الفصل السابع

طال مرض فايزة والمسكينة لا تملك إلا طاعة الأطباء دون أن تجدي الطاعة أو يُجدي الأطباء. وقد كان خيري خليقًا أن يزورها في كل يوم ليرى وفية ويطمئن على فايزة، ولكنه حين أعمل عقله وجد أن الامتحان الحاسم أصبح على الأبواب، ووجد أن الاطمئنان على فايزة يمكن أن يتم عن طريق محسن، أمَّا مذاكرته هو لدروسه فلا يمكن أن تتم إلا عن طريق المذاكرة نفسها بلا طريق آخر. واستطاع بالأمل الذي وضعته أمه له عند النجاح أن يكبح هوى قلبه وإلحاحه عليه أن يزور وفية، فظل في بيته وقد تولاه سعار من المذاكرة، وطلب إلى محسن أن يأتي ليذاكر معه حتى يتهيأ لهما جو بعيد عن مرض فايزة، وحتى يستطيع محسن أن يبتعد قليلًا عن خوفه على أخته ويفرغ إلى هذا الامتحان الذي يتقدم منهما حثيثًا لا يوقفه مرض فايزة أو خوف محسن.

كان خيري حائرًا، أيريد الأيام أن تمضي سراعًا، فتدنو به إلى الأمل المرتقب، أم يريدها أن تمر رهوًا بطيئةً وهي تحمل في قوابلها الامتحان وما في الامتحان من رعب؟ حيرة سرعان ما تدور بها المذاكرة فتذوي في طوايا النفس لا تعود إلا عند فراغ — وما أقل الفراغ — أو قبيل نوم — وأين منه النوم؟

أمَّا محسن فقد كان يجد في الذهاب إلى خيري مسلاة عن هذا المرض الذي انصب على أخته فكأنما انصب على البيت جميعًا، وقد كان خليقًا أن يجد عند أصدقائه في المقهى هذه المسلاة نفسها، ولكنه لم يجد في نفسه خفة إلى مرح أصدقائه هؤلاء، كما أن خيري لم يتح له الذهاب إليهم، فهو لا يزال به يذكره بقرب الامتحان وبضرورة المذاكرة حتى لوى به عن طريق المقهى إلى البيت.

كان خيري ومحسن منهمكَين في المذاكرة حين دلفت نادية إلى الحجرة فلم يحس بها واحد منهما. ووقفت نادية قليلًا ثم ضاقت بهذا الصمت الذي ران على الصديقَين. واشتد ضيقها أن لم يرحب بمقدمها أحد، وهي لم تدخل حجرة إلا واستقبلها الترحيب المرح الفرحان. ولم تطق السكوت فقالت في غضب: يا سلام، طيب أنا أيضًا أذاكر ولن أكلم أحدًا.

واختطفت كتابًا وأمسكته وأولت الشابَين ظهرها في سرعة خفيفة طفلة، وانتبه الاثنان إلى نادية جازعَين لصوتها في الوهلة الأولى، ثم لم يلبثا أن استغرقا في قهقهة طويلة. وقام إليها خيري يعتذر وسعى بها إلى محسن، وتركا المذاكرة حينًا وراحا يحادثان نادية ويحاولان استرضاءها. ولم يلبث خيري أن رأى الدموع تطفر من عينَي محسن، فتذكر مثل هذه الجلسة حول فايزة، وما لبثت الدموع أن طفرت من عينَيه هو أيضًا فسارع إلى عينَيه يزجرهما بيده، ثم تمالك من أمر نفسه ما كان يفلت وصاح بمحسن: ماذا جرى يا أخي لا قدر الله؟ إنه مجرد مرض ويزول.

– أيزول حقًّا يا خيري!

– إن شاء الله يا أخي، لماذا هذا التشاؤم؟

– فقط لو نعلم ما هو المرض!

– حرارة، مجرد حرارة.

– مسكينة يا خيري، صغيرة ولا تحتمل المرض!

– على العكس، فإن الصغار يتحملون المرض أكثر مما نحتمله نحن.

وأُخذت نادية بهذه الدموع التي تبادلها الصديقان وعجز عقلها عن فهم الحديث. ولكنها رأت أنه لا بد أن تشارك في الأمر، ولم تكن تستطيع المشاركة إلا في الحديث عن البكاء، فهو الشيء الوحيد الذي تفهمه في كل ما حدث.

– أنت زعلت يا آبيه محسن مني، طيب لا تزعل، لن أذاكر وسأكلمك.

وضمها محسن يخفي عنها دموعه، ولكن خيري أخذها من بين أحضانه وحملها ليصعد بها إلى غرفتها، وأراد محسن أن يبقيها فقال خيري: لا، ليس اليوم، أعصابك أصبحت تالفة جدًّا.

وخرج خيري فلم يغب غير دقائق، ثم عاد إلى محسن يقول له: قم بنا.

– إلى أين؟

– إلى منزلكم.

– لماذا؟

– عجيبة! أأقول لك إني أريد الذهاب إلى منزلكم فتقول لماذا، هل لا بد من مناسبة؟

– لا أبدًا، أهلًا وسهلًا، ولكن المسألة لا تحتاج.

– بالعكس تحتاج جدًّا، أوَّلًا نتمشى قليلًا ونريح أنفسنا، وثانيًا أرى فايزة فإني لم أرها من زمان، هيا.

وقاما.

•••

كان عزت بك الأزميرلي رجلًا من رجال السياسة، وقد كان يلجأ إلى بيته من صخب الحياة التي يحياها، وكان يجد الهناءة كلها في بيته، في الجلوس إلى أولاده كلما أتاحت له أعماله هذه الجلسة.

وكانت فايزة أقرب أبنائه إليه، فهو شديد الحب لها، فقد رُزقها وهو كبير السن. وكانت في هذه السن الحبيبة التي لا يستطيع أحد إلا أن يدلل أصحابها. وقد هاله مرضها، وحين طال بها أصبح يهرب من البيت ويلقي بنفسه في غمار السياسة، فإذا وجد فراغًا كان يقصد إلى ابن عمه همام محاولًا ما وسعه الجهد ألا يعود إلى البيت.

وارتاحت إجلال هانم لغياب زوجها وابنها محسن، فقد أتاح لها هذا أن تفرغ لتمريض ابنتها لا يشغلها عنها شاغل من زوج أو ولد. وأصبحت لا يلازمها إلا ابنتها الكبرى وفية، فقد كانت هذه عونًا لها على هذه الشدة التي طال بها الأمد. وكانت وفية تحب أن تقوم بهذا العون، فهي تحب أمها وتحب أختها وتشفق على كلتيهما من الجهد والمرض. وقد أتاح شباب وفية لها أن تبذل الجهد الذي لا تطيقه أمها، فهي تتولى إعطاء الدواء لفايزة، وهي تتولى شئون البيت، وهي تنتظر أباها وأخاها حتى يعودا، وهي تقوم بهذا جميعه راضية لا تفكر في شيء إلا شفاء أختها، وإلا هذا الشيء الذي لا تملك أن تنساه وإن زجرت نفسها وعنَّفتها أن تذكره في هذه الأيام التي تمر بهم، هواها، إنه لا يستحي أن يذكِّرها بنفسه في هذه الأوقات الحالكة من حياتها. بل لقد أصبحت لا تذكره لأنها لا تنساه أبدًا. لقد أصبح شعورًا ملازمًا لكل شعور آخر ينتابها، فهو معها يتردد مع أنفاسها، ومع مسرى كل تفكير يمر بذهنها، ومع كل خلجة يختلج بها قلبها.

أقبل محسن وخيري إلى البيت ودخلا حجرة فايزة، ولم تكن بها وفية.

لم يكن خيري قد رأى فايزة منذ فترة طويلة، فجزع لهذا الهزال الذي نزل بها، ولم يشأ أن يظهر أهلها على ما لاحظه، وخشي أن يخونه تعبير وجهه، فتضاحك وحاول أن يداعب فايزة ففشلت دعابته، واستدار يخرج من الغرفة مسرعًا. وجلس في ذلك الركن من البهو الذي حاول فيه أن يبوح بحبه فلم يستطع. ولم يطل به الجلوس، فقد جاء محسن ليجلس إليه، ولكن ما لبثت إجلال هانم أن دعت محسن ليعود إلا أخته لأنها تسأل عنه. وقام محسن وهو يقول في تأثر شديد: إنها لا تراني كثيرًا في هذه الأيام؛ ولهذا تتعلق بي كلما دخلت إلى غرفتها.

فقال خيري: لا شأن لك بي، سأنتظرك هنا حتى تعود.

وذهب محسن إلى أخته، وراح خيري يدور بعينه على أبواب الحجرات الأخرى لعله يرى بصيصًا ينبئه أن وفية هناك، ولكنه لم يجد. كاد يسأل عنها الخدم، ولكن الخجل منعه أن يفعل. ومنعه أيضًا ظهورها من باب الخدم وبيدها إناء مليء بعصير الليمون.

وقفت وفية حين رأته وقد شاعت في وجهها فرحة كبيرة لم تُبن عنها إلا في: أهلًا.

ولكنها كانت كافية ليجد فيها خيري كل ما يتمنى محب أن يجده عند هواه.

وقام خيري إليها يحمل عنها الإناء وهو يقول: أهلًا بكِ.

واقترب الحبيبان، وأنعم خيري النظر وتقلبت على عينيه طيوف من الفرح والعجب والإشفاق. كانت وفية في شاغل عنها جميعًا بفرح لقياه، وحين أفاقا إلى وقفتهما وتنبهت وفية أنه يريد أن يأخذ عنها الإناء قالت: لا، سأدخله إليها وأعود، فإن أمي لا تأمن أن يصنع أحد العصير إلا أنا.

وتنحى خيري عن مكانه ذاهلًا لا يزال.

كانت وفية طويلة القامة هيفاء، لا هي بالنحيفة ولا هي بالمليئة، وإنما كما يشتهي الجمالُ أن تكون. وكان شعرها أسود فاحمًا كثًّا غزيرًا، ينسكب انسكابًا ويتهدل على جبينها صقيلًا. وكان خيري يحب منها يدها وهي ترفع خصلات شعرها الجامحة لتعيدها إلى رأسها. وكان وجهها أبيض تشوبه سمرة خمرية، تشع فيه عيناها السوداوان في حور شديد لا يشوب بياضهما إلا زاوية حمراء صغيرة في عينها اليسرى يراها بعضهم عيبًا ويراها خيري جمالًا أي جمال. وكانت أهدابها العليا ترتفع في إباء حتى لتكاد تبلغ أجفانها، بينما تنسدل أهدابها السفلي طويلة مثل العليا. كانت أهدابها كالزهرة الغضة تفتحت منذ قريب. وكان أنفها دقيقًا يتفق وشفتَيها الرقيقتَين وذقنها الصغير. كان خيري يحب في وفية، وفية، بكل ما فيها، وقد باغته العجب حين رأى بعض شحوب يكاد يحيل سمرتها إلى بياض، ولكنه أزمع في نفسه ألا يفاتحها بما لاحظه.

•••

عادت وفية إلى حبيبها، وجلست إليه في المكان نفسه الذي أحست فيه أنه يريد أن يقول فلم يقل، جلست وهي تقول: خير، ماذا أتى بكما؟

– أعجيبة أن نأتي؟

– نعم، الامتحان قرب، وهذه بكالوريا يا خيري.

– صحيح، ولكن …

وأراد خيري أن يسكت، ولكنه لم يجد جوابًا من إكمال الحديث فأكمله، وذكر لها ما كان من دموع محسن، وما لبث أن تلألأت على أهداب وفية دمعات تأبى أن تسيل أو تغيض. وحاول أن يعتذر ولكنه رأى دموعه هو أيضًا تنحدر على وجنتَيه. ولم يكفكف دموعها أو دموعه، فقد أحس بعد أن رأى فايزة أنه لا بد من هذا البكاء.

ومن بين الدموع روت وفية لخيري كيف تزداد حالة أختها سوءًا في كل يوم، وحين سألها خيري: والأطباء؟

قالت في أسًى: يُخيَّلُ لي أنهم يعرفون المرض ولكنهم يخفونه عَنَّا.

– يخفونه؟

– يُخيَّلُ لي هذا.

– لعلهم لم يثقوا منه بعد!

– لا أدري!

– أتنتظرون أحدًا منهم الآن؟

– نعم، سيأتي الدكتور عبد الحميد فاضل.

– سأنتظر حتى ألقاه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤