فن النقد في الآداب الفرنسوية قديمًا
إنَّ تاريخ النقد الفرنسوي مطرد متتابع منذ نيف وثلاثة قرون، فكان النقد روح العلوم والآداب في فرنسا، فمنه تستمد غذاءها وحياتها منذ أن ظهر رونسار في القرن السادس عشر إلى آخر عهد برونتيير المتوفى سنة ١٩٠٦م، وفاجيه وجول لميتر وريمي دي جرمون، وقد قضوا نحبهم في فترة الحرب العظمى، فلم يظهر في فرنسا أثر أدبي أو فني إلا كان النقد رائده وقائده، فمنذ ظهور كتاب الدفاع عن آداب اللغة الفرنسوية تأليف دوبيلاي في سنة ١٥٥٠، تعين تاريخ النقد الفرنسوي في العصور الحديثة؛ لأنه كان بداية التنظيم الذي تلا فوضى القرون الوسطى، ثم عقبه مؤلفات ماليرب وبوالو وفولتير وجان جاك روسو وشاتوبريان في مدى قرنين من الزمان على التدريج، ولا يمكن إحداث صورة ذهنية صحيحة عن حالة النقد إلا إذا ألممنا بشيء من التفصيل الوجيز بمذاهب الانتقاد الأدبي في فرنسا؛ لأن اللغة الفرنسوية هي التي تمثل الأدب الغربي عند الشرقيين لكونها لسان السياسة العام؛ ولأنه إن زاحمتها سائر الألسن في التجارة والعلوم الطبيعية فلن تضارعها في الأدب وفنون الكلام، فالأدب الفرنسوي لا يزال في الغرب والشرق على كمال رونقه. وفي أوائل القرن السادس عشر تكوَّن مذهب انتقادي كان إمامه الشاعر رونسار الشهير (١٥٢٤–١٥٨٥)، وكان لب هذا المذهب تقليد البلاغة القديمة، والمقصود بالبلاغة القديمة البلاغة اليونانية واللاتينية، فقد امتاز الأقدمون بوضوح في الفكر، وانتظام في الذوق، ولطف في المأخذ، ودقة في النظر، وتسوية بين الأقسام، وسلامة في الذوق، وبلاغ في التمييز.
فارتقت لذاك العهد منزلة الشعر والشعراء، وصار الشاعر في مقدمة الأقوياء وأهل البراعة كما كانت الحال عند العرب في بعض العصور، وكان أساس هذا المذهب الاقتداء بالأوائل والتحدي بأساتذة الصناعة، وكان الاقتداء بالبلاغة القديمة يشمل متانتها من حيث الصناعة ومن حيث المادة وما كان فيها من تمثيل النفوس الإنسانية وتصوير الحياة كأنها حقائق، وربما تفوَّق الفرنسويون في اقتدائهم بالأقدمين على المولدين في إعجابهم واقتدائهم بالشعر الجاهلي، ولم يكن الإعجاب بالقديم لقدمه، بل لأن بلاغتهم قريبة من تمثيل الطبيعة الإنسانية ومختلف صور الحياة. وكان أنصار هذا المذهب هم الأدباء الخُلَّص الذين اعتبروا الأدب القديم فنًّا من الفنون الجميلة، فاقتدوا بالأوائل، وحذوا حذو أساتذة الصناعة، وأقاموا عندها ينسجون على منوالها، ويأخذون عنها، ويبدعون بواسطتها.
وفي القرن السابع عشر ظهر شارل بيرو، وأذاع فكره في كتاب الموازنة بين القدماء والمحدثين (١٦٨٨–١٦٩٧)، وجماع قوله أنَّ العقول البشرية خاضعة لقانون التقدم في العلوم، وأنَّ المحدثين وصلوا إلى ما لم يصل إليه القدماء، فهم إذن بحكم الناموس الطبيعي والمنطق والعقل أرقى من الأقدمين وأعلم، وأنَّ القدماء كانوا أطفالًا في العلوم والفنون بالنسبة لما ظهر من نتائج العقول والقرائح بعدهم. أما المحدثون فيمثلون نضج الفكر وغاية ما وصل إليه الإنسان من الذكاء والأدب والحصافة، يدل على ذلك أنَّ كل عظيم من القدماء صار له مثيل من المحدثين، وقد يندر بين فحول المحدثين أن يكون لهم أمثال من الأقدمين.
ووضع فونتنيل رسالة «الاستطراد في الموازنة بين الأقدمين والمحدثين»، قال فيها: لا بدَّ أن يكون لنا من العقول الناضجة والمواهب اليانعة وأنواع النبوع المثمرة ما كان لأهل الأزمنة الخالية، فإن الطبيعة لم تقصر الذكاء على جيل دون جيل، ولم تخص عصرًا بنعم الإدراك وحسن التعبير لتحرم منها العصور التالية، وقد تَرَكَت الأجيال السالفة علومها وفنونها وكل ما فتقته أذهانها وأنتجته قرائحها إرثًا حلالًا لنا نحن أخلافهم.»
ثم قال في موضع آخر: «إنَّ بعض الأقاليم أفضل من بعض من حيث شحذ الذكاء وتنمية القوى المفكرة وتقوية القرائح، وإنَّ من الدهر لأحيانًا تدعو إلى التقهقر، ومن طوارئ الحدثان ما يدعو لوقوف حركة الفكر، ويقيد العقل بسلاسل لا يسهل عليه الفكاك منها.»