شبَح القصر

على مائدة العشاء كان هناك طبقٌ من العصافير التي اصطادها الأصدقاء، وقد كان عشاء مرحًا، لولا علاماتُ الوجوم التي كانت تعلو وجه «لوزة» بين لحظة وأخرى … فقد كان حديث «ميزار» يشدُّها إلى التفكير في الثعبان الأعمى … وقد أفزعَها تحذيره أن من يتحدَّث عن الثعبان يظهر له … هل هذا معقول؟ وهل يظهر لها فعلًا؟ ومتى يظهر؟ وهل يحاول أن يؤذيها؟

ونظَرتْ عَبْر المائدة إلى وجه «نوسة»، ولكنها وجدَتْها تشترك في الحديث مع بقية الأصدقاء ولا يبدو عليها أي انشغال بالحديث الذي سمعتاه من «ميزار» عن الثعبان. وانتهى العشاء، وانهمك الأصدقاء في بعض ألعاب التسلية، ثم جاء وقت النوم، وصَعِد الجميع إلى غُرفهم، وقالت «نوسة» وهي تُلقي بنفسها على فراشها: لقد كان يومًا متعبًا؛ فمنذ السادسة صباحًا ونحن لم نرتَحْ لحظةً واحدة … إنني سأنام فورًا!

لم تَرُد «لوزة»، وعندما أطفأَت النور استلقَت على الفراش وأخذَت تفكِّر فيما سمعَتْه من أحاديث عن الثعبان الأعمى الذي لا يرى إلا عندما يجد الجوهرة الكبيرة … شيءٌ مذهل وغريب، وسمعَت صوت تنفُّس «نوسة» المنتظم، فأدركَت أنها استغرقَت في النوم، وقرَّرتْ هي الأخرى أن تكُف عن التفكير في هذا الثعبان، وأن تُحاول أن تنام، ومضت فترة من الوقت، وبدأَت «لوزة» تُحس بالنوم يغزو أجفانها، وبدأَت تستسلم شيئًا فشيئًا له. ولكن فجأةً أحست أن أعصابها كلها تستيقظ وكأن إنذارًا خفيًّا قد دق في أعماقها … وقد كان ذلك الإنذار على شكل صوتِ أقدامٍ متلصصة مرَّت أمام غرفتها … وقفَزتْ «لوزة» من فراشها مسرعة ثم بمنتهى الهدوء والحذَر فتحت باب غرفتها ووارَبَته قليلًا ونظرت إلى الدهليز الطويل الذي يمثِّل امتداد السُّلم الداخلي للقصر. وعلى ضوء الصالة الكبيرة الخفيف في الدور الأول استطاعت أن ترى شبَح شخصٍ يقف أمام حد الأبواب، ويضع أُذنه على فتحة الباب محاولًا الاستماع إلى شيء يحدث في داخل الغرفة المغلقة، كانت المنطقة التي يقف فيها الشبح مظلمة، فلم تستطع «لوزة» أن تتبيَّن شخصه، وقرَّرتْ أن تقترب منه لتراه، وكان بينها وبينه حوالي عشرين مترًا، وهي تقريبًا المسافة التي تقوم عليها غرف نوم القصر في صفٍّ واحد. مضت «لوزة» بخطًى متلصِّصة أمام الأبواب … كانت تريد أن ترى الشبح عن قرب وتعرفه … ولكن أملها تبدَّد … فقد تحرَّك الشبح سريعًا متجهًا إلى نهاية الدهليز، ثم نزل السلالم مسرعًا و«لوزة» تجري تقريبًا في محاولة للحاق به … واستطاع الشبح الذي أَحسَّ بخطواتها خلفه أن يصل إلى صالة القصر، وكان الباب مفتوحًا فمرق منه … وبعد لحظاتٍ كانت «لوزة» تمرق من الباب هي الأخرى، ولكن فجأةً ارتفعت منها صرخةٌ مدوية وسقطَت على الأرض.

كان أول من استيقظ على الصرخة «نوسة»، ونظَرتْ إلى الفراش المجاور لها تبحث عن «لوزة»، فلما لم تجدها تصوَّرتْ أنها سبقَتْها إلى مصدر الصرخة، فغادَرتِ الغرفة مسرعة، ونظَرتْ إلى سلالم القصر فلم تجد شيئًا، ووقفَت على سور السُّلم ونظَرتْ إلى أسفل … وعلى الضوء الخفيف في الصالة السفلى شاهدَت «لوزة» واقعة على الأرض … لم يكن في استطاعتها أن تعرفها عن بُعد لولا أنها عَرفَت قميص نومها الأزرق وقد بدا واضحًا في فتحة الباب الخارجي للقصر.

نزلت «نوسة» مسرعة … وخلفها ظهر «تختخ» هو الآخر … وتسابق الاثنان للوصول إلى «لوزة» التي كانت نائمةً على ظهرها، وقد ذهبت في إغماءةٍ طويلة!

انحنى «تختخ» على «لوزة» ووضع يدَه على صدرها، ثم أمسك رسغها وأخذ يجس نبضَها وقال ﻟ «نوسة»: حمدًا لله، إنها ما زالت حية!

ثم نفذ من الباب ونظر حوله في الحديثة المظلمة، ولكن كان كل شيءٍ ساكنًا ولا صوت إلا حفيف الأشجار وهي تهتز في ريح الليل الهادئة، وعاد «تختخ» فحمل «لوزة» وأسرع وخلفه «نوسة» إلى غرفتها حيث مدَّدها على الفراش، وأحضَرتْ «نوسة» … زجاجة كولونيا، وأخذ «تختخ» يحاول إفاقة «لوزة» … ويداها متقلصتان وأنفاسها ثقيلةٌ بطيئة، وقال «تختخ» وهو مستمرٌّ في عمله: ماذا حدث؟ كيف خرجَت؟

ردَّت «نوسة»: لا أدري … لقد استيقظتُ على الصرخة ونظرتُ في الفراش فلم أجدها … ونزلتُ مسرعة حيث قابلتُك!

انهمك «تختخ» في إفاقة «لوزة» وبدأت بعد دقائق تسترد لونها وينتظم تنفسها … ثم فتحَت عينَيها ونظَرتْ حولها في رعب … وتصلَّبتْ أعضاؤها … ولكن عندما وقع بصرها على «تختخ» و«نوسة» استرخَت وأخذت تتمتم: الثعبان … الثعبان!

انحنى عليها «تختخ» قائلًا: اهدئي يا «لوزة»!

عادت تقول: الثعبان!

تختخ: أي ثعبان؟

لوزة: الثعبان الأعمى! لقد قابلتُه!

وغطَّت عينَيها كأنها تريد إبعاد صورته، فنظر «تختخ» إلى «نوسة» وهزَّ رأسه فقالت «لوزة»: إنني لا أَهذي … لقد رأيتُ الثعبان!

تختخ: أين؟

لوزة: أمام باب القصر … لقد كنتُ أطارد الشبح، ففوجئتُ بالثعبان يخرج من بين الأعشاب!

تختخ: متى حدث هذا؟

لوزة: الآن … منذ دقائقَ قليلة، أو ربما منذ فترةٍ طويلة فلست أدري بالضبط.

تختخ: لقد سمعتُكِ تصرخين، واتجهنا أنا و«نوسة» إليكِ فوجدناكِ مغمًى عليك عند باب القصر.

لوزة: منذ متى؟

تختخ: منذ عشر دقائق تقريبًا.

لوزة: إذن ابحث عن الثعبان … إنه عند الباب.

تختخ: اهدئي يا «لوزة»، لعلكِ فقط كنتِ تحلمين!

لوزة: أحلم؟ أبدًا … لقد سمعتُ صوت أقدام شخصٍ أمام باب غرفتي يمشي متلصصًا فخرجتُ خلفه، فوجدتُه يقف أمام باب إحدى الغرف ويتنصَّت، وعندما اقتربتُ منه نزل السلم مسرعًا وفتح باب القصر وخرج … ولما حاولتُ اللحاق به ظهر لي الثعبان الأعمى بين الأعشاب!

تختخ: وكيف عرفتِ أنه أعمى؟

تردَّدتْ «لوزة» قليلًا ثم قالت: لا أدري … ولكني … ولكني!

قال «تختخ»: إن حكاية الثعبان الأعمى أثَّرتْ عليك تمامًا، فأنت تتخيلين ثعبانًا في كل مكان … ولكني أؤكِّد لك …

لوزة: لا تقل إنني أَهذي أبدًا، لقد شاهدتُ الشبَح، وشاهدت الثعبان، وأنا متأكدة مما أقول!

اشتركَت «نوسة» في الحديث قائلة: سأذهب لأرى هذا الثعبان، لعله ما زال موجودًا!

تختخ: بل سأذهب أنا.

وغادر «تختخ» الغرفة مسرعًا، ومشى بهدوء حتى نزل سلالم القصر الداخلية، واقترب من الباب، وأَحسَّ رغمًا عنه برعدةٍ تشمل جسده، ودار بذهنه أنه ربما … ربما يقابل هذا الثعبان الأسطوري الذي يتحدَّث عنه الناس بخوف ورهبة!

كانت مفاجأة «تختخ» أن يجد الباب قد أُغلق … فمن الذي أغلقه؟ وتلفَّت حوله في حذَر، كان يعرف أنه لا يُوجد بالقصر الكبير سواهم، و«عفيفي» العجوز جد «سليمان»، والشغَّالة «فرحانة».

وأحسَّ بشيءٍ غامض يحدث من حوله، ولكنه لم يكن يدرك ما هو بالضبط، ثم خُيِّل إليه أنه سمع صوت بابٍ يُغلَق من بعيد، وساد صمتٌ ثقيل لا يقطعه إلا صوت الساعة الكبيرة في الصالة وهي تدق دقةً واحدة معلنة مرور ساعة بعد منتصف الليل، وتقدَّم «تختخ» من باب القصر وفتَحَه في هدوء، لم يكن هناك شيءٌ غير عادي.

وخطا خطوةً واجتاز باب القصر إلى الحديقة الواسعة التي يسودها الظلام الكثيف، وأَحسَّ مرةً أخرى برعدةٍ عندما تذكَّر أن الثعبان الأسطوري قد يخرج له فجأةً من بين الأشجار المتقاربة … واستروح نسيم الليل البارد المثقَل برائحة الورود والفاكهة، ووقف لحظاتٍ يُحدِّق في الظلام، وتردَّد بين أن يعود إلى القصر أو يُمعِن في الحديقة باحثًا عن أي شيءٍ يمكن أن يُفسِّر ظهور الثعبان الأعمى كما قالت «لوزة» … كان النوم قد طار من رأسه فقرَّر أن يسير قليلًا، فمضى خطواتٍ حتى خُيِّل إليه أنه سمع صوت أقدامٍ مسرعة تتجه ناحية الكوخ حيث يعيش «عبود» العجوز، فمضى يتبع الخطوات، واضطُر إلى أن يجري، ثم فجأةً توقفت الخطوات تمامًا وساد الصمت، ولم يعُد يسمع سوى صوت أنفاسه المتلاحقة … ومضت لحظات وهو واقفٌ في مكانه، ثم عاودَت الخطوات المجهولة وَقْعها على أوراق الأشجار الساقطة على الأرض ببطء وحذَر.

ومضت المطاردة بين المجهول ذي الخطوات البطئية الحَذِرة وبين «تختخ».

كانت روح المغامرة تشُد «تختخ» إلى المضيِّ خلف الخطوات المجهولة؛ برغم ما قد يحدُث له في الظلام، واستمرَّت المطاردة فترة، ثم عادت الخطوات المجهولة إلى التوقُّف، وتوقَّف «تختخ» أيضًا وهو يمُد رأسه إلى الأمام مصغيًا السمع حتى لا يفقد أَثر المجهول عندما يتحرك مرةً أخرى، ومضت فترة طويلة بدون أن يعاود المجهول سيره، وكاد «تختخ» أن يعود إلى القصر يائسًا لولا أن سمع حركةً خفيفة، وطار طائرٌ كأنما أفزعه شيءٌ وأخذ يتخبَّط بين الأغصان، وأدركَ «تختخ» أن المجهول كان يُحاوِل الصعود فوق شجرة عندما أفزع الطائر.

وهكذا اتجه «تختخ» مسرعًا إلى حيث مصدر الصوت، وفي هذه اللحظة أصابَتْه ضربةٌ مفاجئة على رأسه وسقَط على الأرض وهو يسمع صوت الخطوات المجهولة تمضي مسرعةً مبتعدة عنه.

كان ملقًى على الأرض ورأسُه يدور بدون أن يفقد وعيه، وأدرك أن هذه المطاردة الليلية وما حدث ﻟ «لوزة» هو بداية مغامرةٍ لا يدري كيف تنتهي … وبقي في مكانه فترة يفكِّر … هل يمضي في البحث عن حقيقة ما يحدث في هذا القصر القديم أو يتراجع؟

وبرغم الألم الذي كان يُحِسُّه في رأسه، فقد قرَّر أن يمضي في مغامرته الليلية … وهكذا قام وسار بخطواتٍ نشيطة في اتجاه الكوخ، أو ما خُيِّل إليه أنه اتجاه الكوخ … ومضت فترةٌ وهو يمشي حتى رأى في الظلام ضوءًا خفيفًا فاتَّجه إلى مصدره، ووجد نفسه أمام كوخ عم «عبود». كان الباب مغلقًا، وكان الضوء يأتي من فتحةٍ صغيرة في نافذته، فاتجه إلى الفتحة ووقف على أطراف أصابعه ونظر إلى داخل الكوخ في حدود رؤيته فلم يجد أحدًا، فأخذ يُدير بصره، وفجأةً سمع صوتًا خشنًا يأتي من خلفه يقول له: من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟

شلَّت المفاجأة تفكير «تختخ» لحظات، ثم دار على عقبَيه ونظر إلى حيث مصدر الصوت، وبقَدْر ما استطاعت عيناه الرؤية في الظلام رأى عجوزًا ممسكًا بعصًا غليظة واقفًا بين أشجار الخوخ الكثيفة الأوراق … وأدرك أنه عم «عبود» الجنايني العجوز، فقال له: أنا «توفيق» … ضيف عند «سليمان».

قال «عبود» في صوتٍ خشن: ابتَعِد عن هذا الكوخ … ودعكَ من البحث عن الثعبان الأعمى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤