مقدمة الكتاب

بقلم  محمد سعيد إبراهيم

رابطة الأدب الجديد

يروج في المسرح المصري في السنوات الأخيرة نوع من القصة التمثيلية أُطلِق عليه زورًا اسم «الأوبرا» لدخول الغناء فيه، وقد حوت تلك القصص من صنوف التدجيل والمساخر ما يزري بالاسم الذي أطلق عليها، وأكبر ما تستند عليه في اجتذاب جمهور الناس التجاؤها إلى النكات الغثة والفكاهات السطحية التي شاعت بين العامة، ولم تكن تُعْنَى بعد ذلك بأوضاع التأليف الفني ولا بما تُبنى عليه القصة الصحيحة. وقد جازت هذه السلعة على الناس ونفق سوقها بينهم لإرضائها روح الفكاهة الفارغة فيهم، وهي قد جارت — بتهافت الجمهور عليها — على فنون المسرح الجدية واكتسحتها إلى حد كبير، ولكننا لا نرى فيها ما يدعو إلى الخوف على مصير التمثيل في مصر؛ إذ إن مآلها العاجل أن تصبح حروفًا خرساء.

أثرٌ واحدٌ قد خلفته هذه الروايات في تاريخ النهضة الفنية في مصر لا نريد أن نجحد فضله إذا جزنا هذا الدور الذي مر به التأليف المسرحي: هذا الأثر هو ما صحبها من النشاط الموسيقي الذي أسبغ على الأغاني الشعبية روحًا جديدة وأنتج من التآليف الموسيقية في سنوات قليلة بعد الحرب الكبرى ما يربو على منتجات الموسيقى منذ أيام عبده الحمولي. وكان السيد درويش علمًا كبيرًا في هذه النهضة، وكانت أشباه الأوبرات الممسوخة التي تكلمنا عنها حافزًا لفنه، وفيها أودع الجانب الأوفر من أغانيه. ومنذ ذلك الوقت تفتحت أمام الموسيقى المصرية آفاق واسعة؛ إذ تناولت موضوعات لا عهد لها بها من قبل، فتخلصت بذلك من طابع التهاون والاطِّراد، وتحررت من روح الاسترخاء وعذوبة التلحين التي لا يُراعى فيها معنًى ولا موضوعًا، وبدأنا نرى فيها موسيقى معبرة صادقة، وأدرك الملحنون أن الموسيقى تعبير مصور وليست مجرد إيقاع عذب وتلاعب بليد بالأصوات!
figure
الأستاذ محمد سعيد إبراهيم (سكرتير رابطة الأدب الجديد).

بعد هذه المقدمات الموسيقية أفسح السبيل لظهور الأوبرا الراقية في ميدان الإنتاج الفني وأصبح من المستطاع أن تخرج القصة الشعرية في ثوبها الغنائي المسرحي، فإذا نحن تناولنا الكلام عن الموسيقى والموسيقيين فذلك لأن الموسيقى تقاسم الشعر فضل إخراج الأوبرا، ولأن تاريخ الأوبرا في الأمم التي ظهرت فيها بأوروبا كان في الحقيقة تاريخًا للتطور الموسيقي؛ ولهذا السبب كانت الأوبرا آخر أنواع التآليف المسرحية في الظهور في مصر لاعتمادها على فن آخر لا قيام لها بدونه.

والأستاذ أحمد زكي أبو شادي من واضعي الحجر الأول في إيجاد الأوبرا في مصر، وربما كانت إقامته الطويلة في أوروبا التي أتاحت له الوقوف على مختلف فنون المسرح هي التي جعلته أسبق من غيره من الشعراء وأنفذ بصرًا في إدراك افتقار التمثيل إلى هذا النوع من الروايات التمثيلية، وكان وهو الشاعر الفياض المطبوع أطلق من غيره يدًا في الشعر القصصي، وأمضى في اقتحام هذا الطريق المجهول في الأدب العربي، ولا نشك في أن شاعرًا مثله جديرٌ بأن يضطلع بهذا العبء وينهض به.

وقد كانت (إحسان) أولى أوبراته الكبرى التي نشرتها (رابطة الأدب الجديد) منذ أمد قليل وها هو يتبعها (بأردشير) التي تتشرف (الرابطة) بأن تقدمها إلى الجمهور بهذه الكلمة.

وقد أشار المؤلف في كلمة التصدير إلى موضوع هذه القصة، وأعذر في التجائه إلى كتاب (ألف ليلة وليلة) لأخذ هذه الأسطورة التي بنيت عليها الأوبرا (أردشير). وهو إن كان قد خرج بعض الخروج عما عاهد نفسه عليه في الرجوع إلى مصادر التاريخ المصري في تآليفه، واستجاب لمطلب أحد مديري الفرق المسرحية في البلد، فليست استجابته إرضاء لرغبة فردية، بل هي في الواقع إرضاء لنزعة تغشى الجمهور عامة سواء في هذا البلد أو في غيره — نزعة الحنين إلى الجو السحري الذي يغمر قصص (ألف ليلة)، وذلك التطلع المتلهف إلى صور الحضارة الفارسية العربية وما لها من السناء والروعة الشرقية والرواء الباهر الذي يلمس من قلوبنا ناحية عميقة تسكنها روح الأساطير، نخلو إليها إذا مللنا ملابسة الواقع الغث المألوف جمامًا للنفس وروحة لها. والفن على كل حال له روحه الإنسانية العامة التي لا تُعنى كثيرًا بالعصبية القومية، وإنا نرى أن الفن المصري نفسه لن يخسر بحال من الأحول إذا تساهل المؤلف وأحل نفسه قليلًا مما عاهد نفسه عليه. وربما كان من الخير له أن يقف على أهواء أهل جيله ويترضَّاها بعض الرضاء ليحل فيها محلًّا يمكنه من التسلط عليها وحملها على ما يريده بالرفق واللين.

وقصة (أردشير) كغيرها من قصص (ألف ليلة) ليست لها من الوجهة التاريخية قيمة، فلا وجود لأبطالها لا في التاريخ العربي ولا الفارسي، ولكن هذا لا ينقص من قيمتها كموضوع لقصة تمثيلية، إذ سواء في الفن القصصي أن تتخذ مادته من الروايات التاريخية الصحيحة أو من الأساطير، والصدق الفني الذي نتطلبه في القصة هو الصدق في خلق الشخصيات وترتيب الحوادث. والأساطير نفسها فيها من صدق التصوير للحياة الإنسانية في سذاجة لا أثر للصنعة فيها مما يدخلنا في صميم البيئة التي نشأت فيها.

و(أسطورة أردشير) مثال له أشباه كثيرة في الأدب العربي والفارسي تتبين فيها طرائق الحب في بلاد الشرق التي عرفت الحجاب أو ما يسمى تقاليد «الحريم». وأردشير بطل هذه القصة مثال العشاق من أولاد الملوك الذين يتخذون الحب نوعًا من اللهو يشبه الصيد والقنص، كما يجرون وراء الغرائب والأماني العسيرة الممتنعة، فإننا نراه في هذه القصة يجدُّ وراء (حياة النفوس) كماجد چيسون Jason في البحث عن الجزَّة الذهبية، ونرى في الأسطورة نوعًا من الحب قد لا نراه في غير بلاد الشرق: ذلك الحب الذي يسوق رجلًا إلى امرأة لم يعرفها أو هو حب الرجل لفكرة المرأة المجردة!
figure
الجمال الفني: الشعر والموسيقى والتصوير (هدية الأستاذ الفنان عنايت الله إبراهيم).

وللأستاذ أبي شادي أسلوب خاص في الشعر قد لا يرضي طائفة من القراء والأدباء قد أولعت بالأناقة اللفظية، ولا بد لنا في هذه المناسبة من أن نحدد أثر هذا الأسلوب في كتابة الأوبرا، ولا نريد في الوقت نفسه أن نتعرض هنا لمناقشة وجوه الرأي في موقف تلك الطائفة وما هي عليه من خطأ أو صواب. أمامنا الآن قصة شعرية غنائية لم تُكتب لتُقرأ فقط بل لتظهر على المسرح وتكون قطعة فنية يشهدها الخاصة والعوام. هكذا يريد لها مؤلفها وغير مؤلفها: فهو يبغي قبل كل شيء أن يعرض أمام الناس فنًّا سائغًا مفهومًا سهلًا لا أن يجعلها معرض صناعة كلام، وطنطنة ألفاظ تعودنا أن نسمعها في كل شعر يقال في مصر، ولا نستثني من ذلك إلا أقلية الشعر الذي يكتبه المجددون … ومثل تلك الأساليب التي تُعْنَى بأدب الشكل في الصياغة اللفظية ولا يهمها الجوهر كفيلة بأن تميت بطريقتها أبرع فنون الأدب إذا ظهرت في ثوبها! وقام بسببها في أذهان الناس أن الشعر تَجَمُّلٌ وضربٌ من ضروب الشعوذة لا طائل من ورائه! ولم يجرَّ الشعر إلى هذا الحضيض وينفّر الناس منه في هذا البلد إلا ما درج عليه أغلب الشعراء من تقليد العرب وتأثرهم بمعاييرهم الأدبية فيما يسمونه بشرف الديباجة وجزالة اللفظ إلى أمثال تلك الدعاوى العريضة التي لا نسمع عنها في لغة أخرى غير اللغة العربية! فلمؤلف هذه القصة من جرأته في نبذ تلك التقاليد ما يجعل له فضلًا في إعطاء الشعر روحًا مصرية غير الروح العربية التي نزيفها، وقد قرب بذلك مسافة الخلف بين اللغة العربية وبين الروح العامة في لغة النشر والحديث، وأفاض عليها لونًا يتفق مع طريقة التمثيل وروح الغناء.

figure
الشاعر (هدية الأستاذ الفنان عنايت الله ابراهيم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤