الفصل الحادي والعشرون

أوغلت الحرب فلم تعفِ أحدًا، ولم يستطع أحد مهما يتح له من اطمئنان أن يباعد ما بينه وبينها.

فقد عادت وفية إلى مصر تحمل طفلها عزت جميل. ولعلك مدرك من تسميتها لابنها أنها أثيرة على زوجها مجابة الرجاء عنده يبذل غابة جهده لإرضائها، فهو يُسَمِّي ابنهما باسم أبيها ولا يسميه باسم أبيه. ولعلك مدرك أيضًا أنها سعت مع الأيام، فلحبها القديم في نفسها آثار. وابنها، ابنها أرسلته إليها السماء الكبيرة فترى في ابتسامته ابتسامة الأيام، وترى في طلعته اعتذارًا عن حب كبير لم تتحقق آمالها فيه. ولعلك مدرك من وجود هذا الابن أن الزواج أثمر، وأن قلبَي الزوجين قد التقيا على ولدهما. وأني مطمئنك أيضًا أنهما التقيا على تلك الصداقة الحبيبة التي ينشأ في ظلالها الحب الرقيق الناعم العميق، تزيده المعاشرة اطمئنانًا وتزيده الأيام توثقًا، ذلك الحب الذي يولد صغيرًا كالطفل ويتغذى من الود والوفاق فينمو مع الأيام الطوال، ويستطيع مع هذه الأيام أن يمد جذوره في حياة الزوجين فيثبت قويًّا على الأعاصير والعواصف مهما يكن هبوبها من ماضٍ جياش بالهوى، أو من جهل الزوجين كليهما بالآخر قبل الزواج. اطمأنت الحياة بالزوجين، وثبت فيها العطف المزدهر والود الوثيق. وحين عادت وفية إلى بيت أبيها كان خيري يلقاها وتتصافح منهما الأيدي وتثب إلى الذهن خيالات من الماضي فلا تجد في نفسيهما إلا حُبًّا دارسًا أصبح صداقة وطيدة يحفها الإكبار والإعجاب، والذكريات والأمنيات المفعمة برجاء السعادة والرغد والنجاح في الحياة.

وعاد الدكتور حامد عبد الكريم، وما هو إلا هين السعي حتى عين بكلية التجارة مدرِّسًا للجغرافية الاقتصادية. ولم تعد دولت لتعيش مع أخيها فهو قد تعود الحياة فردًا، وأحب هذه العادة التي اكتسبها من لندن، كما أحب العادات الأخرى التي يعود بها أغلب العائدين من هناك. ولم ينسَ الدكتور حامد عادةً من تلك العادات، بل صحبها جميعًا من بلادها إلى مصر، ودمجها بعادته التي نبتت معه في مصر، فهو لا يزال بطيء المشية عظيمًا، نبيل اللفتات متكبر السمات. وعلى الرغم من أن الفقر كان مصدر هذه العادات، وعلى الرغم من أنه ترك الفقر واطمأن إلى عدم عودته إليه، إلا أنه لم يترك من عاداته القديمة هذه شيئًا. وكان من بين ما أحضر معه من عادات عادة الانفراد وعادة البخل، وكلتاهما تغنيه عن دولت أي غناء. واستطاع أن يبخل ويشتد بخله فلا يترك استغناءه عن دولت يمر دون أن يستغله أحسن استغلال. فأظهر لعزت باشا أنه يترك أخته إكرامًا لخاطره وخاطر فايزة التي أصبحت لا تستغني عنها، وأظهر أيضًا أنه يقبل هذا عن طيب نفس مهما يكن في هذا الترك من متاعب ستلاقيه بها وحدته وانفراده. وكان شكر الباشا واضحًا في سعيه الحثيث، وكانت الثمار دانية عن قريب في تعيين الدكتور بكلية التجارة.

لم ينسَ حامد وفاءه للبيت الذي حقق له هذه الآمال، وقد آلمه ما حاق به. ولكنه حين رأى الكارثة قديمة أخفى ألمه، وأبدى وفاءه في اهتمامه بيسري وإصراره أن يُلحقه بكلية التجارة ما دام غير راغب في كلية بعينها. والتحق يسري بكلية التجارة، وظل حامد يرعى أمره رعاية مخلصة وفية.

أمَّا خيري فقد واجه الحرب هادئًا، لم يشغله إلا غلاء الحاجات، ولكنه اطمأن حين وجد محصولات أرضهم تغلو هي أيضًا فتواجه الغلاء. وحين جاءت علاوات الحرب ازداد طمأنينة. وسار حياته كما كان يسيرها هادئًا واثقًا مرتاح النفس والضمير.

وأحس محسن من الحرب الظلام المفروض الذي حد من غزواته المسائية، وترك لأبيه جميع الأعباء الأخرى، وترك له أيضًا — بطبيعة الحال — المكاسب الكبرى التي أغدقتها الحرب على أصحاب الأرض.

واجه الجميع الحرب مرغمين غير راضين، شأنهم في ذلك شأن العالم أجمع. واختلف تأثر كل منهم عن الآخر شأنهم في ذلك أيضًا شأن سكان العالم أجمعين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤