الفصل الثالث

العقل النائم

كما اتضح لنا في الفصل الثاني، يُعدُّ النوم عملية شديدة التعقيد تنتج عن آليتين شديدتي التناقض، تتضمنان ساعة الجسد الإيقاعية الممتدة ﻟ ٢٤ ساعة (الإيقاع اليومي أو العملية سي) وتزايد ضغط النوم الاستتبابي الذي يعتمد على فترة الاستيقاظ (العملية إس) (انظر الشكل رقم ٢-٥) وتقوم كلتا العمليتين بالتنسيق بين نوم حركة العين السريعة ونوم حركة العين غير السريعة ونشاط العديد من مناطق الدماغ، والناقلات العصبية، والهرمونات المنظِّمة، التي لا يؤثر كلٌّ منها بمفرده وبشكل حصري في إحداث النوم (انظر الشكل رقم ٣-١). ويقدم هذا التعقيد البالغ تفسيرًا لمدى الصعوبة التي كان عليها فصل علم أعصاب النوم، وربما يقدم تفسيرًا كذلك لشدة تفاوت أنماط النوم بين البشر وغيرهم من الفصائل الأخرى. إن شكل النوم مثله مثل شخصية الفرد يُعدُّ نتاج محفزات بيئية مختلفة وتفاعلات ديناميكية ذاتية. وسوف نتناول في هذا الفصل التكوينات الرئيسية للدماغ وأنظمة الناقلات العصبية التي تتصل بعملية النوم لدى الثدييات. ليس هذا بالفصل السهل؛ لذا ربما يتعين عليك الآن الذهاب وإعداد قدح من القهوة قبل استئناف القراءة!

(١) النَّوى فوقَ التصالُبية والساعة الجزيئية

fig7
شكل ٣-١: رسم للدماغ يوضح بعض المناطق الرئيسية المشارِكة في تنظيم عملية النوم واليقظة. ويظهر من خلال الرسم تكوينات الدماغ وأهم الناقلات العصبية المرتبطة بها. الاختصارات الخاصة بمناطق الدماغ كالتالي: الدماغ المقدم = BF، نواة الرفاء الظهرية أو الوسطى = DR/MR، الموضع الأزرق = LC، النَّوَى الغطائية الجانبية الظهرية = LDT، تحت المهاد الجانبي = LH، السقيفة الجسرية الجانبية = LPT، النَّوَى السقيفية الجسرية = PPT، النَّوى فوق التصالبية = SCN، النواة الظهرية الجانبية = SLD، النواة الحدبية الحلمية = TMN، نوى أمام التصالُبية البصرية البطنية الوحشيَّة = VLPO، المادة الرمادية المركزية البطنية = vPAG، المادة الرمادية المحيطة بالمسال البطنية الوحشية = vIPAG. اختصارات خاصة بالناقلات العصبية هي: السيروتونين 5-HT، أسيتيل كولين ACH، الدوبامين DA، حمض الجاما أمينوبوتيريك GABA، الجلانين Gal، الجلوتامات Glut، الهيستامين His، النورأدرينالين NA، أوركسين ORX.

لقد أدَّى تَلَفُ مناطق صغيرة من دماغ الفأر، تحديدًا الجزء الأمامي من تحت المهاد، إلى اعتبار كتلة مترابطة تتكون من حوالي ٢٠ ألف خلية تعرف بالنَّوى فوقَ التصالُبية، من العناصر الحيوية المسئولة عن تنظيم إيقاعات السلوك لدى الفأر، مثل الشرب والتنقل، على مدار أربع وعشرين ساعة. وتعتبر الدراسات التي أُجريَتْ في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته دليلًا آخرَ على أن النَّوى فوق التصالُبية هي مركز الساعة البيولوجية؛ حيث أظهرتْ تلك الدراسات أنه يمكن الاستعاضة عن تلف النَّوى فوق التصالبية بزراعة أنسجة نوى فوق التصالبية عن طريق نقلها من حيوان إلى آخر؛ الأمر الذي يُعيد الإيقاع اليومي الممتد على مدار ٢٤ ساعة، بما في ذلك دورة النوم والاستيقاظ.

تعدُّ كل خلية في النوى فوق التصالبية ساعة منفصلة بذاتها، حيث تظهر كل خلية عصبية منها إيقاعات من النشاط تقارب ٢٤ ساعة، وتتسق تلك الخلايا على نحو ما في نشاطها الكهربائي الفردي لتنتج في النهاية الإيقاع الكلي للنوى فوق التصالبية الذي يقارب الأربع والعشرين ساعة. جاء الدليل على قدرة الخلية العصبية الواحدة المنعزلة في النوى فوق التصالبية على إصدار ذبذبات لقرابة اﻟ ٢٤ ساعة، ليثبت أن الآلية التي تجعل الساعة «تدق» يجب أن تكون آلية جزيئية دون خلوية. ولقد قادت النتائج — التي تم التوصل إليها في حقبة السبعينيات — من خلال العمل البحثي الذي تم إجراؤه على ذبابة الفاكهة، وفئران وهامستر طافرة، مع قليل من الإلهام وجانب من الحظ؛ قادتْ جميعُها إلى إنتاج نموذج جزيئي لاستحداث النظام اليومي الإيقاعي الذي يعتمد على نشاط مجموعة «من جينات الساعة» الحيوية. ويكمن في جوهر ذلك النموذج حلقة من ردود الأفعال الجزيئية حيث تعمل بروتينات «بي إم إيه إل ١» و«سي إل أو سي كيه» على تنظيم عملية النسخ الجيني والتحكم في إنتاج بروتينات «بي إي آر ١»، و«بي إي آر ٢»، و«بي إي آر ٣»، و«سي آر واي ١» و«سي آر واي ٢». وفي إيجاز، ترتبط بروتينات «سي إل أو سي كيه» و«بي إم إيه إل ١» بمناطق جينات «بيريود» و«كريبتوكروم»؛ مما يؤدي إلى التعبير عن البروتين «بي إي آر» و«سي آر واي». ثم تتفاعل حينها بروتينات «بي إي آر» مع بروتينات «سي آر واي» لتكوين مركب بروتيني في سيتوبلازم الخلية، ثم يدخل ذلك المركب البروتيني إلى نواة الخلية ويحفز حلقة من التغذية الراجعة السلبية من خلال تثبيط عملية النسخ التي ينشطها بروتينا «سي إل أو سي كيه» و«بي إم إيه إل ١»؛ مما يوقف إنتاج بروتينات «بي إي آر» و«سي آر واي». ثم بعد ذلك يتحلل هذا المركب البروتيني، وينتهي تثبيط النسخ الذي يقوم به كل من بروتين «سي إل أو سي كيه» وبروتين «بي إم إيه إل ١»، ويصبح بإمكانهما مواصلة عملية النسخ مرة ثانية. وتستغرق تلك العملية الجزيئية من إنتاج البروتين إلى تحلُّله نحو ٢٤ ساعة.

ولا تقتصر تلك الساعات الجزيئية وآلياتها الإيقاعية على خلايا النوى فوق التصالبية فحسب، فمن الواضح الآن أن معظم خلايا الجسم قادرة على تكوين نظام يومي لتذبذباتها الإيقاعية بعيدًا عن النوى فوق التصالبية (وإن كانت تتسم بالضعف وعدم القدرة على دعم ذاتها). غيَّر هذا الاكتشاف النظرة إلى نظام الإيقاع اليومي للثدييات؛ حيث تغير ذلك الافتراض القديم القائم على فكرة أن النوى فوق التصالبية تفرض إيقاعاتها الممتدة ﻟ ٢٤ ساعة على باقي أعضاء الجسم، وأصبحنا نقدِّر الآن حقيقة وجود العديد من الترتيبات الهرمية للعديد من الساعات الإيقاعية الطرفية، التي يحقق التزامن بينَها النوى فوق التصالبية التي تعد بمنزلة «القائد» أو «مايسترو» الأوركسترا الإيقاعية، مستخدمة في ذلك كلًّا من الإشارات الكيميائية والعصبية. ويتلقَّى نظام الإيقاع اليومي بدوره العديد من المردودات من الجسد ومجموعة متنوعة من الأجهزة العضوية، لتكون النتيجة في نهاية الأمر نظامًا ترتيبيًّا معقدًا من التفاعلات المتبادَلة تُسهِم جميعها في فترة، وطور، وسعة الإيقاع اليومي للفرد. إلا أنَّ تفرُّد النوى فوق التصالبية يتجلَّى في قدرتها على التنسيق بين الساعات الإيقاعية للأنسجة الأخرى، وكونها الجزء الوحيد من الدماغ القادر على استعادة الإيقاعية عند زراعتها داخل مضيف تلفت النواة فوق التصالبية به.

تتسق تلك التذبذبات الجزيئية التي تتم داخل النوى فوق التصالبية مع دورة الضوء والظلام المرصودة من قِبَل العين؛ حيث تقوم القناة الشبكية تحت المهادية التي ترسل إشاراتها إلى النوى فوق التصالبية بإطلاق الناقلات العصبية الجلوتامات ومتعدد البيبتيد النخامي المنشط لسكلاز الأدينيلات. وتنشط حينها سلسلة كبيرة من الإشارات بين الخلايا؛ الأمر الذي يقود في النهاية إلى زيادة نشاط الجينات «بي إي آر ١» و«بي إي آر ٢». ويؤدي التوليف اللاحق بين كلٍّ من بروتينَيْ «بي إي آر ١» و«بي إي آر ٢»، إلى تثبيط طويل الأمد لنشاط بروتينَيْ «بي إم إيه إل ١» و«سي إل أو سي كيه». ويبدو أن هذا التثبيط الناجم عن الضوء لدافع النسخ لدى كل من بروتينَيْ «سي إل أو سي كيه» و«بي إم إيه إل ١» هو العامل المهم للغاية لربط الساعة الجزيئية بدورة الضوء المحلية.

وبينما يعد الضوء الإشارة البيئية الزمنية الأساسية لإعادة ضبط النوى فوق التصالبية، فإنه من المهم التأكيد على أن بعض المسارات الترابطية المختلفة بدأت تظهر وأثبتت قدرتها على تعديل الساعات الإيقاعية الطرفية في الكبد والأمعاء وغيرها من الأعضاء الأخرى على نحو مستقل عن النوى فوق التصالبية. إن نقص التزامن الداخلي بين أجهزة الأعضاء المختلفة في الجسم، في واقع الأمر، يؤدي إلى ظهور العديد من أعراض اضطراب الرحلات الجوية الطويلة. حيث تَتَلقَّى الساعاتُ الإيقاعية الطرفية إشاراتٍ زمنيةً متعارضة من النوى فوق التصالبية (التي تكون هي ذاتها قد دخلتْ طور التعديل)، ومن البيئة بسبب جداول نشاط النوم غير المنتظمة (العملية إس)، والتعرض غير الطبيعي للضوء، وتناول الطعام. حيث يؤدي ذلك كله إلى ضياع الاتساق الطبيعي للعمليات الفسيولوجية الداخلية وعمليات التمثيل الغذائي؛ مما قد يُؤثِّر على الصحة (انظر الفصول: السابع والثامن والتاسع).

(٢) محفزات الاستتباب أو الاتزان الداخلي

يخضع النوم كذلك للتنظيم الاستتبابي (العملية إس)؛ حيث يتزايد ضغط النوم مع طول فترة الاستيقاظ، ويتبدد مع ما يلي ذلك من الخلود إلى النوم. يؤدي الحرمان من النوم إلى رد فعل تعويضي يتمثل في النوم العميق، كما اتضح من خلال قياس نشاط الموجة البطيئة لحركة العين غير السريعة، وطول مدة النوم التعويضي. وعلى الرغم من الدراسة المستفيضة التي أُجريت على ديناميات تنظيم النوم الاستتبابي، فإننا لم نفهم سوى القليل فيما يتعلق بطبيعة هذه العملية. وعلى النقيض من الموقع التشريحي الواضح للساعة البيولوجية الرئيسية داخل النَّوى فوق التصالبية، تظل «النَّوى» المسئولة عن النوم والمواد التنظيمية المحفزة للنزعة الطبيعية له غيرَ مفهومة على نحو كامل.

أفادتْ دراسات أُجريت في القرن الماضي أن السائل الدماغي النخاعي يحتوي على مادة تتجمع أثناء اليقظة، ويمكن أن تحفز النوم إذا ما نُقلت من متبرِّع محروم من النوم إلى حيوان آخر. ولقد ركز السعي خلف «المحفز» الخاص بالنوم الاستتبابي على مفهوم وجود عنصر النوم الذي يفي بكافة هذه المعايير أو بعض منها: (١) إذا قُدِّم ذلك العامل إلى المخ، فإنه سيعزز النوم. (٢) إذا عُزِل العامل، فإن النوم سيقل. (٣) ينبغي أن يتغير العامل تبعًا لمحفز النوم أو النزعة الطبيعية للنوم. (٤) ينبغي أن يعمل العامل على الدوائر الكهربائية للدماغ التي تدخل ضمن عملية النوم. (٥) قد يتغير العامل في بعض الحالات المرضية المرتبطة بالنوم.

ووفقًا لهذه المعايير أصبحتِ العديد من المواد جزءًا من العملية، فعلى سبيل المثال: إنترلوكين-١ بيتا، عامل نخر الورم-ألفا، الهرمون الذي يفرز هرمون النمو، البروستاجلاندين دي٢ والأدينوسين، حيث إنه تم الربط بين كل هذه المواد وتنظيم نوم حركة العين غير السريعة. ومن أجل تنظيم نوم حركة العين السريعة، وُجد أنه ثمة علاقة لكل من البرولاكتين، وأكسيد النيتريك، ومتعدد الببتيد المعوي الفعال في الأوعية. وعلى سبيل المثال، يُمكِن تلخيص الدليل على تنظيم الأدينوسين لنوم حركة العين غير السريعة على النحو التالي:

ظهر أول دليل على آثار الأدينوسين في تحفيز النوم عند القطط خلال فترة خمسينيات القرن العشرين. وتُستخدم حاصرات مستقبلات الأدينوسين (مثبطات الأدينوسين)، مثل الكافيين والثيوفيلين، الموجودة في القهوة والشاي، على نطاق واسع كمنشطات للجهاز العصبي المركزي لتحفيز اليقظة وزيادة فترة الاستيقاظ. يقلل الكافيين من نشاط الموجة البطيئة في التخطيط الكهربائي للدماغ خلال فترة النوم التالية، وتخفف آثار استهلاك الكافيين خلال فترات اليقظة الطويلة من حدة الآثار النمطية للحرمان من النوم على التخطيط الكهربائي للدماغ الذي يُجرَى أثناء الاستيقاظ والنوم.

يُعَدُّ الأدينوسين ناتجًا ثانويًّا عن التمثيل الغذائي للطاقة واستخدامِ الأدينوسين ثلاثيِّ الفوسفات. ولقد اتضح أن تركيزات الأدينوسين خارج الخلية تزيد في الدماغ مع زيادة معدل التمثيل الغذائي والنشاط العصبي واليقظة. وأفادت قياسات الأدينوسين في أدمغة القطط والفئران التي تتحرك بحرية خلال دورة النوم والاستيقاظ أن مستويات الأدينوسين في الدماغ المقدم تكون أقل بكثير خلال النوم منه أثناء اليقظة.

ويجب التأكيد هنا على أن الأدينوسين ليس هو المادة المحتملة الوحيدة لتنظيم النوم؛ حيث يمكن لمجموعة متنوعة من عوامل تنظيم النوم العملُ على تعزيز النوم بصورة متفاوتة وتغيير النشاط الكهربائي للخلايا العصبية في مناطق محددة في الدماغ ترتبط بعملية تنظيم النوم (انظر الشكل رقم ٣-١). يعمل الأدينوسين على الخلايا العصبية للدماغ المقدم من أجل تعزيز النوم، وعلى الجانب الآخر، يعمل الهرمون الذي يفرز هرمون النمو، وعامل نخر الورم والإنترلوكين ١ على الخلايا العصبية لمنطقة تحت المهاد الأمامي لتعزيز نوم حركة العين غير السريعة، ويعمل كل من عامل نخر الورم والإنترلوكين ١ أيضًا على الموضع الأزرق، ويعمل الإنترلوكين ١ على نواة الرفاء الظهري لتعزيز النوم. تشير كافة هذه النتائج إلى أن عملية البحث عن مادة واحدة «بمفردها» تعمل كمحفز لاستتباب النوم لا طائل منها.

(٣) مراكز الدماغ والناقلات العصبية للنوم واليقظة

تنظم عمليات الاستتباب أو الاتزان الداخلي ونظام الإيقاع اليومي العديدَ من دوائر الدماغ الكهربائية وأنظمة الناقلات العصبية. وتؤدي اليقظة إلى تنشيط مجموعات الخلايا العصبية داخل جذع المخ، ومنطقة تحت المهاد والدماغ المقدم، التي تعمل بدورها على تعزيز اليقظة داخل المهاد والقشرة الدماغية (انظر الشكل رقم ٣-١). يؤدي الانخفاض السريع في معدل اليقظة إلى تحفيز النوم، الذي تم ربطه بمفتاح مثبط يتحكم فيه حمض الجاما أمينوبوتيريك أو الخلايا العصبية التي تحتوي على الجلانين في النَّوَى أمام التصالبية البصرية البطنية الوحشية الموجودة في منطقة تحت المهاد الأمامي. يحفز التثبيط المتبادل بين الدوائر الكهربائية المحفزة لليقظة والنوم عمليات الانتقال السريعة بين حالات النوم والاستيقاظ. ويقدم الشكل رقم ٣-٢ تلخيصًا لبعض مراكز الدماغ الأساسية التي تساهم في عمليتي النوم والاستيقاظ والتغيرات في إفراز الناقلات العصبية المرتبطة بحالتي النوم والاستيقاظ.
fig8
شكل ٣-٢: أهم التكوينات الرئيسية في الدماغ والناقلات العصبية المرتبطة بتحفيز دورة النوم والاستيقاظ. أثناء حالة الاستيقاظ، تعمل الخلايا العصبية الخاصة بالأوركسين الموجودة داخل منطقة تحت المهاد الجانبي على مخاطبة وتحفيز الخلايا العصبية ذات المفعول أحادي الأمين والخلايا العصبية الكولينية. وتعمل هذه الناقلات العصبية بشكل جماعي على تحفيز اليقظة في الدماغ والوعي في القشرة الدماغية. وتقوم الخلايا العصبية ذات المفعول أحادي الأمين، خلال فترة اليقظة أيضًا، بتثبيط عمل النوى أمام التصالبية البصرية البطنية الوحشية. أما خلال النوم، فتُنشِّط محفزات نظام الإيقاع اليومي والنوم الاستتبابي النوى أمام التصالبية البصرية البطنية الوحشية؛ مما يؤدي إلى إفراز حمض الجاما أمينوبوتيريك والجلانين لكبح عمل الخلايا العصبية الخاصة بالأوركسين داخل منطقة تحت المهاد الجانبي وتثبيط عمل الخلايا العصبية ذات المفعول أحادي الأمين والخلايا العصبية الكولينية. ويحدث الانتقال كل ٧٠–٩٠ دقيقة فيما بين نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة نتيجة للخلايا العصبية الموجودة في الدماغ الأوسط والدماغ المؤخر. تبقى الخلايا العصبية ذات المفعول أحادي الأمين مثبطة خلال نوم حركة العين السريعة، على عكس الخلايا العصبية الكولينية التي تنشط في ذلك الوقت. وأثناء نوم حركة العين السريعة، تخاطب الخلايا العصبية مع النخاع الشوكي مما يؤدي بدوره إلى شلل العضلات (الونَى).

(٤) الناقلات العصبية لليقظة

كما هو مُوضح في كل من الشكلين رقم ٣-١ و٣-٢، تغمر القشرة الدماغية مجموعة من الناقلات العصبية المحفزة لليقظة. وينبع قدر كبير من هذا التحفيز من «نظام اليقظة المتزايد»، وهو المصطلح الذي يستخدم لوصف التكوينات الدماغية المتعددة داخل جذع المخ، والمهاد، وتحت المهاد والدماغ المقدم، التي ينتج عنها العديد من الناقلات العصبية ذات المفعول أحادي الأمين (هيستامين، دوبامين، نورأدرينالين، سيروتونين) وناقل عصبي كوليني (أسيتيل كولين)، وتؤدي كل هذه العوامل إلى تحفيز اليقظة. ينشط نظام اليقظة المتزايد خلال فترة الاستيقاظ عن طريق اتصالات مباشرة من الخلايا العصبية المنتجة للأوركسين في منطقة تحت المهاد الجانبي. ولقد اتضح أن تدمير الخلايا العصبية الأوركسينية يتسبب في بعض أشكال الخدر. ويتم كذلك كبح عمل نوى أمام التصالبية البصرية البطنية الوحشية عن طريق العديد من المدخلات من نُظم ذات مفعول أحادي الأمين ومراكز أخرى من الدماغ، بما فيها تحت المهاد.

(٥) تحفيز نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة

كما هو مُوضح في الشكل رقم ٣-٢، فإن تنشيط محفزات النوم (الإيقاع اليومي والاستتباب) للنوى أمام التصالبية البصرية البطنية الوحشية يحفز كلًّا من نوم حركة العين غير السريعة وحركة العين السريعة. ويتم هذا عن طريق تثبيط عمل الخلايا العصبية الأوكسينية داخل منطقة تحت المهاد الجانبي. ويثبط النوى أمام التصالبية البصرية البطنية الوحشية — بشكل مباشر — كلًّا من النظام ذي المفعول أحادي الأمين والنظام الكوليني، خلال نوم حركة العين غير السريعة (انظر الشكل رقم ٣-٢). وخلال نوم حركة العين السريعة، يبقى النظام ذو المفعول أحادي الأمين مكبوتًا، على خلاف النظام الكوليني الذي ينشط عن طريق نوم حركة العين السريعة بواسطة الخلايا العصبية التي تنشط أثناء نوم حركة العين السريعة والموجودة في الدماغ الأوسط. ويعد الأدينوسين من المحفزات الرئيسية للنوم، ويُعتقد أنه يتراكم في مساحات خارج خلايا الدماغ المقدم الذي يُنشِّط النوى أمام التصالبية البصرية البطنية الوحشية عن طريق العديد من المسارات المباشرة وغير المباشرة.

(٦) التناوب ما بين نوم حركة العين غير السريعة وحركة العين السريعة

تنشأ دورة نوم حركة العين غير السريعة وحركة العين السريعة عن طريق الخلايا الموجودة في الدماغ الأوسط والدماغ المؤخر (انظر الشكل رقم ٣-٢). تقع الخلايا العصبية التي يتوقف نشاطها أثناء نوم حركة العين السريعة داخل المادة الرمادية المحيطة بالمسال البطنية الوحشية في الدماغ الأوسط والسقيفة الجسرية الجانبية للدماغ المؤخر (انظر الشكل رقم ٣-١). ويؤدي تلف هذه المراكز إلى زيادة مطردة في معدل نوم حركة العين السريعة؛ مما يشير إلى أن هذه المراكز عادةً ما تثبط نوم حركة العين السريعة. تقع الخلايا العصبية التي تنشط أثناء نوم حركة العين السريعة داخل النوى الظهري الجانبي للدماغ المؤخر (الشكل رقم ٣-١) التي تنشط خلال نوم حركة العين السريعة. ويؤدي تلف النوى الظهري الجانبي إلى التراجع الشديد في نوم حركة العين السريعة وشلل العضلات (ونَى)، وبالفعل قد يتجول الأشخاص أثناء نومهم. يتضمن «التناوب» بين نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة تفاعلات مثبطة بين الخلايا العصبية الموجودة بداخل مراكز الخلايا العصبية التي تنشط أو التي تتوقف عن العمل أثناء نوم حركة العين السريعة. ويتضمن النوى الظهري الجانبي الذي ينشط أثناء نوم حركة العين السريعة أيضًا خلايا عصبية تخاطب الحبل الشوكي بشكل مباشر؛ ويؤدي هذا بدوره إلى ونى العضلات. ومع ذلك يخاطب النوى الظهري الجانبي أيضًا الدماغ المقدم والنوى السقيفية الجسرية/النوى الغطائية الجانبية الظهرية (انظر الشكل رقم ٣-١) وينتج عن ذلك ما يُظهِره لنا التخطيط الكهربائي للدماغ أثناء نوم حركة العين السريعة. ولقد أُجريتِ العديد من التجارب في مختبر كليفورد سابر بهارفرد لنتمكن من استيعاب هذا «التناوب» المسيطر على النوم.

(٧) جينات نوم متعددة وأنماط متعددة للنوم والاستيقاظ

أظهرت دراسات أُجريت خلال ثلاثينيات القرن العشرين أن التوائم أحادية الزيجوت المتطابقة، الذين تتطابق جيناتُهم بنسبة ١٠٠٪، يتشابهون كثيرًا في أوقات وفترات نومهم مقارنةً بالتوائم ثنائية الزيجوت، والذين يتشاركون في ٥٠٪ فقط من جيناتهم. ولقد أظهرت دراسات أُجريت حديثًا على البشر والفئران أن أنماط نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة تُظهِر معدلات أعلى من التشابه في الأفراد الذين تجمعهم صلات وثيقة. إن حقيقة وجود عنصر جيني في النوم أمرٌ لا يُثير الدهشة، لكن ما هي تلك الجينات؟

يوجد الآن دليل قوي يربط بين تغيرات معينة في جينات الساعة البيولوجية واليقظة الصباحية واليقظة المسائية. فعلى سبيل المثال، يرتبط التعدد الشكلي للجينات البشرية «بي إي آر ١» و«بي إي آر ٢» و«بي إي آر ٣» بالفئات التي تتمتع بذروة يقظتها في الصباح (القُبَّرات). كما يرتبط تفضيل فترة الصباح أيضًا بالطفرات في إنزيمات كيناز (سي كي١ دلتا وسي كي ١ إبسيلون) التي تضيف الفوسفات إلى البروتين «بي إي آر»؛ مما يؤدي إلى اضطراب في استقرار البروتين والحركة داخل النواة. وعند الفئران، تعمل الطفرات في جين «سي آر واي ١» على تعزيز النوم، بينما تعمل الطفرات في جين «سي آر واي ٢» و«سي إل أو سي كيه» على تأخير النوم.

ولقد وُجد أن ثمة علاقة أيضًا بين جين «سي إل أو سي كيه» والتنظيم الاستتبابي للنوم؛ حيث تنام الفئران التي بها طفرات في جين «سي إل أو سي كيه» حوالي ساعتين أقل من الفئران التي لم يحدث لها أي طفرات، بينما تنام الفئران التي حدثت لها طفرات في كل من «سي آر واي ١» وسي آر واي ٢» لفترات أطول. ولقد أفادت الدراسات التي أجراها بول فرانكين وزملاؤه أن مستويات البروتينَيْنِ «بي إي آر ١» و«بي إي آر ٢» في الدماغ المقدم للفئران تتزايد مع الحرمان من النوم وتقل خلال فترة تعويض النوم. وتبقَى آليات تنظيم تلك الجينات للنوم غامضة.

وفي ضوء صلة الكثير من الناقلات العصبية بعملية النوم (انظر الشكل رقم ٣-١)، يمكننا أن نتنبأ بأن الطفرات التي تحدث للجينات الخاصة بإنتاج تلك الناقلات العصبية ومستقبلاتها، والمغيرات، وقنوات الأيونات لها علاقة بالنوم واضطرابات النوم، وبعد الاختبار، ثبت صحة هذا الاستنتاج. ويعد الخَدَر أبرز مثال على ذلك. والخَدَر هو اضطراب في النوم يتسبب في معاناه الأفراد من نوم متقطع، أو نعاس مفرط أثناء النهار، واضطراب نوم حركة العين السريعة، ومن بين أعراضه الجُمدة (وهي فقدان مفاجئ لقوة العضلات)، ولقد تم الربط بين هذه الحالة وبين عيوب في مسار الأوركسين (ويسمى أيضًا بالهيبوكريتين) (انظر الشكل رقم ٣-٢). يؤدي التلاعُب بالعقاقير، والطفرات في الجينات الرئيسية أو الاضطراب الوراثي المستهدَف للنظام الكوليني والنظام ذي المفعول أحادي الأمين، إلى تعطيل عَمَل هذه الخلايا العصبية ومستقبلاتها وهو العمل الذي يشجع على الاستيقاظ (الشكل رقم ٣-٢). على سبيل المثال، تُظهِر الفئران التي تعرضت لإزالة مستقبِل هيستامين ديكاربوكسيليز معدلًا مرتفعًا من نوم حركة العين السريعة وفترات يقظة متقطعة. ولا تستطيع هذه الفئران كذلك البقاء مستيقظة لفترات طويلة ويظهر على سلوكها أعراض تشبه الخَدَر.

في هذا الوقت، يبدو أنه من غير المحتمل وجود ناقلات عصبية فريدة أو تكوين دماغي مسئول عن النوم بمفرده، حيث يبدو أن كلًّا من النوم والاستيقاظ هما نتاج شبكة من النشاط الدماغي. وخلال النوم، ينشِّط كل شخص هذه الشبكة على نحو مختلف قليلًا تتفاعل من خلاله الخبرات والتجارب اليومية مع العواطف الماضية، ويحدث ذلك كله مع استيعاب عملية التقدم في العمر. وهكذا، وعلى سبيل فك غموض اللغز سيبقى علماء الأعصاب في حالة انشغال دائم بديناميات هذه المؤثرات الذاتية والبيئية على النوم الطبيعي وغير الطبيعي خلال السنوات العديدة القادمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤