إنذار

صَعِد الأصدقاء سلالم القصر القديم الرخامية … وكلٌّ منهم يدير في رأسه هذه المعلومات العجيبة التي قالها «سليمان» … الثعبان الأعمى … والجوهرة التي في القصر. كانت هذه أول مرة يلتقون فيها بمثل هذه الأساطير الريفية المثيرة … أكثرُ من هذا أنهم يدخلون القصر الذي تدور حوله الأسطورة … كما يقول «سليمان» ويزعم أن جوهرة الثعبان الأعمى داخل القصر.

كان «تختخ» يدير هذه الحكاية في رأسه مندهشًا قليلًا، محاولًا أن يجد لها تفسيرًا علميًّا … وكان «محب» يتحفَّز، وكأنه سيعثُر على الجوهرة ويصارع الثعبان … كان «عاطف» يحاول أن يجد نكتةً ملائمة يقولها تعليقًا على هذه الأسطورة العجيبة … وكانت «نوسة» تفكِّر في كتب التراث الشعبي التي قرأَتْها وتُحاول أن تتذكَّر ما إذا كانت قد قرأَتْها قبلًا أو لا … أما «لوزة» فكانت خائفةً قليلًا … وقد طار خيالها يرسم صورةً للثعبان الكبير وللجوهرة.

ودخلوا القصر … كان في مواجهتهم قاعةٌ فسيحة، وبرغم أن الوقت كان الظهيرة والشمس مشرقةٌ في الخارج، فقد كانت الصالة شبه مظلمة … فالنوافذ مغلقة … والأعمدة الرخامية الضخمة متقاربة، تُخفِي الأضواء الخفيفة القادمة من خيوط الشمس الرفيعة التي كانت تتخلَّل النوافذ. وعلى يمين الداخل سُلَّمٌ كبير يدور صاعدًا إلى الدور الثاني، والأثاث ضخمٌ قديم، وأبواب الغُرف التي في الطابق الأرضي مغلقة. وظَهرتْ فجأةً سيدةٌ عجوز تَلبَس السواد قدَّمها لهم «سليمان» قائلًا: خالة «رابحة».

وسلَّمتِ العجوز على الأصدقاء بترحابٍ ريفي، وقالت إن حقائبهم موجودة في غرفهم بالدور الثاني … وَصِعد الأصدقاء إلى فوق، وكالمعتاد ضمَّت «لوزة» و«نوسة» غرفة، و«عاطف» و«محب» غرفة، واختار «تختخ» غرفةً عند بداية وصول السلم إلى الدور الثاني، وعندما فتح نافذتها وجد شجرةً كبيرة تمتد أفرعها على مستوى النافذة، فتذكَّر غرفته في المعادي.

بعد الغَداء، نزل الأصدقاء مرةً أخرى إلى الحديقة، وكانت هناك مظلةٌ كبيرة من الخشب، تحتها مجموعةٌ كبيرة من الكراسي المصنوعة من أغصان الشجر، فجلسوا يتحدَّثون عن برنامج رحلتهم، فقال «سليمان»: لقد أعددتُ لكم مجموعةً من بنادق الصيد التي تعمل بضغط الهواء لصيد العصافير، ومجموعةً أخرى من السنانير لصيد السمك في بحيرة «قارون».

قال «محب»: إننا نريد أن نزور جَدَّك.

سليمان: سوف أُخبره بذلك، ولكن لن تجدوا فائدةً كبيرة من مقابلته … إنه كما قلتُ لكم يعاني من شللٍ نصفي، يجعل فمه ملتويًا وحديثه غير مفهوم … كما أنه أُصيب في الفترة الأخيرة بضعفٍ في الذاكرة واضح، ولكن سأبدي له رغبتكم في زيارته.

لوزة: ونريد مقابلة «عبود» الجنايني الذي يسكُن الكوخ القديم، أعتقد أنه سيروي لنا القصة الكاملة للثعبان الأعمى!

سليمان: كما قلتُ … إن «عبود» العجوز يعيش بلا نظام، ولا نعرف له مواعيد، والحقيقة أنه تغيَّر كثيرًا عما تركتُه في العام الماضي؛ فقد أصبح قليل الحديث منعزلًا، لا نراه إلا نادرًا!

محب: وأين يتناول طعامه؟

سليمان: في الكوخ، ويحمله له السائق «ميزار».

وساد الصمت الأصدقاء لحظات، وهبَّت ريحٌ خفيفة حرَّكَت أوراق الأشجار.

وقال «محب»: هيا نذهب لصيد العصافير.

لوزة: إنني لا أريد صيد العصافير … ما ذنب هذه الطيور الصغيرة اللطيفة لكي نقتلها؟

عاطف: سنتركُكِ مع قلبك الرقيق هنا، ونذهب نحن للصيد.

وانصرف الأولاد يَجْرون في الحديقة، وبَقِيَت «نوسة» مع «لوزة»، وبعد أن جلستا بضع دقائق قالت «لوزة»: تعالي نتمشَّى قُربَ الكوخ!

نوسة: ولماذا قُرب الكوخ؟

لوزة: لعلنا … أقصد … من الممكن أن نجد الثعبان الأعمى!

نوسة: «لوزة» … كيف تفكِّرين أن مثل هذا الثعبان يمكن أن يُوجد؟

لوزة: إذن لماذا يتحدَّثون عنه؟

نوسة: إنها مجرد حكاياتٍ قديمة يتوارثها الفلاحون.

هَزَّت «لوزة» رأسها غير مقتنعة … ثم قامتا تتمشيان، كانت أظلال الأشجار كثيفة وخاصة قرب السور الحجري الكبير، حيث تقف أشجار الجميز والكافور الضخمة، وقد انتثَرتْ أوراق الأشجار على الأرض حتى غطَّتها … وفجأةً مَرق تحت قدمَي «لوزة» شيءٌ ما … أحدث صوتًا واضحًا في السكون المخيِّم على المكان … وقفَزتْ «لوزة» مرتعبة وصاحت: الثعبان … وأمسكَت «نوسة» بذراع صديقتها وجذبَتْها إليها. ونظَرتْ تحت قدمَيها فلم تجد شيئًا، وقالت «نوسة»: ماذا قلتِ يا «لوزة»؟ … ثعبان؟

قالت «لوزة» وهي ترتجف: نعم!

نوسة: هل رأيتِهِ؟

لوزة: لا … ولكني أحسستُ به تحت قدَمي!

هَزَّت «نوسة» رأسها في استغراب وقالت: لو كان ثعبانًا لما أحدث هذا الصوت، إنه فأر من فيران الحقل في الغالب … ودعكِ من التفكير في الثعبان، وإلا تحوَّل كل شيء حولَكِ إلى ثعبان!

صمتت «لوزة» ومضتا تسيران حتى وجدتا نفسَيهما قُرب الكوخ القديم … فوقفتا بعيدًا مختفيتَين تحت ظلال أشجار البرتقال والعنب … وأخذتا ترمقان الكوخ وكلٌّ منهما تُفكِّر في «عبود» العجوز … وفجأةً فُتح باب الكوخ وظهر في بابه السائق «ميزار» يحمل في يدَيه آنيةَ طعامٍ فارغة. ونظر حوله ثم أغلق الباب خلفه، ومضى يسير بين الأشجار متجهًا إلى القصر، فهمسَت «لوزة»: إن «عبود» العجوز في الداخل وحده … تعالَيْ نتحدث إليه.

نوسة: إنهم يقولون إنه لا يتحدث مع أحد.

قالت «لوزة» متحمسة: تعالَيْ نحاول … فلن نخسر شيئًا!

وتقدَّمتا في حذر حتى أصبحتا أمام باب الكوخ الذي غطَّته الأشجار المتسلقة، وتردَّدَتا قليلًا ثم تقدَّمتْ «لوزة» ودقَّت الباب في رفق وانتظَرتْ، ومضت لحظاتٌ ولم يرُدَّ أحد. فرفعَت يدها ودقَّت الباب بشدة أكثر وانتظَرتْ، ومرةً أخرى لم يرُدَّ أحد، فوضعَت أذنها على الباب، وأخذَت تُنصِت ثم قالت ﻟ «نوسة»: لا صوتَ في الداخل.

قالت «نوسة»: لعله ليس في الداخل الآن!

لوزة: تعالَيْ ندخل ونرى ما في داخل الكوخ.

نوسة: لا داعي لهذا يا «لوزة» فربما يكون عم «عبود» في الداخل فنُزعِجه.

لوزة: من المؤكَّد أنه إذا استيقظ ووجدنا سيُرحِّب بنا؛ فهذه عادة الفلاحين الكرماء.

نوسة: لا أدري لماذا أنتِ مُصرة!

لوزة: لعله يروي لنا بعض الحكايات وبخاصة عن الثعبان الأعمى … وهكذا نحصل على معلوماتٍ نرويها للأصدقاء عند عودتهم من رحلة الصيد.

ودقَّت «لوزة» الباب مرةً ثالثة ولكن أحدًا لم يَرُد … وهكذا مدَّت يدها، وأخذَت تدفع الباب لتفتحه … وفي تلك اللحظة سَمعَت صوتًا يقول: ماذا تفعلين؟

استدارت «لوزة» سريعًا، وقد أحسَّت بالخجل، فوجدَت السائق «ميزار» يقترب منهما … وقالت «لوزة» بصوتٍ مبحوح: كنا نريد مقابلة عم «عبود»!

قال «ميزار» وهو يقف جانبها: إنه مريض ولا يقابل أحدًا … وأرجو إذا شئتِ مقابلتَه أن تسأليني … وسوف أختار وقتًا مناسبًا!

لوزة: آسفةٌ جدًّا.

ميزار: أبدًا!

وابتعدَت الفتاتان وقالت «لوزة» بعد لحظات: لقد أحسستُ بالرعب والخجل.

نوسة: قلتُ لكِ لا داعي لهذا المحاولة.

لوزة: إني مهتمة جدًّا بسماع القصة الكاملة للثعبان الأعمى … إنها أشبه بلغزٍ قديم!

نوسة: ألا تكفينا الألغاز الحديثة حتى نبحث عن الألغاز القديمة؟

ومضتا إلى القصر، وفي الشرفة اختارتا كرسيَّين وجلستا صامتتَين … ومن بعيدٍ كانت أصوات الطلقات ترتفع بين آونة وأخرى … وفجأة ظهر «ميزار» وتقدَّم منهما مبتسمًا وقال في رقة: أرجو ألا أكون قد ضايقتُكما … وإذا شئتما أن تقابلا عم «عبود» فسوف أُخطِركُما بالوقت المناسب لزيارته.

أحسَّت «لوزة» بالارتياح لحديث «ميزار» وقالت: إننا فقط نحب أن نسمع منه قصة الثعبان الأعمى.

بدا الجِدُّ على وجه «ميزار» وقال: وهل أنتما مهتمَّتان بقصة هذا الثعبان؟

نوسة: لسنا نحن فقط، ولكن جميع الأصدقاء!

ميزار: ولكن لماذا؟

نوسة: لأننا مجموعة من الأصدقاء نهوى حل الألغاز الغامضة، ونساعد العدالة. بدا الجد على وجه «ميزار» وهو يسأل: وهل سبق لكما الاشتراك في حل لغزٍ غامض؟ ابتسمَت «لوزة» قائلة: طبعًا … عشرات الألغاز، وقد ساعَدْنا في القبض على عددٍ كبير من أعداء العدالة … وساعَدْنا المظلومين على استعادة حقوقهم!

ميزار: شيءٌ عظيم جدًّا …

لوزة: وهل تعرف أنت حكاية الثعبان الأعمى؟

تردَّد «ميزار» قليلًا ثم قال: نعم!

لوزة: هل رأيتَه؟

ميزار: مرارًا!

دق قلب الصديقتَين وقالت «نوسة»: رأيتَه بعينَيك؟

ميزار: طبعًا!

نوسة: وهل رآه أحدٌ غيرك؟

ميزار: كثيرون.

لوزة: وما هو شكله؟

ميزار: إنه ثعبانٌ مثل كل الثعابين، ولكنه ضخم جدًّا، لونه بين الأسود والأصفر، أعمى!

لوزة: كيف عرفتُم أنه أعمى؟

لم يَرُد «ميزار»، ولكنه أخذ ينظر حوله في خوف، ثم قال: أرجوكم جميعًا أن تبتعدوا عن طريق الثعبان … إنه شرسٌ وشديد الخطورة!

وسكت لحظات، وبدت أصوات الأصدقاء و«سليمان» تقترب، فغادر «ميزار» المكان وهو يشير بيده محذرًا: ولا تتحدَّثوا عنه … فإنه يظهر عند الحديث عن حكاياته … وهو ينتقم ممن يتحدَّثون عنه بسخرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤