الثعبان الأعمى

في صباح اليوم التالي اجتمع الأصدقاء، وروى «تختخ» لهم رحلة الأمس الليلية التي انتهت بعودته هو و«محب» … إلى القصر، بعد أن انتظرا طويلًا أمام الكوخ بدون أن يعاود الرجل الظهور.

قالت «نوسة» معلقة: وماذا تستنتج من رحلة الرجل أو الشبح الليلية؟

تختخ: لا أدري؛ فلم أستطع معرفته، كما أنه لم يذهب إلى أي مكانٍ لنعرف ماذا كان يريد أن يفعل!

لوزة: لقد كان في طريقه إلى القصر … فهو بلا شك الشبح نفسه الذي شاهدتُه ليلة أمسِ الأول!

تختخ: ليس من المستبعد أن يكون هو الشبح نفسه، ومعنى هذا أنه مُصِر على إنهاء مهمته في القصر!

نوسة: أية مهمة؟

تختخ: لا أرى مهمة غير الحصول على الجوهرة!

عاطف: ولماذا لا نُحذِّر الأستاذ «عفيفي» ليبعد الجوهرة من القصر وينتهي الأمر!

لوزة: بدون أن نحل لغز الثعبان الأعمى، وشبح الرجل المجهول؟!

عاطف: أليس هذا أفضل من أن نتعرض للخطر؟

تختخ: دعونا ننتظر ونرى … وفي هذه المرة سوف نشترك جميعًا في مطاردة الشبح … إنه يتحرك دائمًا قرب منتصف الليل، ولا أدري ما هو السبب، ولكننا سنعرف فيما بعدُ … ولهذا سنظل جميعًا مستيقظين حتى الساعة الواحدة صباحًا في انتظار ما يفعل!

نوسة: ولكن لماذا لا نحصر شبهتنا في واحد ممن حولنا؟ إن هذه هي طريقتنا الدائمة.

تختخ: معكِ حق … ولكني فعلتُ هذا فعلًا … والمشتبه فيهم كثيرون … عندنا «عبود» العجوز و«ميزار» والشغالة وناظر العزبة … وقد يكون أحدهم هو الشبح، وقد يكون الشبح أحد الفلاحين الذين يعملون في القصر نهارًا ويغادرونه ليلًا … وقد يكون الشبح يعمل وحده، وقد يكونون مجموعة!

تدخل «سليمان» في الحديث لأول مرة فقال: لماذا لا نُبلغ الشرطة؟

ردَّ «تختخ»: أولًا لأن الشرطة هنا ليست أكثر من بضعة جنود، وسوف يرسلون واحدًا منهم، وسوف يسأل عما حدث … فماذا حدث؟ شبح في الظلام، وثعبان، ولن يستطيع شيئًا حيالهما، كما أن هذا يدعو الشبَح إلى مزيد من الحذر … ونحن نريده أن يتصرف وفي ذهنه أننا مجموعة من الأولاد لا يخشى خطرها … وعلى كل حال، إذا تأزَّمتِ الأمور أكثر فلا بأس من إبلاغ الشرطة … ولكن لننتظر ليلةً أو أكثر لنرى.

وانفَضَّ الِاجتماع، ونزل الجميع إلى الحديقة يَجْرون ويلعبون، وطلب «تختخ» من «محب» أن يتظاهر بالجري ناحية الكوخ، ليجري خلفه … لعلهما يجدان قريبًا منه شيئًا يساعدهما على حل اللغز.

أما «لوزة» و«نوسة» فقد أخذتا تسيران في الحديقة تتفرجان على العصافير، على حين جلس «عاطف» و«سليمان» يلعبان الشطرنج أمام القصر.

وسمع الصديقان صوتَ مُحرِّك سيارة … فاتجها إليها، ووجدا «ميزار» يجلس إلى عجلة القيادة، وبعد أن بادلاه التحية قال «ميزار»: إنني ذاهب إلى الفيوم؛ فالسيارة في حاجة إلى إصلاح.

سأله «تختخ»: وهل ستعود اليوم؟

ميزار: لا … سوف أبقى ليلةً أو ليلتَين هناك؛ فالإصلاح سيستغرق بعض الوقت … هل تريدان شيئًا من هناك؟

تختخ: لا … شكرًا لك.

وتحرَّكتِ السيارة مُغادِرة الحديقة، وتابعها الصديقان حتى اختفت، فقال «محب»: إنها فرصة أن نذهب إلى الكوخ ونلتقي بعم «عبود» وحده!

هَزَّ «تختخ» رأسه موافقًا، وسارا معًا في اتجاه الكوخ، ومرةً أخرى عاد «محب» يقول: هذا أحد المشتبه فيهم يغادر مسرح الحوادث.

ووصلا إلى الكوخ، ودار حوله، لم يكن هناك صوتٌ ولا حركة، فتقدَّم «تختخ» … ودق الباب … وانتظر قليلًا، ولكن أحدًا لم يرُدَّ … فعاود الدَّق، ولم تكن هناك إجابة إلا الصمت.

قال «محب»: إن عم «عبود» قد خرج كالمعتاد، ولا أحد يدري أين مكانه، فتعالَ نبحث عنه.

تختخ: ما رأيك في محاولة لاقتحام الكوخ، لا بد أن بالداخل شيئًا يفيدنا في معرفة ما يدور في هذا القصر وحوله.

محب: ولكن كيف والكوخ مغلق؟

ابتسم «تختخ» وقال: لقد رأيت القفل قبل الآن، ولا أظن أنه مستعصٍ على الأدوات التي أحملها.

وأخرج «تختخ» من جيبه كيسًا جلديًّا صغيرًا، وقال ﻟ «محب»: قف أنت بعيدًا وراقب حتى أحاول.

كان القفل من النوع العادي فاستسلم لأصابع «تختخ» بعد دقائقَ قليلة، ووضع «تختخ» أذنه يتنصَّت، وظل الكوخ صامتًا، فدفع الباب ودخل ثم أغلق الباب خلفه … كان الظلام يسود الكوخ، وليس هناك سوى خيوطٍ من ضوء الشمس تتخلَّل السقف وجانبًا من الجدار. وبعد لحظات اعتادت عيناه الظلام، وأخذ يُدير بصره يفحص ما حوله … ودهش؛ فقد وجد أن الكوخ أفضل مما تصوَّر بكثير … فقد كان هناك «دولاب»، وفراش ومقاعد، وأشياءُ أخرى.

واقترب على حذَر وفتح «الدولاب» بهدوء … واستطاع برغم الظلام السائد أن يجد بعض الملابس الحريرية المزركشة معلَّقة … وأنواعًا غريبة من الأحذية ذات الرقبة الطويلة.

وأغلق «الدولاب»، ووجد صندوقًا مغلقًا حاول فتحه فلم يستطع، ووجد عليه كتابة لم يتبيَّنها … ونظر تحت الفراش … وبرغم العتمة استطاع أن يرى كيسًا ضخمًا … وتذكَّر الكيس الذي كان يحمله «عبود» العجوز معه، ومدَّ يده، وأخذ يعبث بفتحة الكيس حتى فتحه … ومد يده داخله ثم أطلق صرخةً مُدوِّية!

تراجع «تختخ» إلى الخلف مذعورًا … وتعثَّر في كرسي خلفه، فسقط على الأرض، وارتطم رأسه بها، وأَحسَّ بالدنيا تدور به، ثم فقد وعيه.

وفي الظلام انساب من الكيس ثعبانٌ ضخم، تقدم منسابًا في اتجاه «تختخ»، وفي تلك اللحظة فُتح الباب وظهر على عتبته «محب» الذي سمع صرخة «تختخ» فأقبل مسرعًا … لم يستطع رؤية شيء في الظلام لفترة، ولكن الضوء الداخل من الباب كشف له الثعبان الضخم وهو يتقدَّم من «تختخ» الراقد على الأرض بلا حَراك.

كانت لحظةً رهيبة لم تمُر «بمحب» طوال حياته … ولم يشهد لها مثيلًا في مغامراته السابقة كلها … وبالرغم من الشجاعة التي يمتاز بها «محب» فقد وقف مصعوقًا أمام هذا العدو الخطير … وكان الثعبان قد اقترب من «تختخ» وأصبح على بعد سنتيمتراتٍ منه … وأدرك «محب» الخطر الرهيب الذي يتعرَّض له صديق العمر، فلم يتردَّد، وتقدَّم وسط الكوخ مسرعًا، ثم انحنى على صديقه وحاول حمله … كان «تختخ» ثقيلًا، فلم يكن في استطاعة «محب» أن يحمله … وكان الثعبان الضخم قد رفع رأسه إلى أعلى وكأنه يستعد للهجوم … وتذكَّر «محب» أن الثعابين عادةً لا تُهاجم أحدًا إلا إذا هاجمها، فأخذ يجُر «تختخ» متجهًا إلى الباب … وعيناه على الثعبان … وذهنه يعمل سريعًا فيما يجب عملُه إذا هاجمهما الثعبان … وقرَّر أن الحل الوحيد هو وجود عصًا قوية أو كرسي يُمكِّنه من الدفاع عن صديقه وعن نفسه … ولكنه استطاع أن يصل ﺑ «تختخ» إلى الباب بدون أن يهاجمهما الثعبان، وعندما وصل إلى الخارج، ترك «تختخ» وأسرع يُغلِق الباب على الثعبان المرعب، ثم وقف مكانه يلهث وقد تصبَّب عَرق التعب والخوف من جسده كله.

وانحنى «محب» بعد لحظاتٍ على «تختخ» وراعه أن وجد الدم ينزف من ذارعه … وأدرك الحقيقة المرعبة … أن الثعبان قد لدغ «تختخ»، وأن حياة صديقه معرَّضة لخطر وشيك … وهما بعيدان عن القصر … والقصر بعيد عن العمران … والسيارة التي كان من الممكن أن تساعد على نقل «تختخ» بعيدة في الفيوم.

كانت لحظة حيرةٍ رهيبة … ثم سمع «محب» صديقه يئن، ثم فتح عينَيه وأخذ يحدِّق في «محب» لحظات … ثم هَزَّ رأسه، ومد يده فتحسَّسها في ألم، وقال: «محب»!

ردَّ «محب» في عصبية: «تختخ» … إن حياتك معرَّضة لخطرٍ شديد … لقد لدغك الثعبان.

تذكَّر «تختخ» كل شيء فلمعَت عيناه وقال: فعلًا! ثم نظر إلى ذراعه ورأى الدم وقال: الثعبان!

ونهض «تختخ» واقفًا، كأنما أمدَّته كلمة الثعبان بطاقةٍ غير منظورة، فوقف … وقال: هات منديلكَ سريعًا!

وتذكَّر «محب» في تلك اللحظة أن أبسط قواعد الإسعاف في لدغة الثعبان أو العقرب هي ربطُ ما فوق العضو المصاب حتى لا يصل الدم المسموم إلى القلب.

وبسرعةٍ أخرج منديله، وربط ذراع «تختخ» فوق المعصم ربطًا شديدًا حتى إنه آلم «تختخ».

وترنَّح «تختخ» قليلًا ثم تمالَكَ نفسه، وسارا ناحية القصر وقد أذهلَهما التفكير فيما حدث … ومصير «تختخ» في الساعات القادمة، وفجأةً شاهدا «لوزة» و«نوسة» تقبلان عليهما، وقد بدتا كأنهما تحملان أخبارًا هامة … ولكن رؤية ذراع «تختخ» المربوطة أنستهما كل شيء، فأقبلتا تجريان.

وقالت «لوزة»: ماذا جرى؟ لماذا تربط ذراعك؟

لم يَرُد «محب» ولا «تختخ»؛ فقد أحس كلٌّ منهما أن «لوزة» ستنزعج جدًّا … ولكن «نوسة» أصرَّت على أن تعرف … وقال «محب» بصوتٍ متعثر: لقد لدغ الثعبان «تختخ»!

صاحت «لوزة» في فزع: الثعبان الأعمى؟!

أمَّا «نوسة» فأمسكَت بذراع «تختخ» وفكَّت الرباط الذي حوله لترى اللدغة، ونظَرتْ إليها جيدًا … وأسرعَت تخرج منديلها من جيبها، ومسحَت الدم عن الجرح وأخذَت تتفحَّصه لحظاتٍ ثم ابتسمت.

كانت ابتسامةً في غير موعدها … ولكن سرعان ما جاء التفسير؛ فقد قالت «نوسة»: لا تخشَ شيئًا!

محب: كيف لا يخشى … وهو معرَّض للموت في دقائق!

نوسة: إنكما لم تلاحظا شيئًا هامًّا … إن الجرح المتخلِّف عن الثعبان السام يختلف عن الثعبان غير السام!

«لوزة» (في فزع): هل أنتِ متأكدة؟ إن المسألة تتعلق بحياة «تختخ»!

«نوسة» (في هدوء): طبعًا متأكدة، وقد قرأتُ هذا في أكثر من كتاب.

وبدأَت الدماء تعود إلى وجه «تختخ» و«محب» ومضت «نوسة» تقول: إن الثعبان السام يترك مكان لدغته ثقبَين صغيرَين مكان النابَين اللذَين ينزل منهما السم … أما الثعبان غير السام فيترك خطَّين من الثقوب مكان أسنانه الكثيرة … وهذا واضح في ذراع «تختخ» … فلا تخشيا شيئًا … إننا فقط يجب أن نغسل الجرح ونُطهِّره … ولن يحدث شيء …

ابتسم «تختخ» وقفز «محب»، وأسرع الأربعة إلى القصر، وتم غسل الجرح بالماء الساخن، ووُضِع عليه «الميركروكروم». واجتمع الأصدقاء حول فراش «تختخ» وأخذوا يناقشون المعلومات التي حصَلوا عليها … لقد بدأَت أشياء كثيرة تتضح … واقتربوا من حل لغز الثعبان الأعمى! وقد حضر «عاطف» الاجتماع بعد أن ترك «سليمان» الذي ذهب لمقابلة جده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤