كُثَيْر وعَزة

ليس يُعرف متى وُلد كثير، إنما المشهور أنه هلك في سنة ١٠٥ هجرية. وكان شاعرًا مغلقًا يُقرن إلى جرير والأخطل والفرزدق، وكان غاليًا في التشيع، يقول بالرجعة والتناسخ. وقد نسبه الأغاني، فذكر من جدوده امرأ القيس البطريق، وهذا يوهم أن أسرته كانت مسيحية قبل أن تدخل في الإسلام. وكان قصيرًا دحداحًا، وكان مع ذلك من أتيه الناس وأذهبهم بنفسه، قال بعضهم: «رأيت كثيرًا يطوف بالبيت، فمن حدَّثك أنه يزيد عن ثلاثة أشبار فكذبه. وكان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول له: طأطئ رأسك لا تصبه السقف.»

وقد نشأ في البادية التي بين المدينة ومكة، ومدح الخلفاء، وجُوزِي منهم بالتحف والألطاف.

وكانت صاحبته التي كان يشبب بها، وأكثر أشعاره فيها، تُدعى عزة. وقد روى القصاص قصته كما رووا سائر قصص المحبين في القرن الأول للهجرة، مثل جميل وبثينة، وقيس ولبنى، بشيء من التزويق والتحشية، حتى صار يشق على الناقد أن يَسْتَخْلص الحَبَّ من العُصافَة. والعجب في هؤلاء الرواة أنهم يسندون قصة خرافية، لا يمكن أن تُصدق، إلى أشخاص معروفين في التاريخ الإسلامي، حتى ليعجب الإنسان كيف وهم يزينون هذه الأباطيل بالأسانيد، ويدعمونها بنسبتها إلى الثقات، نقول كيف يوثق بهم في سائر ما نقلوه إلينا من حوادث التاريخ؟

وكان أول ما عُرف كثير عزة، أنه مر بنسوة ومعه جلب غنم، فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة، فقالت: يقلن لك النسوة بعنا كبشًا من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه إلى أن ترجع. فأعطاها كبشًا وأعجبته. فلما رجع جاءت امرأة منهن بدراهمه، فقال: وأين الصبية التي أخذت مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها؟ هذه دراهمك. قال: لا آخذ دراهمي إلا ممن دفعت الكبش إليها. وخرج وهو يقول:

قضى كل ذي دين فوفى غريمه
وعزة مَمْطول مُعَنًّى غَريمُها

وأخذ من ذلك الوقت يتعشقها ويتغزل بها، يؤلِّف القصائد في وصفها ومدحها. وقد روت قسيمة الأسلمية قالت: «سارت علينا عزة في جماعة من قومها، فسمعنا بها، فاجتمعت جماعة من نساء الحضر أنا فيهن، فجئناها فرأينا امرأة حلوة حميراء نظيفة، فتضاءلنا لها. ومعنا نسوة كلهن لها عليهن فضل من الجمال والخلق، إلى أن تحدثت ساعة، فإذا هي أبرع الناس وأحلاهم حديثًا. فما فارقناها إلا ولها علينا الفضل في أعيننا. وما نرى في الدنيا امرأة تروقها جمالًا وحسنًا وحلاوة.»

ولم يتزوجها كثير لتلك العادة التي أشرنا إليها، وهي أن العرب كانت تستقبح تزويج بناتها لمن يشبب بهن. وكانت على الرغم من زواجها تلتقي خلسة بكُثير، فيطفئ نار شوقه، ويؤلف القصائد يبترد بها من غليل الحب.

روى كُثير قال: «حججت سنة من السنين، وحج زوج عزة بها، ولم يعلم أحد منا بصاحبه، فلما كنا ببعض الطريق أمرها زوجها بابتياع سمن لتحضير طعام لأهل رفقته، فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتى دخلت إليَّ وهي لا تعلم أنها خيمتي. وعرفته وأخذت منه السمن. وعرف زوجها أنها رأت كُثيرًا، فأمرها أن تعود إليه وتشتمه، فذهبت وقالت وهي تبكي: يا ابن الزانية. ثم انصرفا.

ووضع كثير قصيدة عن هذا اللقاء قال فيها عن هذا الزوج:

يكلفها الخنزير شتمي وما بها
هواني ولكن للمليك استذلت

وبعض الرواة ينكر على كثير إخلاصه في حبه عزة؛ فقد قال أبو خليفة: كان كُثير مدعيًا ولم يكن عاشقًا، وكان جميل صادق الصبابة والعشق. وروى الأغاني هذه القصة عنه:

ومما وجدناه في أخباره ولم نسمعه من أحد أنه نظر إلى عزة ذات يوم وهي منتقبة تميس في مشيتها، فلم يعرفها كثير فاتبعها، وقال: يا سيدتي قفي حتى أكلمك، فإني لم أرَ مثلك قط. فمن أنت ويحك؟ قالت ويحك! هل تركت عزة فيك بقية لأحد؟ فقال: بأبي أنت والله لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك. قالت: هل لك في المخاللة؟ قال: وكيف لي بذلك؟

فسفرت عن وجهها، ثم قالت: أغدرًا يا فاسق، وإنك لهكذا؟ فأُبلس ولم ينطق. وتأثر من هذه الحادثة، وقال فيها هذه الأبيات:

ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي
من السم خضخاض بماء الذراح
أقمت ولم تعلم على خيانة
وكم طالب للربح ليس برابح

ومات كثير، فما تخلفت امرأة بالمدينة عن جنازته. وكن يندبن، ويذكرن عزة في ندبهن.

وعاشت عزة بعده مدة، ويُقال إنه لما شاعت أشعار كثير وصار المغنون يتغنون بها، وجرى ذكره وذكر عزة في سمر عظماء الدولة، طلب عزة عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، فلما مثلت بين يديه، وكانت عجوزًا، قال لها: «أنت عزة كثير التي يقول فيها:

لعزة نار ما تبوخ كأنها
إذا ما رمقناها من البعد كوكب

فما الذي أعجبه منك؟»

فقالت عزة: «كلا يا أمير المؤمنين، فوالله لقد كنت في عهده أحسن من النار في الليلة القرة.»

فقال الخليفة: «هل تروين قول كثير فيك:

وقد زعمت أني تغيرت بعدها
من ذا الذي يا عز لا يتغير؟
تغير جسمي والخليفة كالتي
عهدت ولم يخبر بسرك مخبر»

فقالت عزة: «ولكني أروي قوله:

كأني أنادي صخرة حين أعرضت
من الصم لو تمشي بها العصم زلت
صفوحًا فما تلقاك إلا بخيلة
فمن مل منها ذلك الوصل ملت»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤