الفصل العاشر

قالت العمة لين: «أفترض أنك تعرفُ ما تفعله، يا عزيزي لكني لا أستطيع منع نفسي من التفكير في أنه من الغريب للغاية الدفاعُ عن أشخاصٍ مثل هؤلاء.»

قال روبرت بتروٍّ شديد: «أنا لا «أدافع» عنهما. بل أنا أُمثِّلهما. وليس هناك دليلٌ أيًّا كان يُثبت أنهما «أشخاصٌ مثلُ هؤلاء».»

«هناك أقوال الفتاة، يا روبرت. لا يمكن لها أن تكون قد اختَلقَت القصة كلها.»

«عجبًا، ألا يمكن لها؟!»

«ما الفائدة التي قد تعود عليها من سردِ أكاذيبَ كثيرة!» كانت تقف في مدخل باب غرفته تُمرر كتاب الصلوات من يدٍ إلى اليد الأخرى وهي ترتدي قُفازَيها الأبيضَين. وأضافت: «ما هو الشيء الآخر الذي من الممكن أنها كانت تفعله إذا لم تكن في منزل فرنتشايز؟»

منع روبرت نفسه من أن يقول: «ستُفاجَئين!» من الأفضل دائمًا مع العمة لين أن تتبع الطريق الأسهل.

أرجعت قفازَيها برفق إلى مكانهما. «إن كان الأمر مجردَ أنك تتصرفُ بنُبلٍ يا عزيزي روبرت، فلا بد عليَّ أن أقول إنك مُخطئ. وهل عليك أن تذهبَ إلى ذلك «المنزل»؟! بالتأكيد ربما تأتيان إلى المكتب غدًا. لا يُوجَد ما يدعو إلى العجَلة، أليس كذلك؟ إن الأمر ليس كأنَّ شخصًا ما سيقبض عليهما في الحال.»

«كان اقتراحي أن أذهبَ إلى منزل فرنتشايز. إذا اتَّهمَكِ شخصٌ ما بسرقة أشياءَ من على نضد متجر وولوورث ولم يكن بإمكانك دحضُ التهمة، فلا أعتقد أنك ستستمتِعين بالسير في هاي ستريت في ميلفورد في وضح النهار.»

«ربما لا أُحب ذلك، لكني قطعًا يجب أن أفعلَه، وأوبِّخ السيد هينسيل.»

«مَن هو السيد هينسيل؟»

«المدير. هل بإمكانك أن تُرافقني إلى الكنيسة أولًا ثم تذهبَ إلى منزل فرنتشايز؛ لقد مضى وقتٌ طويل منذ أن ذهبتَ إلى هناك يا عزيزي.»

«إذا بقيتِ هنا أطولَ من ذلك فستتأخَّرين لأول مرة خلال العشر سنواتٍ الماضية. اذهبي وصلِّي أن يكون حُكمي صائبًا.»

«سأُصلِّي لك قطعًا يا عزيزي. أُصلِّي لك دائمًا. وكذلك سأَزيد عليها صلاةً صغيرة لنفسي. كل هذا سيصير في غاية الصعوبة بالنسبة إلي.»

«بالنسبة إليكِ؟»

«الآن ما دمتَ تُمثل هاتين السيدتَين فلن أستطيع أن أُثرثر عن الأمر مع أيِّ أحد. وهذا أمرٌ مُثير للجنون تمامًا يا عزيزي، أن تجلس صامتًا وتسمع الجميع يحكي عن حقائقَ مؤكدةٍ أنت متأكد أنها خاطئة. الأمر يُشبه أن تريد التقيُّؤَ لكن عليك تأجيله. أوه، يا عزيزي، لقد توقَّفَت الأجراس، أليس كذلك؟ عليَّ أن آخُذ مكانًا في مقعد آل براكتس. لن يُمانعوا. أنت لن تبقى في ذلك المكان حتى الغداء، أليس كذلك يا عزيزي؟»

«لا أعتقد أني سأُدعى إلى الغداء.»

لكنَّ استقباله بترحاب في منزل فرنتشايز كان وَدودًا للغاية حتى إنه شعَر بأنه محتمل بدرجةٍ كبيرة أن يُدعى في نهاية الأمر. لكنه بالطبع كان سيرفض؛ ليس لأن دجاجة العمَّة لين كانت في الانتظار، بل لأن ماريون شارب ستكون مرغَمةً على غسل الصحون فيما بعد. عندما لا يُوجَد أي أحدٍ هناك فربما كانتا تأكلان من الصواني مباشرة. أو تمكثان في المطبخ، فالجميع عرَف ذلك.

قالت ماريون، مُعتذرةً مرةً أخرى: «أعتذر عن امتناعنا عن الردِّ على الهاتف الليلةَ الماضية. لكن بعد المرة الرابعة أو الخامسة كان الأمر مُبالغًا فيه. ولم نتوقَّع أنك تحمل أخبارًا في غضون مدةٍ قصيرة. ففي نهاية الأمر لم تكن قد بدأت إلا بعد ظهر يوم الجمعة.»

«المتَّصلون بالهاتف: أكانوا رجالًا أم نساءً؟»

«رجلٌ، وأربعُ نساء، بقدْر ما أتذكَّر. عندما اتصلتَ صباح اليوم ظننتُ أنها كانت بدايةَ الاتصالات مرةً أخرى، لكن يبدو أنهم ناموا في ساعةٍ متأخرة. أو ربما أن الشرَّ لا يأتيهم قبل المساء بمدةٍ كبيرة. لقد مثَّلنا بلا شكٍّ حفلةً ترفيهية مساءَ يوم السبت لشباب الريف. لقد احتشَدوا في مجموعةٍ داخل البوابة وانهالوا بمُضايقات كلامية. ثم وجد نيفيل لوحًا من الخشب في المبنى الصغير الملحق بالمنزل …»

«نيفيل؟»

«أجل، ابن أخيك. أقصد، ابن عمك. جاء ليُقدم ما أسماه زيارةَ مواساة، وهو ما كان لطفًا منه. فوجد لوحًا يمكن تثبيته في البوابة ليُبقيها مغلقة؛ ليس لدَينا أيُّ مفتاح، كما تعلم. لكن ذلك بالطبع لم يمنعهم مدةً طويلة. رفع بعضُهم بعضًا إلى الأعلى على السور، وجلَسوا هناك في صفٍّ مُنهالين علينا بالإهانات حتى حان موعدُ انصرافهم إلى الفراش.»

قالت السيدة شارب العجوز مُتأمِّلة: «عدم التربية أمرٌ سيء بشدة عند إهانة الآخرين. لا فطنة لديهم على الإطلاق.»

قال روبرت: «وليس لديهم مَن يقتدون به. لكنهم مُستفِزُّون بما يكفي. لا بد أن نرى أيَّ وسيلةِ حماية يُمكننا المطالبةُ بها من الشرطة. وبالمناسبة سأُخبرك بشيءٍ لطيفٍ عن ذلك السور. أعرف كيف تطلَّعَت الفتاة من فوقه.»

أخبرَهُما عن زيارته إلى السيدة تيلسيت واكتشافه أنَّ الفتاة كانت تُسلِّي نفسها بجولةٍ في الحافلة (أو قالت إنها فعلَت ذلك)، ثم عن زيارته بعد ذلك إلى مَرْأب شركة لاربورو آند ديستريكت موتور سيرفيسز.

«في الأسبوعين اللذين كانت الفتاةُ خلالهما في مينشيل حدث عُطل لحافلتَين ذواتَي طابق واحد كان مقرَّرًا لهما السيرُ على طريق ميلفورد؛ في كل مرة كان لا بد أن يُستبدَل بكل منهما حافلةٌ ذات طابقَين. لا يُوجَد سوى ثلاث ورديَّات للعمل لكل اتجاهٍ يوميًّا، كما تعرفان. وفي كل مرةٍ حدث فيها عطلٌ في الحافلة المقرَّرِ لها السيرُ كان في ورديَّة عملِ منتصف اليوم. وبهذا فهناك مرَّتان على الأقل خلال هذين الأسبوعين كان ممكنًا أنها قد رأت فيهما المنزل والفِناء، وأنتما الاثنان، والسيارة، جُملة واحدة.»

«لكن هل يمكن لأيِّ أحدٍ يمرُّ وهو في الطابَق العُلوي من الحافلة أن يُطيل النظر في الداخل لهذا الحد؟»

«هل سبق لكِ أن سافرتِ على الطابق العلويِّ لحافلة على خط الريف؟ حتى عندما تسير الحافلة على سرعةٍ ثابتة تصل إلى خمسةٍ وثلاثين، فإن السرعة تبدو بطيئة. ما يمكنك رؤيته لمسافة بعيدة هو كثيرٌ للغاية، ويمكنك رؤيته مدةً أطولَ كثيرًا. في الأسفل، يُلامس السياجُ النافذةَ ويبدو أن السرعة مناسبةٌ لأن الأشياء أصبحَت أكثر قربًا. هذا أمر. أما الأمر الآخَر فهو أنها تتمتَّع بذاكرةٍ فوتوغرافية.» ثم أخبرَهما بما كانت السيدة وين قد قالته.

سألت السيدة شارب: «هل نخبر الشرطة عن هذا؟»

«لا. هذا لا يُثبت أي شيء؛ ليس إلا أنه يحلُّ مسألةَ كيف أنها عرَفَت عنكما. عندما احتاجت إلى حُجةٍ لغيابها تذكَّرَتكما، وجازفَت بعدم قدرتكما على إثبات أنكما كنتما في مكانٍ آخر. بالمناسبة، عندما تُحضرين سيارتك إلى الباب، أي جانب من السيارة يصبح الأقربَ إلى الباب؟»

«إما أن أُحضِرها بالقُرب من المَرأب أو إلى الداخل من الطريق فيصبح الجانبُ الأقرب من السيارة مجاورًا إلى الباب؛ لأنه بهذا يصبح من الأسهل إخراجُها.»

قال روبرت على نحوٍ قاطع: «أجل؛ وبذلك فالجانب القريب، ذو الطلاء الأغمقِ على العجَلة الأمامية، يُصبح مواجهًا للبوابة.» ثم تابع قائلًا: «تلك هي الصورة التي رأتها. العُشب والمسار المُنقسِم، والسيارة أمام الباب يظهر منها العجَلة المختلفة، والسيدتان — كلٌّ منهما على حِدَة — والنافذة الدائرية في العلية. لم يكن عليها سوى أن تنظر إلى الصورة في ذِهنها وتَصِفَها. اليوم الذي كانت تستخدم فيه الصورة — اليوم الذي من المفترض أنها كانت قد خُطفت فيه — كان منذ ما يزيد على شهر ورأت أنه احتمال مُستبعَد أن تتمكَّنا من قول ما كنتما قد فعلتماه أو أين كنتما في ذلك اليوم.»

قالت السيدة شارب: «وأعتقد أن احتمالاتِ معرفة ما قد فعلَته أو أين كانت في ذلك الشهر ضعيفةٌ للغاية.»

«الاحتمالات ضعيفة، هذا صحيح. وكما أشار صديقي كيفين ماكديرموت الليلةَ الماضية، فلا شيء يَعوق كونَها قد كانت في سيدني بولاية نيو ساوث ويلز. لكني بدرجةٍ ما أكثرُ تفاؤلًا اليوم عمَّا كنتُ عليه يوم الجمعة صباحًا. لقد أصبحنا نعرف أمورًا كثيرة عن الفتاة الآن.» ثم أخبَرهما عن مقابلاته في إيلزبري ومينشيل.

«لكن إذا لم تكشف تحقيقاتُ الشرطة عمَّا كانت تفعله خلال ذلك الشهر …»

«إن تحريات الشرطة كُرِّست للتحقُّق من صحة إفادة الفتاة. فهم لم يبدَءوا، مثلما نبدأ، من مُنطلَق أن روايتها غيرُ حقيقية من أولها لآخرها. لقد أخذوا يتفحَّصونها بدقة شديدة. لم يكن لديهم أي سبب دقيق للشك فيها. كانت لها سمعةٌ نزيهة، وعندما تحدثوا مع عمَّتِها عن كيفية قضاء إجازتها وجدوا أنها قضَتْها في زيارات بريئة إلى السينما وجولات بحافلة البلدة.»

سألت السيدة شارب: «وكيف تعتقد أنها قضتها؟»

«أظنُّ أنها قابلت شخصًا ما في لاربورو. وذلك، على أي حال، هو التفسير الواضح. ومن تلك الفرضية أظن أنه يجب علينا أن نبدأ أي تحريات.»

سألت السيدة شارب: «وماذا سنفعل بخصوص توكيل مُحقِّق خاص؟» وأضافت: «هل تعرف أحدًا؟»

قال روبرت، مترددًا: «حسنًا، كان قد خطر ببالي أنكِ ربما تسمحين لي بمواصلة التحريات بنفسي أكثرَ من ذلك قليلًا قبل أن نُشرك مُحققًا محترفًا في الأمر. أعرف أن …»

قالت السيدة العجوز، مقاطعةً له: «سيد بلير، لقد استُدعِيت إلى تلك القضية المزعجة من دون إنذار، ولا يمكن أنه كان بمحض إرادتك تمامًا؛ وكان غايةً في اللطف منك أن تبذل قصارى جهدك من أجلنا. لكننا لا يمكن أن نتوقَّع منك أن تجعل نفسك مُحققًا خاصًّا لحسابنا. لسنا من الأغنياء — في الواقع نملك أقلَّ القليل لنعيش به — لكن ما دام لدينا مالٌ بأي حالٍ من الأحوال فسندفع مقابل الحصول على الخدمات المناسبة. ومن غير المناسب أن تجعل من نفسك — ما الكلمة اللائقة؟ — مثلَ سكستون بليك لمصلحتنا.»

«ربما هذا من غير المناسب لكن الأمر يروق لي كثيرًا. صدِّقيني، يا سيدة شارب، لم أكن قد خطَّطتُ لذلك بأي تفكيرٍ مقصود لأوفِّر مالَكِ. فبينما أنا عائدٌ إلى منزلي في السيارة الليلةَ الماضية، وفي غاية السعادة مما كنتُ قد حقَّقته إلى هذا الحد، أدركت إلى أي مدًى عليَّ أن أبغض التخلِّيَ عن مهمة البحث إلى شخصٍ آخر. لقد أصبح الأمر بحثًا شخصيًّا. أرجوك لا تُثبطي عزيمتي في مسألة …»

قاطعَته ماريون: «إذا كان السيد بلير مستعدًّا لمواصلة الأمر مدة أطولَ قليلًا، فأعتقد أن علينا أن نشكره من القلب ونقبل. أعرف تمامًا بمَ يشعر. أتمنَّى لو كان بوسعي أن أبحث بنفسي.»

«ليس هناك شكٌّ أنه سيحين وقتٌ أُحيل فيه البحثَ إلى مُحقِّق مناسب سواء شئتَ أم أبيتَ. إذا قادت الخيوطُ إلى مكانٍ أبعدَ من لاربورو، على سبيل المثال. فلديَّ الكثير من الالتزامات الأُخرى تمنعني من متابعة البحث في مكانٍ بعيد. لكن ما دام البحث في نطاقٍ قريب منَّا فإني أريد حقًّا أن أكون الشخصَ الذي يُتابعه.»

سألت ماريون، باهتمام: «كيف خطَّطت لمتابعة البحث؟»

«حسنًا، كنت قد فكَّرت أن أبدأ بالأماكن التي تُقدِّم الغداء الخفيف مع القهوة. أقصد في لاربورو. لسببَين، الأول أنه من غير الممكن أن يُوجَد الكثيرُ منها. والسبب الآخر، نحن نعلم تمامَ العلم، على أي حال في البداية، أن ذلك كان نوعَ الغداء الذي تتناوله.»

سألت ماريون: «لمَ تقول «في البداية»؟»

«بمجرد أنها التقَت بالشخص الافتراضيِّ «س»، فربما أصبحَت تتناول الغداء في أي مكانٍ آخر. لكن حتى ذلك الحين دفعَت مقابل وجبات الغداء الخاصة بها، وكانت وجباتٍ «خفيفةً». تُفضل فتاةٌ في ذلك العمر أن تتناول غداءً مكوَّنًا من كعكةٍ على أي حال، حتى لو كانت تمتلك مالًا يكفيها للحصول على وجبة مكوَّنة من صِنفَين. لهذا سأركِّز على الأماكن التي تقدم الغداء الخفيف مع القهوة. سأعرض صحيفةَ «أك-إيما» على النادلات وأكتشفُ ببراعةِ محامٍ ريفيٍّ ما إذا سبق لهنَّ أن رأينَ الفتاة في مطاعمهن. أذلك يبدو منطقيًّا لكِ؟»

قالت ماريون: «منطقيٌّ للغاية.»

استدار روبرت إلى السيدة شارب. «لكن إذا كنتِ تعتقدين بأنه سيكون من الأفضل أن يعمل على الأمر مُحققٌ محترف — وهذا من الممكن للغاية — فسأنسحِب إذن مع …»

قالت السيدة شارب: «لا أعتقد أن هناك مَن هو أفضل منك كي يعملَ لحسابنا». وتابعَت: «لقد عبَّرتُ عن تقديري بالفعل للمجهود الذي بذلتَه نيابةً عنَّا. وإذا كان يسرُّك أن تصطاد هذه … هذه …»

فأجاب روبرت بسعادة: «الدمية الصغيرة.»

عدَّلَت السيدة شارب: «اللَّعُوب الصغيرة، فيُمكننا إذن أن نُصبح مُوافِقِين وشاكرين. لكن يبدو لي احتمال أن يطول الطريق كثيرًا.»

«لمَ قد يكون طويلًا؟»

«ثمة فجوة زمنيَّة كبيرة، كما يبدو لي، بين الالتقاء بالشخص الافتراضيِّ «س» في لاربورو، والسَّير نحو منزلٍ بالقُرب من إيلزبري وهي لا ترتدي شيئًا سوى فستانٍ وحذاء وقد ضُرِبَت ضربًا حقيقيًّا وبشدة. يا ماريون، لا يزال لدَينا بعضٌ من النبيذ الإسباني، أظن ذلك.»

خلال مدة الصمت التي تبِعَت مغادرةَ ماريون لإحضار النبيذ صار سكونُ المنزل العتيق واضحًا. لم يكن هناك أيُّ وجودٍ للأشجار في الفِناء حتى تُحدِث ضجيجًا طفيفًا في مهبِّ الريح، ولا أيُّ طيور حتى تُزقزق. كان السكون مُطبِقًا مثل سكون مدينةٍ صغيرة في منتصف الليل. تساءل روبرت، أكانت الحياةُ هادئةً بالنسبة إليهما بعد الحياة الصاخبة في بنسيون؟ أم كانت موحِشةً ومُخيفة قليلًا؟

كانتا قد قدَّرَتا خصوصية المكان، مثلَما أوضحَت السيدة شارب العجوز في مكتبه صباح يوم الجمعة. لكن أكانت حياةً سعيدة متقوقعة خلف الأسوار المرتفعة في ذلك السكون الدائم؟

قالت السيدة شارب: «يبدو لي أن الفتاة جازفَت مجازفةً كبيرة باختيار منزل فرنتشايز، وهي لا تعلم أيَّ شيءٍ عنه أو ظروفه.»

قال روبرت: «بالطبع، جازفَت.» ثم تابع قائلًا: «وكان عليها أن تفعل ذلك. لكني لا أعتقد أنها كانت مُجازَفةً كبيرة كما تعتقدين.»

«أتظن ذلك؟»

«نعم. ما تقولينه هو أنه رغم كلِّ ما تعرفه الفتاةُ عن منزل فرنتشايز فمن الممكن أنه يسكن به عائلةٌ كبيرة من أفرادٍ شباب وثلاثِ خادمات.»

«أجل.»

«لكني أظنُّ أنها عرَفَت تمامَ المعرفة أنه لم يكن هناك مثلُ ذلك الأمر.»

«كيف تمكَّنت من ذلك؟»

«إما أنها ثرثرَت مع محصِّل الحافلة، أو أنها — وأظنُّ أن هذا محتملٌ بدرجة أكبر — استرَقَت السمع لتعليقٍ من الركاب المُستقلِّين معها. شيء من قبيل: «تسكن هناك السيدتان شارب. تعيشان حياةً مترفة في منزلٍ كبير مثل ذلك، ليس سواهما بالمنزل. ولا تُوجَد خادمةٌ على استعداد أن تمكث في مكانٍ موحِش بعيدٍ للغاية عن المتاجر والسينما …» وهكذا. إنها حافلةٌ «محلِّية» إلى أقصى درجة، حافلة لاربورو-ميلفورد. وإنه طريقٌ وحيد، من دون أكواخٍ على جانب الطريق، ولا قرى عدا هام جرين. لذلك فإن منزل فرنتشايز هو البؤرة الوحيدة لاهتمام البشر على امتداد أميال. إن الأمر يفوق طبيعةَ البشر أن يَقدروا على تجاوُزِ اهتمامٍ جماعي تجاه المنزل والمالكتَين وسيارتهما، من دون تعليقاتٍ من هذا النوع.»

«فهمت. أجل، هذا منطقي.»

«أتمنَّى، بطريقةٍ أو بأُخرى، أنها كانت قد عرَفَت عنكما من خلال محادثةٍ مع محصِّل الحافلة. بتلك الطريقة، سيَزيد احتمال أنه سيتذكَّرها. تقول الفتاة إنها لم تزُرْ ميلفورد قط ولا تعلمُ أين تقع. إذا تذكَّرها محصلُ الحافلة، فسيُصبح بإمكاننا على الأقل التشكيكُ في قصتها بهذا الخصوص.»

«إذا كنتُ أعرف أي شيء عن الفتاة، فستفتح عينَيها الطفوليتَين تلك وتقول: «يا إلهي، أكانت تلك ميلفورد؟ لقد صعدتُ الحافلة ثم وصلتُ إلى المحطة الأخيرة ورجعت».»

«أجل. هذا لن يُقصيَنا كثيرًا. لكن إذا فشلتُ في تعقُّب أثر الفتاة في لاربورو، فسأحاول عرض صورتها على المُحصِّلين المَحليِّين. أتمنَّى حقًّا أنها كانت إنسانةً يسهل تذكرها.»

غشِيَهما السكونُ مرةً أخرى بينما كانا يتفكَّران في طبيعة بيتي كين التي لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة.

كانا يجلسان في قاعة الاستقبال، أمام النافذة، يتطلَّعان إلى الخارج في اللون الأخضر للفِناء الذي كان على شكل مُربع، واللونِ الورديِّ الباهت للسور من الطوب. وبينما كانا يُحدقان دُفعَت البوابة على مِصراعَيها وظهرَت مجموعةٌ صغيرة من سبعة أو ثمانية أشخاص والذين وقَفوا يُحدِّقون. كانوا على راحتهم تمامًا؛ يتبادلون الإشارة فيما بينهم على النقاط البارزة موضع اهتمامهم — بدا واضحًا أن النقطة المُفضَّلة إليهم كانت النافذةَ الدائرية في سطح المنزل. إذا كان منزل فرنتشايز قدَّم للشباب الريفي الليلة الماضية الأمسيةَ الترفيهية ليوم السبت، فإنها في تلك اللحظة، هكذا، على ما يبدو، تُقدِّم عرضًا صباحيًّا في يوم الأحد لأهل لاربورو. وبالطبع كان ينتظرهم خارج البوابة سيارتان، إذ إن نساء الحفل كنَّ يرتدين أحذيةً صغيرة سخيفة، وفساتينَ تُرتدَى داخل المنزل.

نظر روبرت إلى السيدة شارب، فلم تكن قد تحرَّكَت إلا لتضييق فمِها البغيض دائمًا.

قالت أخيرًا، بازدراء: «جمهورنا.»

قال روبرت: «هل لي أن أذهبَ وأُبعِدَهم؟» وتابع: «إنه خطَئي أني لم أُعِد الحاجزَ الخشبي الذي أزلتماه من أجلي.»

قالت: «دَعْهم.» ثم تابعَت قائلة: «سينصرفون بعد قليل. هذا ما يغضُّ النبلاءُ الطرْفَ عنه يوميًّا؛ يُمكننا أن نحتمل ذلك دقائقَ معدودات.»

لكن لم يظهر من الزائرين أيُّ دليلٍ على الانصراف. في الواقع، تحرَّكَت مجموعةٌ واحدة حول المنزل لمعاينة المبنى من الخارج، أما البقية فما زالوا هناك عندما عادت ماريون بالنبيذ. اعتذر روبرت مرةً أخرى عن إغفاله تثبيتَ اللوح الخشبي. كان يشعر بضآلته وعدم جدارته. إذ ليس من الطبيعي أن يظلَّ جالسًا في هدوءٍ ويُراقب الدخلاءَ وهم يتجوَّلون خِلسةً كما لو أنهم امتلَكوا المكان أو كانوا يُمعنون النظر فيه لشرائه. لكن إذا خرَج وطلب منهم الانصراف ورفَضوا ذلك، ما الصلاحية التي كانت لدَيه لتُجبرهم على الانصراف؟ وكيف سيبدو في نظر السيدتَين شارب لو أنه عاد منسحبًا إلى المنزل وترك هؤلاء الناس مسيطرين على المكان؟

عادت مجموعةُ المُستكشفين من جولتهم ونقَلوا بضحكٍ وإيماءاتٍ ما كانوا قد رأَوه. سمع ماريون تقول شيئًا بصوتٍ هامس فتساءل إن كان سِبابًا. كانت تبدو مثل سيدة لها خبرةٌ ضئيلة في السِّباب. كانت قد وضعَت صينيةَ النبيذ وبدا واضحًا أنها أغفلَتها؛ لم يكن الوقتُ مناسبًا للضيافة. تمنَّى بشدةٍ أن يفعل شيئًا حاسمًا ومذهلًا ليُرضيَها، تمامًا مثلما كان قد رغب بشدةٍ في إنقاذ الفتاة التي أحبَّها من أحد المباني المُحترقة لمَّا كان في الخامسة عشرة من عمره. لكن بكل أسف، لا شيء يعلو على حقيقةِ أنه صار في الأربعينيات من عمره، وكان قد تعلم أنه من الأكثر حكمةً انتظارُ سُلَّم الإنقاذ.

بينما كان مترددًا، وغاضبًا من نفسه ومن هؤلاء الكائنات الوقحةِ في الخارج، وصل سلَّمُ الإنقاذ في هيئة رجل شاب طويل يرتدي بدلة صارخة من صوف التويد.

همست ماريون، وهي تُراقب المشهد: «نيفيل.»

تفحَّص نيفيل المجموعةَ بأقصى إحساسٍ لا يُحتمَل من التعالي، وبدا أنهم انكمَشوا قليلًا، لكنهم أصرُّوا بوضوحٍ على البقاء في أماكنهم. في الواقع، كان الرجل ذو السترة الرياضية والبنطال المُخطَّط يتأهَّب بوضوحٍ لصُنع مشكلة.

نظر نيفيل إليهم في صمتٍ بضعَ ثوانٍ ثم فتَّش في جيبه الداخلي عن شيء. عند الحركة الأولى ليدَيه طرأ اختلافٌ غريبٌ على المجموعة. الأفراد في النطاق الأبعدِ ابتعَدوا ثم اختفَوا متوارِين عن النظر من البوابة، أما الأكثر قربًا ففقَدوا إحساسهم بالتبجُّح، وأصبَحوا لطفاء. في النهاية قام الرجل ذو السترة الرياضية بحركاتٍ صغيرة رافضة للاستسلام ثم انضمَّ إلى المنسحِبين من البوابة.

دفَع نيفيل البوابة بقوةٍ وراءهم، ورفع اللوح الخشبي إلى مكانه، ثم اقترب من المسار المؤدِّي إلى الباب ماسحًا يدَيه بدقةٍ بالغة في منديلٍ صارخ اللون حقًّا. فركَضَت ماريون خارج المنزل لمقابلته.

سمعَها روبرت وهي تقول: «نيفيل!» ثم أضافت قائلة: «كيف فعلتها؟»

سأل نيفيل: «فعلت ماذا؟»

«تخلَّصتَ من هؤلاء الأشخاص.»

قال نيفيل: «حسنًا، سألتهم فحسبُ عن أسمائهم وعناوينهم.» ثم تابع قائلًا: «ليس لديك أيُّ فكرة كيف يتبدل حالُ الأشخاص الحذِرين إذا أخرجتِ مفكرةً وسألتِهم عن أسمائهم وعناوينهم. إنه المقابل العصري لعبارة: «اهرب، انكشَف كل شيء». فلا ينتظرون حتى يسألوا عن إثباتاتٍ لشخصيتك في حال أنه ربما لديك أيٌّ منها. مرحبًا، روبرت. صباح الخير، يا سيدة شارب. في الواقع أنا في طريقي إلى لاربورو، لكني رأيتُ البوابة مفتوحةً وهاتَين السيارتَين المُخيفتَين في الخارج؛ لهذا توقفت لأتحقَّق من الأمر. لم أعرف أن روبرت هنا.»

هذا التلميح البريء تمامًا بأن روبرت بالطبع كان قادرًا على التعامُل مع الموقف بالكفاءة نفسِها كانت إهانةً لا تُحتمل. كان من الممكن لروبرت أن يوسِعَه ضربًا على رأسه.

قالت السيدة شارب: «حسنًا، بما أنك هنا الآن وقد خلَّصتنا ببراعةٍ من المُزعِجين فلا بد أن تبقى وتشربَ كأسًا من النبيذ.»

قال نيفيل: «هل بإمكاني المجيءُ في طريق عودتي إلى المنزل في المساء؟» وتابع: «أنا في طريقي لتناول الغداء مع حما المستقبل، ولأن اليوم هو الأحد فهناك شعائر. لا بد لي من الحضور من أجل الاستعداد.»

قالت ماريون: «بالطبع تعالَ في طريق عودتك إلى المنزل». وأضافت: «سيسرُّنا ذلك. كيف سنعرف أنه أنت؟ أقصد من أجل فتح البوابة.» كانت تصبُّ النبيذَ وتُناوله لروبرت.

«أتعرفين شفرة مورس؟»

«أجل، لكن لا تقُل لي إنك تعرفها.»

«لمَ لا؟»

«تبدو مُستبعدًا تمامًا عن كونك مولعًا بشفرة مورس.»

«أوه، عندما كنتُ في الرابعة عشرة من عمري كنتُ أُمارس هواية الإبحار، تعلَّمت في أوج طموحي الكثيرَ من الحماقات بمحض الصدفة. وشفرة مورس كانت واحدةً منها. سأصيح بالحروف الأولى من اسمك الجميل على بوق السيارة، عند الوصول. مرتَين طويلتَين وثلاثَ مراتٍ قِصار. لا بد أن أرحلَ سريعًا. إن فكرة التحدث إليك الليلة ستدعمُني خلال الغداء في مطعم سينما بالاس.»

سأل روبرت، مسيطرةً عليه نفسُه الدنيئة: «ألا تمثل روزماري أيَّ دعمٍ لك؟»

«لا أظن ذلك. في أيام الأحد فإن روزماري هي ابنةٌ في منزل أبيها. وذلك دورٌ لا يُناسبها. إلى اللقاء سيدة شارب. لا تسمحي لروبرت بشرب النبيذ كله.»

سمع روبرت ماريون تسأل بينما كانت تُرافقه إلى الباب: «ومتى قررتَ التوقف عن ممارسة الإبحار؟»

«عندما كنتُ في الخامسة عشرة من عمري. بدأتُ ممارسة هواية ركوب المنطاد بدلًا من ذلك.»

«نظريًّا، أفترض ذلك.»

«حسنًا، كنتُ شَغوفًا بالغازات.»

تساءل روبرت، لِمَ يبدُوان متوادَّين لهذه الدرجة، ويرتاح كل منهما للآخر غاية الارتياح. وكأنهما قد عرَف كلٌّ منهما الآخَرَ منذ مدة طويلة. لمَ أُعجِبَتْ بنيفيل التافه ذلك؟

«ولمَّا كنتُ في السادسة عشرة من عمرك؟»

لو أنها عرَفَت كم الأمور التي كان نيفيل قد بدَأ في ممارستها ثم أقلعَ عنها في ذلك الوقتِ من عمره، ربما لم يكن يسرُّها أن تُصبحَ أحدَثَها.

سألت السيدة شارب: «ألا يُعجبك مذاقُ النبيذ يا سيد بلير؟»

«بلى، بالطبع بلى، شكرًا لك، فمذاقه ممتاز.» هل كان ممكنًا أنه قد بدا نَكِدًا؟ لا سمح الله.

اختلس نظرةً على السيدة العجوز فظن أنها كانت تبدو مُستمتعةً قليلًا. وعندما تصبح السيدة شارب العجوز مُستمتعةً فهذا منظر غير مريح.

فقال: «أظن أنه من الأفضل أن أنصرفَ قبل أن تُغلِق الآنسة شارب البوابةَ بالحاجز الخشبي خلف نيفيل. وإلا ستحتاج إلى أن تصل إلى البوابة مرةً أخرى معي.»

«لكن ألن تبقى وتتناولَ الغداء معنا؟ ليس هناك طقوسٌ بشأن الغداء في منزل فرنتشايز.»

لكن قدَّم روبرت اعتذاره. فلم تُعجبه شخصية روبرت بلير التي أصبح عليها. تافه، ذو تصرفات طفولية وغير كفء. لذا سيعود ويتناول غداءه المعتادَ ليوم الأحد مع العمة لين ويستعيدُ من جديدٍ شخصية روبرت بلير المحامي في مكتب بلير هيوارد وبينيت، الرصين المتسامح المتصالح مع عالمه.

كان نيفيل قد رحل في الوقت الذي وصل فيه روبرت إلى البوابة، في صخبٍ مفاجئ كسر ذلك الهدوء المريح، وكانت ماريون على وشك أن تغلق البوابة.

قالت وهي تتبع بنظراتها ذلك الشيء الصاخبَ أثناء انطلاقه بسرعة البرق على الطريق: «لا أتخيَّل أن الأسقف يُوافق على وسيلةٍ تنقُل زوج ابنته المستقبلي.»

قال روبرت، الذي لا يزال مُتجهمًا: «متعِب للأعصاب.»

ابتسمَت إليه. فقالت: «أظن أن ذلك أول تلاعُب طريف بالألفاظ قد سمعتُه من أي أحدٍ.» ثم أردفَت قائلةً: «كنتُ آمُل أن تبقى لتناول الغداء، لكني إلى حدٍّ ما اطمأننتُ قليلًا لأنك لن تفعل ذلك.»

«هل اطمأننتِ حقًّا؟»

«صنعت «قالَبًا» لفطيرةٍ لكنه لم ينتفش. لا أُجيد الطهو. أتتبَّع بدقةٍ ما يُذكَر في الكتاب لكن غالبًا لا تنجح. بل إني في الحقيقة أندهشُ تمامًا عندما تنجح. لهذا سيكون من الأفضل أن تذهبَ لتناول فطيرة التفاح من صنع عمتك لين.»

تمنَّى روبرت فجأةً وبشكلٍ غير منطقي لو أنه يبقى، ليُشارك «القالب» الذي لم يكن قد انتفش وليَسخر منه بلطفٍ إلى جانب طهوها.

قال بأسلوبٍ مباشر: «سأُخبركِ غدًا في المساء كيف صارت الأمورُ معي في لاربورو.» نظرًا إلى أنه لم يكن قد دار بينهما حوار كصديقَين من قبلُ مثلما تحدَّثت مع نيفيل حول الدجاج وحول موباسان فقد حبَّذ أن يُبقِيَ الحوار حول أمور العمل. «سأتصل بالمُحقق هالم وأرى إن كان بإمكان أحدِ رجاله أن يظهر في محيط منزل فرنتشايز مرةً أو مرتَين في اليوم؛ ليس إلا لإظهار الزي الرسمي، إذا صح القول، ولصد المُتسكِّعين.»

قالت: «أنت في غاية اللطف يا سيد بلير». وتابعَت: «لا أتصور كيف كان سيصير الأمرُ من دون الاستناد إليك.»

حسنًا، إذا عجز أن يكون شابًّا وشاعرًا، فبإمكانه أن يكون سندًا. شيء مُمِل، شيء لا يُلجَأ إليه إلا في الحالات الطارئة، لكنه مُفيد؛ مفيد حقًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤