ماذا خلف الرسائل المتوالية؟!

عندما هبطت الطائرة في مطار «هيثرو» الكبير، كان الليل قد بدأ يزحف على الوجود، غير أنَّ الإضاءة القوية في المطار، كانت تحيل الليل إلى نهار. كان الشياطين قد غادروا أماكنهم في الطائرة، حتى قبل أن يفتح الباب، فقد كانت رغبتهم قوية في الوصول سريعًا إلى «الرجل العنكبوت»، أو «سام سترونج»؛ فهم يعرفون مقدمًا أنَّ المغامرة سوف تكون أخطر مغامرة دخلوها، منذ بدأت علاقتهم بحياة المغامرات. عندما فتح الباب كانوا أول الخارجين، كان ضباب خفيف يحيط بالمطار فيجعل لون الأشياء رماديًّا، في نفس الوقت كانت هناك برودة محببة في الجو، تجعلهم أكثر نشاطًا. أسرعوا إلى باب الخروج، وعندما تجاوزوه، اتجهوا إلى موقف انتظار السيارات. فهم يعرفون أنَّ هناك سيارة في انتظارهم.

ابتسم «خالد»، وقال: إنَّنا نعرف «لندن» ربما أكثر من أي بلدٍ في الدنيا.

قال «عثمان»: نعم، ومغامرتها دائمًا تكون ممتعة!

أخرج «خالد» مجموعة المفاتيح التي يحملها، وبسرعةٍ فُتح باب السيارة «الفورد»، وفي ثوانٍ كانت تتحرك وهي تقلُّ الشياطين.

سأل «قيس»: هل تتحدث مع عميل رقم «صفر»؟

ردَّ عليه «أحمد»: نعم، بعد قليل، عندما نبتعد عن المطار!

في منتصف المسافة، رفع «أحمد» سماعة التليفون، فردَّ عليه عميل رقم «صفر» مباشرة: أهلًا بكم، لقد كنت في انتظار مكالمتكم!

شكره «أحمد»، فقال العميل: سوف تنزلون في فندق «إمبسادور»، وأرقام الغرف هي ٤٠٢ و٤٠٤ و٤٠٦ … إنَّني في انتظار أوامركم!

شكره «أحمد» مرةً أخرى، ثم وضع السماعة. نقل للشياطين ما دار خلال الحديث، فأخذ «خالد» اتجاه الفندق، كان رذاذ خفيف يتساقط، يُسمع له وقعٌ لطيف فوق سقف السيارة، بينما كان الشياطين يتأملون خيوط الماء وهي تلمع تحت الضوء خلال نصف ساعة. كانت السيارة تدخل شوارع العاصمة الإنجليزية العريقة، وكان يبدو كل شيء قديمًا مغسولًا بمياه المطر. وعندما توقفت السيارة في مكان الانتظار خلف فندق «الإمبسادور»، غادرها الشياطين بسرعة، في اتجاه المبنى الضخم، وفي دقائق كانوا داخله، حيث كان الدفء، أول شيء قابلهم.

اتجه «بو عمير» إلى مكتب الاستعلامات، حيث وجد مفاتيح الغرف. وبسرعةٍ، كانوا يأخذون طريقهم إليها … كان «أحمد» يحمل مفتاح الغرفة رقم «٤٠٤»، فاتجهوا إليها جميعًا، وعندما استقروا داخلها، عقدوا اجتماعًا سريعًا.

بدأ «أحمد» الحديث فقال: سوف نخرج الآن، في جولةٍ استطلاعية، حول مكتب «سام سترونج». إنَّني أحمل خريطةً لموقع المكتب وأخرى للمكتب نفسه. هناك أيضًا خريطة ثالثة، للمخزن في «مانشستر»، لكننا لن نذهب إلى هناك، إلا إذا احتاج الأمر. إنَّ حركتنا سوف تكون تبعًا للخطة «ن» و«ل». «خالد» سوف يكون مع «عثمان» و«بو عمير». وسوف أكون أنا و«قيس» معًا.

سكت لحظةً ثم أضاف: لن نبدأ مغامرتنا الليلة، إنَّ خطة الاستطلاع سوف تكون مهمَّة تمامًا؛ لأنَّها هي التي سوف ترسم تحركنا فيما بعد. وأنتم تعرفون أنَّ المكتب صعب الاقتحام؛ لأنَّ العدسات التي ترصد الحركة خارجه، لن تجعلنا نتصرف بحرية؛ ولذلك فالحذر مسألةٌ ضرورية.

سكت لحظةً أخرى، كان الشياطين يستمعون إليه، إلا أنَّ «قيس» قطع الصمت قائلًا: أعتقد أنَّ الأجهزة التي لدينا، تستطيع أن تكشف هذه العدسات السحرية.

ردَّ «أحمد»: هذا صحيح، وهذا ما كنت سوف أتحدث عنه الآن.

قال بعد لحظةٍ: أعتقد أنَّنا يجب أن نبدأ؛ لأنَّ جولتنا الاستطلاعية هي التي سوف ترسم حركتنا.

انصرف الشياطين بسرعة، فذهب «خالد» و«بو عمير» معًا إلى الغرفة ٤٠٢، وذهب «قيس» و«عثمان» إلى الغرفة ٤٠٦؛ فقد كان موعد اللقاء عند السيارة بعد ربع ساعة.

عندما اجتمع الشياطين مرةً أخرى عند السيارة، قال «أحمد»: سوف أنزل أنا و«قيس» قريبًا من المكتب، وعليكم أنتم أن تتحركوا بالسيارة.

انطلق «خالد» إلى حيث حدد «أحمد» مكان المكتب، تبعًا للخريطة، كان المكتب يقع في مبنًى ضخم في شارع «تشرشل»، وكان المبنى يحمل رقم ٨١٩. كانت الشوارع مزدحمة، وخاصة بالسياح من كل جنس، ورغم ذلك لفت نظر الشياطين، إلا أنَّه لم يشغلهم، فقد كان ما يفكرون فيه أهم بكثير.

اقتربت السيارة من شارع «تشرشل»، فقال «أحمد»: سوف ننزل هنا، وعليكم أن تدوروا حول المكان في حذر.

توقفت السيارة فغادرها «أحمد» و«قيس»، وَقَفا قليلًا حتى اختفت السيارة، ثم بدأ تحركهما، كان رقم ٨١٩ لا يزال بعيدًا، فهو يقع في منتصف الشارع الطويل، حيث كانا يقفان عند بدايته، كما أنَّ الشارع يبدو هادئًا تمامًا، وأنه لا يضم هذه الشخصية الغريبة التي تتاجر في أعمار الناس، تقدَّمَا بطريقةٍ عادية، حتى لا يلفتا نظر أحد.

همس «قيس» بعد قليل: سوف أستخدم جهاز الأشعة فوق الحمراء، لكشف أماكن العدسات.

ردَّ «أحمد»: فقط ينبغي أن تكون حذرًا، حتى لا ننكشف ولاحظ أنَّ الحراسة هنا لا بد أن تكون على مستوى عالٍ من الكفاءة.

ابتسم «قيس» قائلًا: لا أظن أنَّهم أكثر كفاءة من الشياطين.

ابتسم «أحمد» ولم يرد. غير أنَّ «قيس» لم يستخدم الجهاز مباشرة، فقد فكر قليلًا، كانا ما زالا يتقدمان في بطءٍ حتى اقتربا من المبنى. كان الباب مغلقًا، والمبنى يبدو موحشًا، وكأنَّه مهجور. فجأة، فُتح الباب، وظهرت أُسرة كاملة، أب، وأم، وأبناء. كان الأبناء يجرون في مرح، بينما كانت الأم تبتسم، إلا أنَّ الأب كان متجهم الوجه في هدوء، ظل «أحمد» يرقب الأسرة التي ابتعدت في صخب الأطفال.

لحظة، ثم ظهرت سيارةٌ مندفعة في سرعةٍ ومن أسفل المبنى، حيث يوجد جراج.

همس «قيس»: يبدو أنَّهم سكان المبنى.

إلا أنَّ «أحمد» لم يرد، فقد كان يفكر في شيءٍ آخر. بدأت حركةٌ داخل المبنى … نوافذ تضاء … ونوافذ تُفتح، ورجال يخرجون، وقد لبسوا ملابس السهرة. الشيء الذي لفت نظر «أحمد» هو سمة الجد على وجوه الرجال.

كانا قد تركا المبنى خلفهما، وابتعدا قليلًا. همس «أحمد» فجأة: إنَّ عملية الاستطلاع يجب أن تأخذ شكلًا آخر.

نظر له «قيس» في تساؤلٍ، فقال: ينبغي أن نعود إلى الفندق، إنَّنا في حاجةٍ إلى عميل رقم «صفر».

فجأة، مرت سيارةٌ مندفعة، فعرفا أنَّها سيارة الشياطين. رفع «أحمد» يده بإشارةٍ لا يعرفها سوى الشياطين، ثم التفت راجعًا هو و«قيس» … كانت سيارة الشياطين قد قطعت الشارع، وانحرفت يمينًا، ثم توقفت، لكنَّ «أحمد» و«قيس» لم يغيرا من سرعتهما؛ فقد ظلا يمشيان بنفس الهدوء. وعندما انحرفا في اتجاه السيارة، كان من المستحيل أن يكشفهما أحد، قفزا في السيارة بسرعة، فانطلق «خالد».

سأل «أحمد»: هل لاحظتم شيئًا غير عادي؟

ردَّ «عثمان»: لا شيء يلفت النظر، إنَّ كل شيء يبدو عاديًّا!

قال «أحمد» بعد قليل: إنَّنا نحتاج مكانًا مقابلًا للمبنى. فأظنُّ أنَّ سكانه كلهم من عملاء «سام سترونج».

نظر له الشياطين بسرعة، كانت أعينهم ممتلئة بتساؤلٍ واضح.

قال «أحمد»: لا أظنُّ أنَّ «سام» يمكن أن يكون في مبنى يضم سكانًا عاديين، فإنَّ هذا يمكن أن يكشف العمليات التي تحدث. فتبعًا للتقارير التي قدمها لنا رقم «صفر»، إنَّ هناك شخصيات معروفة تصل إلى مكتب «سام سترونج» … وهذه الشخصيات يمكن أن تَلفت النظر، ولهذا؛ من المحتمل أن يكون سكان المبنى جميعًا من رجاله، وهذا هو الاحتمال الكبير، فهذا يعطي شكل الحياة العادية من جانب، ويعطي السرية الكاملة من جانبٍ آخر.

سكت «أحمد» في الوقت الذي كان الشياطين يفكرون في هذا الاستنتاج المثير الذي توصل إليه «أحمد».

قال «بو عمير» بعد لحظةٍ: إنَّه استنتاجٌ مدهش! لهذا تكون المراقبة لبعض الوقت ضرورية!

كان «خالد» متجهًا بالسيارة إلى فندق «إمبسادور»، بينما كانت أفكاره تدور حول الاستنتاج المثير.

قال «أحمد»: ما رأيكم، هل نتصل بعميلٍ رقم «صفر»؟

ردَّ «عثمان» بسرعة: بالتأكيد.

رفع «أحمد» سماعة التليفون، فردَّ العميل مباشرة: إنَّني تحت أمركم!

قال «أحمد»: نريد شقةً مقابلة للمبنى ٨١٩.

لم يرد العميل مباشرة، لكنَّه بعد قليلٍ قال: سوف أتصل بكم على الموجة «ن»، بعد نصف ساعة.

وضع «أحمد» السماعة، ونقل للشياطين رد العميل. في نفس الوقت كان «خالد» قد اقترب بالسيارة من الفندق، وعندما توقفت في المكان المخصص لها، غادروها بسرعةٍ، واتجهوا إلى داخل «إمبسادور»، وهو فندقٌ من الفنادق المعروفة والضخمة في لندن، وعادة تنزل فيه الشخصيات المشهورة، وقد كان اختيارُ عميل رقم «صفر» له مقصودًا، فربما يستطيع الشياطين أن يتعرفوا على إحدى الشخصيات التي تصلح بدايةً للمغامرة. إلا أنَّ الشياطين لم يفكروا في ذلك؛ لأنَّهم لا يحتاجون ﻟ «أحمد» … فتفاصيل المغامرة واضحة أمامهم، إن القبض على «سام سترونج» هو الخطوة النهائية، وهم يعرفون مكان مكتبه، ويعرفون مخزن الأسلحة. صحيح أنَّهم لم يروه، لكنهم يستطيعون ذلك، تبعًا لخطة «أحمد»، في مراقبة المبنى ٨١٩، في شارع «تشرشل».

عندما ضمتهم غرفة «أحمد» وضعوا جهاز الاستقبال وضبطوه على الموجة «ن»، حسب الاتفاق مع عميل رقم «صفر»، كانوا يجلسون في حالة انتظار الرسالة. مضت النصف ساعة، ولم تأتِ رسالة العميل، مرت خمسُ دقائق، ثم عشرٌ، تلاقت أعينهم، فهذه أول مرة يتأخر فيها رد العميل.

همس «قيس»: قد تكون المهمة صعبة!

ردَّ «عثمان»: لا أظن، فلو كانت صعبة، فإنَّه سوف يتصل، حتى لا يضعنا في موقف التساؤل.

وقف «أحمد»، وأخذ يمشي في الغرفة في حالة قلَق، في نفس الوقت الذي كانت فيه عيناه لا تبتعد عن جهاز الاستقبال.

قال «بو عمير»: هل نرسل رسالةً إلى رقم «صفر»؟

نظر «أحمد» إلى «بو عمير» قليلًا، ثم قال: لا يزال الوقت مبكرًا حتى نلجأ إلى ذلك.

فجأة تردد صوت الجهاز، فأسرع «أحمد» إليه. كان الجهاز يسجل رسالةً شفرية: «١–٢٣–١٨–٢٤–٢٩–٢٣» وقفة «١٨–٨–٢٤–٣–٢٦» وقفة «١٢–٢٩–١–١٠–٢٦» وقفة «٨» وقفة «١–٢٣–٨–٢٧–١٠» وقفة «٤» وقفة «٢٧–٢١–٣» وقفة «١–٢٣–٢٧–١٤–٢٧–٢٣» وقفة «١٢» انتهى.

وكانت ترجمة الرسالة: «العميل صدمته سيارة، الشقة ٨ الدور ٤، وقت الوصول ١٢.»

ظهرت الدهشة على وجه «أحمد»، حتى إنَّ «بو عمير» تساءل بسرعةٍ: ماذا حدث؟

قرأ لهم الرسالة، فامتلأت وجوههم بالدهشة.

وقال «أحمد»: هل هذه مسألةٌ عادية؟

قال «عثمان»: لا أظن، يبدو أنَّها مسألةٌ مدبرة!

قال «قيس»: لو كان هذا صحيحًا، فإنَّنا نكون في موقفٍ صعب؛ فإنَّ هذا يعني أنَّنا معروفون لديهم!

صمت الجميع، إلا أنَّ «أحمد» كان يفكر في شيءٍ آخر؛ ولذلك قال: لا أظن أنَّهم يعرفون شيئًا عنَّا، وإلا ما جاء عنوان الشقة، وتحديد موعد الوصول إلينا.

فجأة بدأ جهاز الاستقبال يسجل رسالة. نظر الشياطين إلى بعضهم … غير أنَّ «خالد» قال: لا أظنُّ أنَّها رسالةٌ مكملة للرسالة السابقة!

سأل «عثمان»: ماذا تعني؟

ردَّ «خالد»: قد تكون تحذيرًا من «سام سترونج»!

كانت عينا «أحمد» تتابع أرقام الرسالة فيترجمها على الفور، وعندما انتهى، قال: إنَّها رسالةٌ من رقم «صفر»، وهو يقول: «استمروا في مغامرتكم، حادثة العميل سوف نهتم بها.»

نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم قال: لا يزال أمامنا بعض الوقت للانتقال إلى هناك.

سكت لحظةً ثم أضاف: إنَّني أقترح أن ننقسم إلى فريقي عمل، فريقٌ يبقى هنا، وفريقٌ يتجه إلى شقة المراقبة، فوجودنا هناك فجأة، قد يلفت النظر، غير أننا يمكن أن نتناوب المراقبة.

سكت مرةً أخرى بينما كان «عثمان» يقول: إنَّ تحركنا يجب أن يكون أكثر حذرًا؛ فحادثة العميل يجب أن تكون لها آثارٌ أخرى.

فجأة، بدأ الجهاز يسجل رسالةً ثالثة، عندما قرأها الشياطين ظهرت الدهشة على وجوههم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤