الفصل الأول

مقدمة

ما نحن جميعًا سوى أشياء زاحفة،
والقِرَدة والبَشَر
هم إخوة في الدم.
من قصيدة «أغنية الشُّرب» لتوماس هاردي

يُجمِع المجتمع العلمي على أن كوكب الأرض كوكب عادي يدور حول نجم عادي تمامًا، نجم موجود ضمن ملياراتٍ عِدَّةٍ من النجوم داخل مجرَّة، وهذه المجرَّة موجودة ضمن ملياراتٍ عِدَّةٍ من المجرات داخل كون هائل الحجم آخِذٍ في التمدُّد، نشأ منذ أربعة عشر مليار عام. تكوَّنت الأرض نفسها نتيجة عملية تكثُّف جذبي للغبار والغاز، وهي العملية التي أدَّت أيضًا إلى نشأة الشمس والكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية، منذ نحو ٤٫٦ مليارات عام. إن جميع الكائنات الحية الموجودة في يومنا الحالي مُنحدرة من الجزيئات الذاتية النسخ التي تكوَّنت بوسائل كيميائية خالصة، منذ أكثر من ٣٫٥ مليارات عام. وقد أُنتجت صور الحياة التالية بواسطة عملية «الانحدار مع التعديل»، كما أسماها داروين، وهي مرتبطة بعضُها ببعض عن طريق سلسلة نَسَب متفرِّعة؛ أي شجرة الحياة. وأقرب الكائنات إلينا — نحن البشر — الشمبانزي والغوريلا، وهما النوعان اللذان كان يجمعنا بهما سَلَف مشترك من ٦ إلى ٧ ملايين عام مضت. أما الثدييات، تلك المجموعة التي ننتمي إليها، فكان يجمعها سَلَف مشترك مع الزواحف الموجودة حاليًّا منذ نحو ٣٠٠ مليون عام. وتعود أصول كل الفقاريات (الثدييات والطيور والزواحف والبرمائيات والأسماك) إلى ذلك الكائن الصغير الشبيه بالسمكة، والذي كان يفتقر إلى عمود فقري، وكان يعيش منذ أكثر من ٥٠٠ مليون عام. أما إذا رجعنا إلى وقت سابق على ذلك الزمن، فسيصبح من الصعب على نحو متزايد تبيُّن العلاقات بين المجموعات الكبيرة للحيوانات والنباتات والميكروبات، ومع هذا سنرى أن المادة الوراثية لهذه الكائنات تحمل علامات واضحة على وجود سَلَف مشترك.

منذ أقل من ٤٥٠ عامًا مضت، كان جميع الدارسين الأوروبيين يؤمنون أن الأرض هي مركز الكون، وأن هذا الكون لا يتجاوز نطاقه بضعة ملايين من الأميال، وأن الكواكب والشمس والنجوم كلها تدور حول هذا المركز. ومنذ أقل من ٢٥٠ عامًا مضت، آمَن الجميع أن الكون خُلِق في حالته الحالية منذ نحو ٦٠٠٠ عام مضت، بالرغم من أنه كان معروفًا في ذلك الوقت أن الأرض تدور حول الشمس، شأنها شأن الكواكب الأخرى، وكان من المتفق عليه بشكل واسع أن الكون يتمتَّع بحجم أكبر. ومنذ أقل من ١٥٠ عامًا مضت، كانت الفكرة السائدة بين العلماء هي الفكرة التي تقضي بأن الحالة الحالية لكوكب الأرض هي نتاج ما لا يَقِلُّ عن عشرات الملايين من الأعوام من التغيُّر الجيولوجي، لكن الاعتقاد بأن الأنواع الحية صُنِعت خِصِّيصَى بِيَدِ الربِّ كان لا يزال مهيمِنًا.

في غضون فترة تقلُّ عن ٥٠٠ عام، استطاع التطبيق الحثيث للمنهج العلمي القائم على الاستدلال من التجربة والملاحظة، دون اللجوء إلى أي سلطة دينية أو حكومية؛ أن يغيِّر بالكامل من نظرتنا لأصولنا وعلاقتنا بالكون. وبالإضافة إلى ما اتسمت به النظرة الجديدة التي أتاحها العلم من إبهار حقيقي، فقد كان لهذه النظرة كذلك أثرٌ ضخم على كلٍّ من الفلسفة والدِّين؛ فالنتائج التي توصَّل إليها العلم تقضي ضمنًا بأن البشر نتاجٌ لقُوًى موضوعية، وأن العالَم القابل للسُّكْنَى يُشكِّل جزءًا ضئيلًا من كونٍ عظيم الحجم وطويل الأمد. وبغضِّ النظر عن المعتقدات الدينية أو الفلسفية لأفراد العلماء، فإن برنامج البحث العلمي بأسْره مبنيٌّ على افتراض أن الكون يمكن فهمه على مثل هذا الأساس.

لن يماري في نجاح هذا البرنامج إلا قليلون، خاصة في القرن العشرين، الذي شهد أحداثًا بشعة في الشأن البشري. إن تأثير العلم ربما يكون قد أسهم على نحو غير مباشر في تلك الأحداث، وهو ما حدث جزئيًّا بفعل التغيُّرات الاجتماعية التي أوجدها ظهور المجتمعات الصناعية الكبرى، وجزئيًّا بفعل تقويض منظومات المعتقدات التقليدية. ومع هذا، يمكن الزعم أنه كان بالإمكان تجنُّب قدْر كبير من المُعاناة على مدار تاريخ البشر عن طريق الاحتكام إلى العقل، وأن كوارث القرن الحادي والعشرين إنما نتجتْ عن فشَلِنا في التصرف بعقلانية، لا عن فشل العقلانية نفسها. ويظل الأمل الوحيد لمستقبل البشرية هو التطبيق الحكيم للفهم العلمي على العالم الذي نعيش فيه.

تكشف دراسة التطور عن علاقاتنا الوثيقة بالأنواع الأخرى التي تقطن كوكب الأرض، وإذا أردْنا تجنُّب كارثة عالمية، فمِن الضروري أن تُحتَرَم هذه العلاقات. يهدف هذا الكتاب إلى تعريف القارئ العادي ببعضٍ من أهم النتائج والمفاهيم والمناهج الأساسية لعلم الأحياء التطوري، عبر رحلة تطوُّره منذ المنشورات الأولى لداروين ووالاس عن الموضوع منذ أكثر من ١٤٠ عامًا مضت. يقدِّم التطور مجموعة من المبادئ الموحِّدة لعلم الأحياء بالكامل، كما أنه يُلقِي الضوء على العلاقة بين البشر والكون، وبين البشر بعضِهم وبعض. علاوة على ذلك، للعديد من جوانب التطور أهمية عملية، ومثال على ذلك المشكلات المُلِحَّة التي يفرضها التطور السريع لمقاومة البكتيريا للمضاداتِ الحيويةَ، ومقاومة فيروسِ العوز المناعي البشري (إتش آي في) العقاقيرَ المضادة للفيروسات.

في هذا الكتاب سنستعرض أولًا العمليات السببية الرئيسية للتطور (الفصل الثاني). ثم يقدِّم الفصل الثالث قدْرًا من المعرفة البيولوجية الأساسية، ويُبيِّن كيف يمكن فهم أوجه الشَّبَه بين الكائنات الحية من منظور التطور. بعد ذلك يَصِف الفصل الرابع الأدلة المؤيِّدة للتطور والمأخوذة من تاريخ كوكب الأرض، ومن أنماط التوزيع الجغرافي للأنواع الحية. يركِّز الفصل الخامس على تطور أوجه التكيُّف لدى الكائنات عن طريق الانتخاب الطبيعي. بينما يركِّز الفصل السادس على تطور الأنواع الجديدة والاختلافات بين الأنواع. في الفصل السابع سنناقش بعض المشكلات بادية الصعوبة التي تكتنف نظرية التطور، ثم نقدِّم ملخَّصًا موجزًا لما استعرضناه في الفصل الثامن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤