الفصل الثالث والعشرون

بطلان دعوى المؤلف بأن الشعر الأموي يمثل الحياة الجاهلية

ومن عجائب بحث المؤلف وغرائب استقرائه وشواذ آرائه قوله في ص١٦: «فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي يُنسب إلى طرفة وعنترة والشماخ …» وهو يقصد بذلك أنَّ الشعر الأموي أحفظ لآثار الجاهلية وأخبارها وصورها من الشعر الجاهلي نفسه! وقد شعر المؤلف بوهن هذا الرأي وانخفاض جناحه فقال مؤيدًا هذا القول الغريب من وراء حجاب: «فلست أعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية.» ص١٦ نفسها …

أما عن قوله بتمثيل الحياة الجاهلية في شعر الأخطل والفرزدق وجرير والراعي، فنلفت نظر القارئ إلى أنَّ الراعي توفي سنة ٩٠ للهجرة وعقبه الأخطل سنة ٩٥، ولحقهما جرير والفرزدق في سنة ١١٠ﻫ، فهؤلاء الشعراء الأربعة من أهل القرن الأول الهجري، والشعر الجاهلي نشأ ونما وأينع في الثلاثة قرون السابقة للمبعث، فكأن الشعراء الأربعة عاشوا بعد فوات الفرصة عليهم في مشاهدة حياة الجاهلية بأربعة قرون أو ثلاثة قرون على الأقل، ومن المعلوم أنَّ الشعر هو نتيجة تأثر الشاعر المباشر بما يقع تحت حواسه لساعته فتفيض به عاطفته وتمتلئ به نفسه، وإن كانت هذه الخلال عامة لجميع الشعراء فهي لشعراء العرب أخص وألزم وألصق، فكيف يستبيح المؤلف هذا القول الذي يوهم القارئ البريء الواثق به أنَّ شاعرًا قال شعرًا في شئون لم يشهدها، ولم ينفعل بها وبينه وبينها أربعمائة سنة، وأنَّ هذا الشعر يؤخذ من جنان ذلك الشاعر وبنانه حجة على ذلك الزمان النائي وأهله؟! لم يكن في زمن الجاهلية كتب منشورة ولا صحف مسطورة ولا جرائد دورية ولا صور متحركة ولا أدوات لحفظ الأصوات ونقلها ولا متاحف للتصاوير والتماثيل، فيدعي المؤلف أنَّ هؤلاء الشعراء الأربعة رجعوا إلى تلك الآثار، ونفخوا فيها من روح بلاغتهم، فأعادوا إليها الحياة.

ولم يكن هؤلاء الشعراء مؤرخين يدونون الحوادث ويسردون الوقائع على علاتها، وفيها الأخبار التي تحتمل الصدق والكذب، إذن فهذا القول محال، ومن المحال أيضًا تبرير هذا الرأي ودعمه بأن الأمة العربية استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب، فلم تجدد إلا بمقدار. وقصد المؤلف من هذا القول أنَّ محافظة العرب على آدابهم على كر القرون قد هيأت لهؤلاء الشعراء في القرن الأول للهجرة — أي السابع لسيدنا يسوع المسيح — أن يصفوا حياة الأقوام الذين عاشوا في القرون الثلاثة السابقة وصفًا دقيقًا صادقًا، يعول عليه مؤرخ الآداب في القرن العشرين، فإذا سلمنا برأي المؤلف بأن في شعرهم صورة صادقة للحياة الجاهلية لنتج عن هذا أنَّ هؤلاء الشعراء ساروا على سُنة سليمة من الشوائب التي ألصقها بالشعر الجاهلي وقائليه، وأنهم نهلوا معرفتهم بتلك الأجيال السالفة من منابع صحيحة لا شك فيها.

ومن حيث أنه لا يوجد نبع صحيح أو مصدر موثوق به في نقل أخبار الجاهلية إلى هؤلاء الشعراء الأربعة — الراعي والأخطل والفرزدق وجرير — سوى مصدر واحد، وهو مصدر الرواة حماد وخلف وأبي عمرو ومن إليهم، فإذن يكون هؤلاء الرواة صادقين فيما نقلوه عن الجاهلية واستفاد منه الأخطل والراعي والفرزدق وجرير ما نظموه وجعلوا منه صورًا صحيحة للحياة الجاهلية، ومن حيث أنَّ مؤلف الشعر الجاهلي يثق بصدق ما وصفه هؤلاء الأربعة في شعرهم، فينبني على هذا حتمًا مبرمًا أن يكون كل ما نقله الرواة ورووه عن الجاهليين صحيحًا صادقًا؛ لأنه لو فرضنا من عندنا لقطع خطة الرجعة على المؤلف أنَّ الرواة نقلوا الصحيح وغير الصحيح ورووا الغث والسمين، لانبنى على ذلك اختلاط الأمر على الشعراء الأربعة، وكان شعرهم مزيجًا من صور صادقة وأخرى غير صادقة، لا سيما وأنَّ المؤلف لم يثبت لنا أنه كان لديهم محك لتمييز الصدق من الكذب في الأخبار التي نقلها الرواة إليهم وإلى معاصريهم. وإذا فرضنا الرواة صادقين في كل ما رووا ليصح بذلك استنتاج المؤلف فما قوله فيما أملاه ودوَّنه في كتابه في ص١١٨ وما بعدها عن كذب الرواة وفسقهم وفجورهم وفساد ذممهم. لا شك أنَّ هذا المؤلف كان سهوان عندما كتب هذه النبذة وغيرها من المتناقضات، أو كان يحسب أنه يكتب لقراء لم يبلغوا مدى الفطام العلمي يتناولون كلامه بخشوع التسليم والإعجاب دون أن يعرضوه على عقولهم!

ثم إنَّ لدينا غير ما تقدم أسباب جوهرية تنقض رأيه، وتجعل بينه وبين التصديق حواجز، فإنه وضع في ص٦٨ قانونًا لتمحيص الشعر نصه: «إنَّ مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر أن يشك في صحته، كلما رأى شيئًا من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب على فريق، ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أو العصبية التي يؤيدها هذا الشعر قبيلة أو عصبية قد لعبت — كما يقولون — دورًا في الحياة السياسية للمسلمين.» هذا حكمه وهو لا يستطيع أن يخرج على حكم نفسه، وإن كان خرج مرات كثيرة على حكم العقل والعلم وحسن الذوق، فإذا أخذناه بحكمه وجب علينا أن نطبق هذا القانون على شعر الشعراء الأربعة: الراعي والأخطل والفرزدق وجرير. أما عن الأخطل فكان السبب في تقربه إلى بني أمية أنَّ معاوية أراد أن يهجو الأنصار، فاقترح ابنه يزيد على كعب بن جعيل شاعر قبيلة تغلب أن يهجوهم فأبى وقال له: «أدلك على غلام منا لا يبالي أن يهجوهم كأن لسانه لسان ثور!» فقال له يزيد: من هو؟ قال: الأخطل. فدعاه معاوية وأمره بهجاء الأنصار فهجاهم بقصيدة منها:

وإذا نسبت ابن الفريعة خلته
كالجحش بين حمارة وحمار

وعرف الأخطل من ذلك الوقت أنه شاعر تغلب، وأنَّ له يدًا في نصرة الأمويين على الأنصار، ولما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان سماه شاعر بني أمية، ثم إن الأخطل كان مدمنًا على الخمر ولا يجيد النظم إلا إذا شرب، وقد هجاه جرير أحد «الثقات» المختارين عند المؤلف قال:

يا ذا الغباوة إن بشرًا قد قضى
ألَّا تجوز حكومة النشوان

ومهما تكن قسوة هذا القول فإنها لا تبلغ من الأخطل ما بلغه من نفسه بقوله يصف نفسه:

صريع مدام يرفع الشرب رأسه
ليحيا وقد ماتت عظام ومفصل
نهاديه أحيانًا وحينًا نجره
وما كاد إلا بالحشاشة يعقل
إذا رفعوا صدرًا تحامل صدره
وآخر مما نال منها محمل

فما أشد غرام مؤلف الشعر الجاهلي بكل شاذ مخالف! وما أعظم إعجابه بالأخطل في النصرانية وطرفة بسكره وإلحاده في الجاهلية! أما جرير فكان يفد إلى الشام مع من يفد على الخلفاء للاستجداء بالمديح، فعرَّفه أحدهم إلى يزيد بن معاوية وهو ولي العهد، فجعل يختلف إليه ويصنع له الشعر المزيف، فيرفعه إلى أبيه موهِمًا أنه من نظمه، وجرير يجاريه في هذا التزوير ويتقاضى عليه أجرًا، وقد فارق معاوية الدنيا وهو يحسب ابنه يزيد شاعرًا، والجريرة في ذلك على جرير! نقول: وجرير أيضًا يطبق عليه القانون الذي وضعه المؤلف في ص٦٨، فإنه لما صارت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان لم يتجرأ جرير على الوفود عليه؛ لأنه كان من شعراء مضر وهو يعلم غضب عبد الملك على شعراء مضر؛ لأنهم كانوا يمدحون آل الزبير أعداءه لأن تميميًا من مضر. ولكن جريرًا احتال حتى دخل على عبد الملك بعد الجهد شأن كل طالب رزق، فأقبل الخليفة يعاتبه بقوله: ماذا عسى أن تقول فينا بعد قولك في الحجاج عاملنا:

من سد مطلع النفاق عليكم
أو من يصول كصولة الحجاج؟

فانقلب جرير إلى مدح الخليفة عبد الملك وقبيلته وقومه وأنشده:

ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين «بطون راح»

و«بطون راح» هذه هي بيت القصيد!

وكانت حياة جرير سلسلة مهاجاة بينه وبين الأخطل والفرزدق والراعي وعمر بن لجأ التميمي والمستنير بن سيرة العنبري. وكان طوال عمره مشغولًا بالسب والقذف، حتى إنَّ مناقضاته مع الفرزدق وحده جُمِعت في جزأين كبيرين (طبع ليدن ١٩٠٥) فأنى له أن ينظم الشعر الصادق عن حياة الجاهلية وقد أعمته الأغراض في جمع المال والنيل من أعراض خصومه؟ وكيف يجوز للمؤلف أن يصدقه بعد أن وجب في حقه حكمه الوارد في ص٦٨؟

أما الفرزدق وهو خصم جرير الألد فقد كان يتشيع للإمام علي وأهله، لأجل هذا لم يكن من شعراء بني أمية المداحين، ولكنه مدح بعض عمال بني أمية لا سيما آل المهلب والحجاج خوفًا من بطشهم وطمعًا في نوالهم وكانت له على الحجاج دالة. ومن شعره الناطق بأخلاقه الذي يعد اعترافًا نروي هذه الأبيات في وصف مطوحة غرامية من مطوحاته:

هما دلتاني من ثمانين قامة
كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا
أحَيٌّ فيُرجى أم قتيل نحاذره؟
فقلت ارفعا الأمراس لا يشعروا بنا
وأفلت في أعجاز ليل أبادره
أحاذر بوابين قد وكلا بنا
وأسود من ساج تصر مسامره
فانتهز جرير فرصة سقوط خصمه بالاعتراف بهذه المطوحة Aventure وأدرك انتقامه بقوله من قصيدة طويلة:
تدليت تزني من ثمانين قامة
وقصرت عن باع العلا والمكارم
هو الرجس يا أهل المدينة فاحذروا
مداخل رجس بالخبيثات عالم

أما الراعي فهو عبيد بن حصين من قبيلة نمير التي دمغها جرير بهجائه في بيته المشهور:

فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا

وكان الراعي — ويسمونه «راعي الإبل» — متحيزًا لنمير ضد كعب وكلاب وهجا جريرًا وقبيلة كلاب بقوله:

رأيت الجحش جحش بني كليب
تيمم حوض دجلة ثم آبا

ومما يروى عن سوء خلق الراعي أنَّ جريرًا استقبله وقال له مرحبًا يا أبا جندل، وضرب بشماله على معرفة بغلته توددًا؛ لأن الراعي كان ينصر الفرزدق على جرير بأجر يتقاضاه مساناة من الفرزدق هو وولده جندل، فما رد الراعي على جرير شيئًا حتى لحق ابنه جندل، فرفع كرمانية معه فضرب بها عجز بغلته، ثم قال لابنه: «لا أراك واقفًا على كلب من بني كليب — يقصد جريرًا — كأنك تخشى منه شرًّا أو ترجو منه خيرًا» وضرب البغلة ضربة فرمحت جريرًا رمحة وقعت منها قلنسوة جرير … فانتقم جرير منه بقصيدة «فغض الطرف»، ففر الراعي من العراق كله، وقال لقومه: فضحكم والله جرير. فقالوا له: ذاك شؤمك وشؤم ابنك، فتشاءم به بنو نمير وسبوه وابنه، فهم يتشاءمون به إلى الآن (يقصد عهد تدوين الخبر في الأغاني الذي نقلناه عنه بإيجاز).

هؤلاء هم الشعراء الأربعة الأمويون الذين اعتبرهم المؤلف ثقات في أخبار الجاهلية، ونحن لا نراهم ثقات في أخبار أنفسهم، فقد شغلهم من شئون الدنيا وطلب الرزق والمهاجاة، وأعمت بصائرهم وحولت ضمائرهم أمور لم تصب أحدًا من شعراء الجاهلية الذين كان فيهم الملوك والأمراء والفرسان والغزاة وكبار الحكماء والعشاق، ولم تصب رواتهم وشرها الاستجداء بالشعر والتفاني في المهاجاة والمناقضات والإفراط في الشهوات والإدمان، دع عنك العيب الأكبر من الناحية الأدبية التاريخية، وهو تحيزهم لقوم دون قوم ومناصرتهم قبيلة على قبيلة مما يجعل حكمهم باطلًا ورأيهم قرين الفساد. غير أنَّ هذا البحث لا يفهم منه القارئ اللبيب أننا ننتقصهم بوصف كونهم شعراء بلغاء أقوياء الخيال، فقد كانوا من أعظم الفحول، ونحن أول من يقدر أدبهم ونستشهد بكثير من شعرهم، ولكن بين هذا وبين اعتبارهم ثقات في تدوين حياة الجاهلية شقة بعيدة وهوة سحيقة. وإنَّ مؤلف الشعر الجاهلي هو الذي وضعهم في هذا الموضع من النقد التحليلي وحمَّلهم وزر أغلاطه، كما صنع مع الفيلسوف ديكارت.

وكأننا بالمؤلف وقد أخذ يحس بنظرياته تتطاير تطاير الهوام، ويُسأل عن ذلك فيتحير بماذا يجيب ويُغلق عليه، فقد أزف موعد التقاضي أمام علماء الشرق والغرب، وكأننا بالشعر الجاهلي يقول لهم: ها أنذا أبغيكم تحكمون في قضية ذلك المؤلف الذي ظنه الناس قد غذي بالأسفار القيمة الممتعة، فهل عصفت بها ريح المعاصرة وكنستها من دماغه فأمسى غريب العقل لا يعلم ماذا يريد، وأمسى كل عمله في هذا الكتاب تخليطًا ومجمجة، وقد حمل القراء والطلاب رؤية مكارهه، ومنها أنه حسب الآداب العربية ملكًا له مباحًا، فأحرق ومزق وأطلس منها ما شاء، فهذا الكتاب يكثر فيه الأخذ والرد والصرير والزحير والناقض والمنقوض مملوء بعبارات كهذه: «أشك شكًّا شديدًا – يكاد يشرف على اليقين – على أنني أرجح – وربما كان – وليس من الممكن الجزم بهذا القول – وحذارِ أيها القارئ أن تظن – وبعد هذا كله فلا نبالغن في شيء – هذا صحيح بدون شك ولكن نقيضه صحيح أيضًا – ويجب أن يشتد الشك كلما …» وعلى كل حال فإن هذا المؤلف في مخالفة الحقيقة لا يخطئ المرمى أبدًا، ولعل البأو وحب الظهور والتوق إلى تصفيق بعض الجهال والمشعوذين مع الميل إلى المخالفة هي التي زجت به في هذه المآزق، وقد حسن له الوهم أن يستمر في هذه الطريق، فهو يريد أن يوضح للملأ أنه لا يساوي سذاجة علماء المشرقيات في الشرق والغرب إلا حذقه وفطنته! فيجيب العلماء على شكوى الشعر الجاهلي:

إننا نرثي لهذا المؤلف إذ نراه يتدحرج على هذه المزلقة المدحاض، ولعل من يولد واهن العقيدة في الحقائق العلمية والتاريخية يبقى طول حياته واهن العقيدة. وما على ناقد هذا الكتاب إلا أن يتوخى أوثق الروايات وأصدقها وأبدعها وأعلمها وأجزلها؛ ليخيط بها أفواه الذين ينكرون الشمس في رابعة النهار.

ونحن على هذا الحكم نازلون وبرأي العلماء عاملون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤