتونين في الوقت نفسه.

ثمة علاقة أخرى بين الميلاتونين والنوم تتمثل في حقيقة أنه عند تثبيط إفراز الميلاتونين بسبب التعرض للضوء في الليل، فإن مستويات اليقظة تتحسن أيضًا بالتوازي. ومع ذلك فإن التعرض للضوء في النهار يؤدي أيضًا إلى تحسين اليقظة، في الوقت الذي لا يفرز فيه الميلاتونين؛ مما يشير إلى أحد الأمرين، وهما: إمَّا أن الميلاتونين ليس الوسيط المباشر لليقظة، أو أن ثمة عمليات منفصلة تتم خلال الليل والنهار لتعزيز اليقظة بالضوء. كما أن استعمال الميلاتونين الاصطناعي يتسبب أيضًا في تحفيز حالة من النعاس الخفيف، ولا سيما في حالة تعطل إفراز الميلاتونين الطبيعي؛ الأمر الذي يجعل الميلاتونين — عندما يقترن بقدرته على تغيير توقيت الساعة البيولوجية — مفيدًا في علاج اضطرابات النوم المرتبطة باضطراب نَظْم الساعة البيولوجية، مثل العمل بنظام النوبات، واضطراب الرحلات الجوية الطويلة، وعدم انتظام الإيقاع اليومي لدى المكفوفين، واضطرابات تقديم وتأخير موعد النوم إذا استُخدم في التوقيت المناسب (انظر الفصل السادس).

(٩) ماذا يحدث عند الحرمان من النوم؟

يتطلب فهم الدور الذي يلعبه النوم وإيقاعات الساعة البيولوجية اليومية في كيفية عمل وظائف الأعضاء والتمثيل الغذائي إجراء تجارب معملية مُراقبة بعناية. وتعد مقارنة ما يحدث للأفراد حين تُتاح لهم فرصة الخلود إلى النوم مقابل ما يحدث حين يُرغَمون على السهر طوال الليل أسلوبًا بسيطًا لدراسة التأثير المباشر للنوم. وقد أثبتت هذه الدراسات المتعلقة بالحرمان من النوم تأثر الكثير من الهرمونات والببتيدات بنظام الساعة البيولوجية، والنوم، أو بالاثنين معًا. تظل معدلات إفراز ميلاتونين من الغدة الصنوبرية ثابتة في حالة النوم أو عدمه، على الرغم من أنه يثبط بشدة إذا لم تكن الأضواء خافتة للغاية. وكذلك لا يتغير معدل هرمون الكورتيزول، الذي تفرزه الغدد الكظرية، في حالة النوم أو الاستيقاظ، حيث يرتفع معدله أثناء الليل إلى أن يصل أقصاه في الوقت الذي يسبق استيقاظنا مباشرة (حتى في حالة عدم النوم)، على الرغم من أن الاستيقاظ من النوم يتسبب في ارتفاع إضافي طفيف في هذا الهرمون. وعلى العكس من ذلك، هناك بعض الهرمونات، منها على سبيل المثال هرمون النمو، تعتمد على النوم بشكل كبير ولا تتأثر بقوة بنظام الساعة البيولوجية. يتم إفراز هرمون النمو بصورة رئيسية أثناء النوم البطيء الموجات، ويكون في أقل معدلاته في حالات الحرمان من النوم. أما هرمون الغدة الدرقية فيتميز بفترة ذروة قصيرة قبل الخلود إلى النوم مباشرةً، ويحدث هذا في ظل ظروف طبيعية، ويتأثر تأثرًا طفيفًا بالساعة البيولوجية. ومع ذلك، فعند قياس معدلاته في حالة الحرمان من النوم، يتم رصد تأثير قوي لإيقاع الساعة البيولوجية على هرمون الغدة الدرقية، الذي يبلغ ذروته خلال الليل وهي الفترة التي عادةً ما يثبطه فيها النوم خلال الليل. وهكذا، سيؤدي الحرمان من النوم إلى انخفاض معدلات هرمون النمو وارتفاع معدلات هرمون الغدة الدرقية.

(١٠) ألا تنال قسطًا كافيًا من النوم؟

لقد بدأنا لتوِّنا في استيعاب ما يحدث حال عدم حصولك على قسطٍ كافٍ من النوم كل ليلة وحال معاناتك من نقص النوم المزمن. ركزت معظم الدراسات التي أُجريت حتى الآن على تأثير اضطرابات النوم على معدلات اليقظة والأداء، إلا أن البيانات الحديثة تؤكد على أن ثمة تأثيرات أيضًا على التمثيل الغذائي وصحة الإنسان (انظر الفصل السابع). ففي ظل الظروف النموذجية، يتبدد ضغط النوم المتراكم خلال فترة اليقظة أثناء النوم لدرجة أن حالة التنبه واليقظة تصل لأقصى معدلاتها عند الفرد تقريبًا عند الاستيقاظ. وتشير الكثير من الأدلة إلى أن عدد ساعات نوم الشباب تصل إلى حوالي ٨٫٥ ساعات كل ليلة إذا ما أُتيحت لهم الفرصة الكافية، ويصل عدد ساعات نوم مَن هم أكبر سنًّا إلى ٧٫٥ ساعات، وهو معدَّل أعلى بكثير من المعدلات الفعلية التي يحصل عليها معظم الأشخاص خلال نومهم. ويؤدي تعذر الحصول على قدْر كافٍ من النوم إلى المعاناة من نقص النوم المزمن، أو بمفهوم آخر تراكم في «دَين النوم»؛ فكما هو الحال في الكثير من العقود النقدية، التي تتضمن قوانين صارمة تختص بمواعيد تسديد الدَّيْن، فدَين النوم كذلك لا يمكن تأجيله لأجَلٍ غير مسمًّى دون فرض عقوبات قاسية، وفي هذه الحالة تُفرض هذه العقوبات على الصحة. وبخلاف معظم العقود النقدية، يجب أن يُسد العجز في النوم يومًا بيوم، فينتهي بنا الحال وقد وجدنا أن النوم الزائد في عطلة نهاية الأسبوع غير كافٍ لتعويض أسبوع كامل من النوم السيِّئ المضطرب. من المؤسف أنه لا يمكن تخزين قسط من النوم على سبيل الرصيد، على الرغم من أن الحصول على قسط إضافي استباقي من النوم قبل فترة مُتوقَّعة من الحرمان من شأنه أن يكون مفيدًا. ببساطة، تُعدُّ ودائع النوم المنتظمة بصفة يومية ضرورية للحفاظ على توازن صحي في مصرف النوم.

سرعان ما تصبح الآثار الضارة الناتجة عن نقص النوم المزمن بنفس حدة الحرمان الشديد منه. فبعد مرور أسبوعين تقريبًا من النوم لفترة تقل عن ٦ ساعات كل ليلة، تنخفض معدلات الأداء لدى الشخص لتصل إلى نفس معدلات شخص يُعاني من حرمان حادٍّ من النوم لمدة ٢٤ ساعة؛ إذ يمكن أن يؤدي قضاء ٤ ساعات فقط في الفراش كل ليلة لمدة ٧ أيام إلى الوصول إلى نفس ذلك المعدل في الأداء، وبعد أسبوعين، يصبح معدل الأداء مساويًا لأداء شخص ظل من دون نوم لفترة يومين أو ثلاثة أيام متواصلة. ومما يُثير القلق، أن تقدير الأشخاص لمدى شعورهم بالنعاس لا يتغير بنفس المعدل؛ مما يشير إلى عدم إمكانية الحكم بدقة على مدى الضعف الذي ينتابنا عند الحرمان من النوم، كما هو الحال حين نظن أننا سنتمكن من القيادة ببراعة بعد الإفراط في الشراب. وإذا ما تم الجمع بين كلٍّ من الحرمان الحادِّ والمزمن من النوم، كأن يكون مثلًا بسبب الإخفاق في الحصول على التعويض الكافي للنوم بعد الاستيقاظ طوال الليل في مرات متكررة، فإن الآثار الضارة على معدل الأداء تتضاعف لتصل إلى ١٠ أضعافها. حتى الآن لم يحدد بعد عدد الليالي التي يجب فيها النوم لفترات طويلة لتعويض هذا التدهور، على الرغم من أن النوم بشكل متكرر في عطلة نهاية الأسبوع غالبًا ما يكون غير كافٍ. فكما هو الحال مع ارتياد الصالات الرياضية أو اتباع نظام غذائي، يتطلب الأمر بذل مجهود يومي لنَيل قسطٍ كافٍ من النوم وتفادي تأثير الحرمان الحاد والمزمن من النوم على الصحة والسلامة.

المربع رقم ٢: الحرمان من النوم والتعذيب

برز الحرمان المتعمَّد من النوم، أو ما يُعرَف ﺑ «إدارة النوم» على الساحة عبر استخدامه كأسلوب متقدم للاستجواب. إن الحرمان من النوم لفترة تصل إلى ١٨٠ ساعة — ما يُوازي سبعة أيام ونصف اليوم — لا يزال حتى وقتِ وضْع هذا الكتاب يُعدُّ أمرًا مسموحًا به في الحكومة الأمريكية، وإنْ كان فيما سبق إجراءً غير قانوني. ويتم تحقيق ذلك بشكل عام عن طريق إصدار ضوضاء عالية واستخدام أغلال للإبقاء على وضْع غير مريح إطلاقًا من شأنه أن يجعل الخلود إلى النوم أمرًا شبهَ مستحيل. وتنص لوائح الولايات المتحدة الأمريكية، على أن الشخص المعاقَب لا يُسمَح له بالنوم إلَّا لمدة ٨ ساعات فقط بعد سبعة أيام ونصف من الحرمان من النوم، وذلك قبل أن تُفرَض عليه نفس فترة الحرمان من النوم ثانيةً. ولنتخيل فرض مثل هذه القيود على الطعام أو الماء! ويستخدم مثل هذا الحرمان من النوم للتأثير على الحالة النفسية، مع أن الآثار العديدة للحرمان من النوم على التمثيل الغذائي والجهاز المناعي من شأنها أن تكون مدمرة أيضًا. ويتسبب الحرمان من النوم في الكثير من الآثار العصبية الحيوية التي تتضمن تدهور زمن رد الفعل، والذاكرة والقدرات المعرفية. فهو يؤدي سريعًا إلى إصابة الأفراد بحالة من «هلوسة ما قبل النوم»، وتغيرات في الإدراك تؤدي إلى رؤية أحلام أو صور أخرى؛ نتيجة لتوغل أنماط نوم حركة العين السريعة داخل الدماغ في حالة اليقظة، وفي الحالات الأكثر خطورة، تتدهور قدرة الفرد على المعالَجة الشعورية؛ مما ينتهي به إلى الإصابة بالذهان.

وحيث إن الحرمان من النوم يخفض عتبات الألم ويَزِيد من الشعور بالجوع، فيُعتقَد أيضًا أنه يُعزِّز أساليب أخرى للاستجواب، مثل التلاعُب بالنظام الغذائي. وعلى الرغم من ضرورة توفر الإشراف الطبي على هذا النوع من الاستجوابات، فإن الأطباء يتلقَّوْن القليل من التدريب أو لا يتدربون مطلقًا في مجال طب النوم ولا يملكون أي خبرة في تحديد عواقب الحرمان الحاد أو المزمن من النوم، سواء أكانت تلك العواقب قصيرة أم طويلة المدى. غالبًا ما يقلل المجتمع من شأن الحرمان من النوم؛ ومن ثم فإن آثاره الكاملة بوصفه أسلوبًا للاستجواب لا تَحظَى بالتقييم الكافي. ومن المهم ألَّا ننسى أيضًا أن النوم يعدُّ سلوكًا حيويًّا للبقاء على قيد الحياة شأنه في ذلك شأن التغذية. تكفل اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، التي تم توقيعها عام ١٩٧٥، «الحماية لكافة الأشخاص من التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية أو المهينة». ومن الجليِّ أن الحرمان المطوَّل من النوم يُخالِف هذه الشروط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤