الفصل الرابع

زوال الدولة السبئِيَّة وهجرة قبائل الجنوب

المشهور عند مؤرخي العرب أنَّ سبب انقضاء الدولة السبئية انفجار سد مأرب أو سيل العرم ونزوح القبائل حوالي تاريخ الميلاد، ويرى بعض مؤرخي الإفرنج أنَّ هذا التعليل فرض بعيد التصديق؛ لأنه لا يعقل أن تعجز الدولة السبئية في أوج سلطتها عن اتقاء مثل هذه الكارثة، لا سيما أنَّ السبئيين اشتهروا بحفر الترع وبناء السدود وتحويل الرمال إلى تربة خصيبة وتشييد القصور والمحافد والهياكل، وهم الذين جعلوا من بيداء اليمن جنة آهلة عامرة، والغالب في نظر العلماء أنَّ دولة السبئيين ذهبت تدريجيًّا بذهاب أسباب قوتها، وذلك مذ بدأت طرق التجارة تتحول من البر إلى البحر، فأخذوا في الضعف والانحلال، وتفصيل ذلك أنَّ اليمن تمتعت بالثروة والرفاهية قرونًا طويلة من تجارة العطور والبخور واللبان، واستثمرت توسط وطنها الفريد بموقعه بين الشرقين الأدنى والأقصى وبين أفريقيا وآسيا، فصارت مستودع التجارة الشرقية وبضائعها الثمينة.

كذلك فاضت حياض مأرب وصهاريجها بالخصب والخير على أرض اليمن، فتعددت طرق القوافل، وصارت ملتقى سبيل الأمم، ولا بد لهذه المدنية المطمئنة وذلك الغنى الغزير من التأثير في أهله، فدب فيهم فتور الفراغ والجدة وجلب عليهم الاستسلام للراحة والدعة ضعف الخلق، فتخنثوا (ص٧١ كتاب القرابة والمصاهرة لروبرتسون سميث) وانحطت متاجرهم، فتحولت القوافل واضمحلت النظم القديمة وزلزلت البلاد زلزالًا عظيمًا عقبته حركة انتقال وحروب طويلة طاحنة فاختل ميزان الحياة القومية، وسادت الفوضى حينًا من الزمن، وتمثل هذا الاضطراب العام في تاريخ العرب بارتحال قبائل اليمن عقيب سيل العرم، وتأثر جزء عظيم من الجزيرة بهذا الاضطراب، فضربت القبائل في البادية في القرن الأول ق.م. فإن كان لنزوح تلك القبائل وهجرتها من سبب فلم يكن سيل العرم وحده كافيًا، إنما كان واحدًا من جملة أسباب، ولعل تخريب السد كان نتيجة التراخي والفتور والانحلال التي بُليت بها الأمة السبئية في آخر عهدها، فرحلت بقاياها وفلولها رحلة الضعيف المتلاشي قبل ظهور الشعر الجاهلي بثلاثة قرون، فإن كانت نسبة النازحين إلى قبائل الجنوب صادقة، فإنما احتفظوا بها كما يحتفظ الخلف بأنساب السلف دون أن يتكلموا بلغتهم، فلما ظهر الشعر الجاهلي لم يكن في الجزيرة كلها لغة قحطانية أو عاربة أو سبئية أو حميرية، إنما كانت لغة عدنان العربية هي الغالبة، ومما تحير له بعض المؤرخين أنَّ كثيرًا من أسماء الأمم والقبائل العربية التي وردت في كتاب بطليموس وغيره من اليونان لعهد عظمة اليمن وقبل إقفار طرق التجارة اختفت بتاتًا قبل المبعث، وأنَّ قبائل وأمَمًا جديدة لم يسبق أن سمع بها أحد ظهرت بدلها، واحتلت مكانتها (ص٢٧٥ كتاب القرابة والمصاهرة)، وهذا يقتضي التثبُّت من رواية ارتحال القبائل من الجنوب إلى الشمال، فإن كانت رحلت حقًّا، فلا بد من أنها لقلتها وضعفها وانكسارها اندمجت اندماجًا كاملًا في أمم الشمال وقبائله، فتلاشت أنسابها وأسماؤها وآلهتها وأساطيرها ولغاتها ولهجاتها، واضطرت أن تتخذ لها معبودات وألسنة وأحسابًا من قبائل الشمال التي نزلت بصحرائها، لا سيما بعد أن تقربوا من الروم والفرس، واتخذهم الروم والفرس عمالًا على بعض بلادهم.

وإن تكن قبائل الجنوب لم ترحل دفعة واحدة فلا أقل من أنها أخذت في الهجرة بالتدريج، فقد ظهر أنَّ المعينيين والسبئيين والحميريين ملكوا اليمن عشرين قرنًا، وكانوا دولًا تجارية قليلة الغزو والحرب، فكان القتل فيهم قليلًا، فتكاثروا حتى ضاقت بهم مواطنهم، وهم عرضة للقحط لقلة المطر وانفجار السدود، فكانوا ينزحون بطونًا وأفخاذًا يطلبون الرزق في أطراف جزيرة العرب شرقًا وشمالًا، فينزل بعضهم اليمامة أو البحرين أو عمان أو الحجاز أو مشارف الشام أو العراق، فحيثما أَنِسُوا فرجًا استقروا وتناسلوا بدوًا أو حضرًا، ولقلة الكتابة عندهم لم تصل إلينا أخبار النازحين إلا في الندرى، وقد بلغنا القليل منها مشوشًا مضطربًا لضياع أخبارهم واختلاط ما بقي منها، وهذا سبب اختلاف الرواة في أنسابهم، فتراهم يرجعون بها إلى حمير أو كهلان أو معد أو العمالقة أو غير ذلك مما يعسر تحقيقه، فلننظرن في تلك الدول أو القبائل النازحة من حيث تأثيرها في شئون التاريخ.

فالدول العربية التي ظهرت في شمال جزيرة العرب غير قبائل عدنان بضع دول يعدها مؤرخو العرب من بني قحطان، وأكبرها شأنًا الغساسنة في الشام، والمناذرة في العراق، وكندة في نجد وما يليها، ويقول نسَّابو العرب إنَّ هذه الأمم وبضع عشرة أخرى من القبائل التي عاصرتها في شمالي جزيرة العرب، ترجع بأنسابها إلى كهلان بن سبأ بن قحطان، وأعظمها غسان ولخم وكندة، وهي التي أسست دولًا، وأجمع النسابون تقريبًا على أنَّ تلك القبائل خرجت من اليمن وتفرقت في أنحاء الجزيرة مع من ذكرنا من القبائل بعد تهدم سد مأرب، وأنَّ هذه البطون هاجرت على أثر سيل العرم، وأنَّ عمران بن عامر من كهلان رحل هو وقومه، وهم رهط ثعلبة فنزلوا المدينة، ومنهم الأوس والخزرج، ونزل رهط حارثة مكة وهم خزاعة، ورهط عمران بن عامر زعيم النازحين نزلوا عمان، ومنهم أزد عمان، ورهط أزد شنوءة نزلوا تهامة، وقوم جفنة بن عمرو وهو مزبقيا نزلوا الشام ومنهم الغساسنة، ولخم نزلوا العراق ومنهم المناذرة وآل نصر.

فإذا نظرنا إلى غسان ولخم وكندة نجد خصائصها تنطبق على العدنانية دون القحطانية من حيث اللغة، فلم نجد في كلامهم وأقوالهم ما يدل على أنهم تكلموا لغة غير اللغة العدنانية، ولم يجد المؤرخون للحرف المسند ذكرًا في أخبار غسان ولخم وكندة، ولا أثرًا في أطلالهم، وكذلك معبوداتهم فإنها من معبودات عرب الشمال العدنانية، وليس عندهم ما يميزهم من الناحية الدينية مثل عبادة عشتار أو أيل أو غيرهما من آلهة الجنوب، ثم إنَّ أسماءهم ليس فيها رائحة الأعلام السبئية أو المعينية، بل هي مثل أسماء سائر عرب الشمال، ومنها الحارث وجبلة والنعمان. فلا دليل على قحطانية هذه الأمم من لغتها أو دينها أو أسمائها سوى قول النسابين، وهذا يجعل قول مؤلف الشعر الجاهلي عن لغة قحطانية وشعر قحطاني في حيز العدم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤