الباب الأول: معنى الصعوبة اللفظية

(١–١) لا تكمن الصعوبة الجديرة بالبحث لترجمة كلمة من الكلمات في أن معناها مُتخصِّص؛ أي ينتمي لمبحثٍ بِعَينه من المباحث العلمية، أو في أنها لا تُستخدم في غيره، وقد تكون لها مقابِلات لدى العامة؛ أي في لغةِ غير المتخَصِّصين، فالعثور على مقابلٍ عربي لها ممكنٌ في نهاية المطاف وإن اقتضى الأمر تعريبها.

ويقتصر نوع الصعوبة هنا على ما يُسمَّى بالاصطلاح؛ أي اتفاق الناس على اعتبار الكلمة العربية مقابلةً للكلمة الأجنبية، وما يصطلح عليه الناس يُصبح مصطلحًا عليه، ويُشار إليه باسم المصطلح وحسب. وقد تختلف المصطلحات مثل pharynx التي تعني البلعوم، وهو مكان الْتقاء مجرى فتحة الأنف بفتحة الفم عند آخر الحلق، ومثل oesophagus التي تعني قصبة المَرِّيء، ويستعيض غير المتخَصِّصين أو العامة عنها بكلمة gullet، وقد يستخدم الناس الأخيرة بمعنى المريء كله، وقد يُشيرون إلى pharynx بكلمة «الحلق» أو «الزور»، وقد يعنون بالأخيرة larynx وهي الحنجرة، وقد يستعيضون بكلمة throat عن أيٍّ من هذه الكلمات.
فمكمن الصعوبة الأوحد هنا هو التخصُّص؛ فالطبيب يصف الْتهاب الأغشية المخاطية في الحلق بأنه pharyngitis أو laryngitis، مُميِّزًا في ذلك بين الْتهاب المنطقة العليا من الحلق والمنطقة السفلى منه؛ أي بداية القصبة الهوائية حيث توجد الأحبال الصوتية، ولكن العامة قد لا تفرِّق بين هذا وذاك، وتُشير إلى كلٍّ منهما بتعبير sore throat وحسب. وكثيرًا ما يستخدمه الأطباء تيسيرًا على المرضى. وهذه إذن هي الصعوبة الوحيدة للكلمات غير الشائعة، ومنها الآلاف في كل علمٍ وفن. وعندما نقول إنها غير شائعة نقصد أنها معروفة لفئةٍ دون فئة، وكثيرًا ما لا يحتاج الإنسان العادي إلى الإحاطة بها، وقد يحيا حياته كلها دون أن يستخدمها أو يشعر بوجودها.
(٢–١) وهناك صعوبةٌ من لونٍ آخر هي عدم الشيوع لا بسبب التخصُّص، بل بسبب انتفاء الحاجة إلى الكلمة، أو تضاؤل الحاجة إلى استعمالها. وبعض الكلمات تسقط من الاستعمال لأن كلماتٍ أخرى حلَّت محلَّها وأصبحت تُغني عنها. أمَّا انتفاء الحاجة فالمثال عليه كلمة مثل «الأثافي»، وهي الأحجار الثلاثة التي توضع عليها القدر فوق الموقد، واحدتها أُثْفِيَّة؛ إذ أصبح استعمالها مقصورًا على المصطلح «ثالثة الأثافي»؛ إذ يقال «رماه بثالثة الأثافي»؛ أي بداهيةٍ كالجبل (المعجم الوسيط) (unqualified disaster)، ومثل الأسماء والصفات الكثيرة للأسد والسيف في العربية، ومثل بعض الكلمات الإنجليزية التي أصبحت مهجورة obsolete، أو في سبيلها إلى ذلك obsolescent مثل كلمة saeculum التي تعني دهرًا أو زمنًا مديدًا، أو كلمة stupration التي تعني الاغتصاب، وكلاهما يستخدمه جون كرو رانسوم، أو كلمة fardel (الموجودة في شيكسبير) والتي تعني الرِّزمة أو الحُزمة، ومن ثم أُطلقت على العبء أو الحِمل الثقيل، ويقال إنها مشتقةٌ من العربية فرضةً أو فردةً بالمعنى نفسه. فإن كانت الكلمة قد انتفت الحاجة إليها فلن تظهر إلا في السياق التاريخي الذي ظهرت فيه أول ما ظهرت، وإذا كان قد استُعيض عنها بغيرها، فسوف يُشير المعجم إلى ذلك؛ فمن يُريد معنى الدهر أو الزمن الطويل يقول aeon أو eon، وهي تجمع بإضافة s للإشارة إلى الزمن الذي لا يكاد يُقاس بالسنين. فهي كلمةٌ جارية، والمعاجم الكبرى تنص على مدى شيوع كلمة أو عدم شيوعها. والطريف أن أحدهم قام بجمع جميع الكلمات التي توصف بأي لونٍ من ألوان الصعوبة المذكورة آنفًا، ونشرها في كتابٍ اسمه معجم الكلمات الصعبة A Dictionary of Difficult Words ومؤلِّفه هو روبرت هيل Hill، وصدرت الطبعة الخامسة المنقَّحة منه عام ١٩٦٩م.

(٣–١) أمَّا الصعوبة التي تعنينا هنا فهي تعدُّد معاني اللفظة الواحدة بتعدُّد السياقات، وهي صعوبة ذات شقَّين؛ الأول هو استعمال كلمة قديمة في معنًى جديد، وقد نطلق على المعنى القديم صفة المعنى التاريخي، وقد نعتبره المعنى الأصلي من الناحية التاريخية فحسب، ثم ندرس المعنى الحديث وحده، واعين بالخلفية التاريخية حين نحتاجها. أمَّا الشق الثاني، فهو وجود كلمات تتشابه في الحروف وتختلف في المعنى، أو تتشابه في النطق فقط وتختلف في المعنى، وقد يرجع التشابه إلى اختلاف مصدر كل كلمةٍ في اللغة، وقد يرجع — وهذا هو الأهم — إلى إضفاء معانٍ مختلفة عليها قد لا تتشابه مع المعنى الأول مطلقًا، ولا بد لنا من وقفةٍ عند كلٍّ من هذَين الشقَّين.

(١–٣–١) يستعير المتخصِّصون أحيانًا بعض الكلمات من اللغة العامة أو الألفاظ الشائعة، ويُحدِّدون لها معاني خاصةً بالسياقات الجديدة، مثلما استعاروا لفظة lens للإشارة إلى العدسة الزجاجية، وكانت تعني حبة العدس في اللغات القديمة، وكذلك فعل العرب؛ ومثلما استعار الإنجليز لفظ اليد hand (أو handle) لإطلاقه على عقرب الساعة، أمَّا لماذا اختار العرب إطلاق لفظ العقرب عليه، ولم يختاروا حشرةً أخرى إن كان لا بد من اختيار حشرة، فلا يزال لغزًا لا أستطيع له تفسيرًا، وقِس على ذلك مئات الألفاظ التي تعني أكثر من معنًى للمتخصِّص وغير المتخصِّص. وما دمنا قد ذكرنا الساعة فليُفسِّر لي مَن يستطيع سبب إطلاق دقيقة minute على كل جزءٍ من أجزاء الساعة الستين، وثانية second على كل جزء من أجزاء الدقيقة الستين، أو اختصاص ساعة اليد بكلمة watch التي تعني السهر أو نوبة الحراسة أو يراقب أو يلاحظ أو يسهر الليل؟!
(٢–٣–١) أمَّا الكلمات ذات المعاني المتباينة والتي لا يبدو أن بينها علاقةً من أي لون، فتُمثِّل مجالًا بِكرًا للبحوث اللغوية يُغري بدخوله؛ فاستخدام bank بمعنى الربوة أو شاطئ النهر لا يبدو أن له علاقةً بمعنى المصرف (البنك) الحديث، وكلمة pinion التي يألفها دارس الأدب بمعنى جناح الطائرة لا يبدو أن لها أي علاقة بمعناها الآخر «المتخصِّص» بمعنى الترس cog-wheel (بالمعنى الحديث)؛ أي العجلة المسنَّنة التي تدخل أسنانها في عجلةٍ مسنَّنة أكبر، وإن كان الباحث في تاريخ اللغة قد يجد أساسًا استعاريًّا بسبب الشبه بين تداخل الأسنان في العجلتَين وبين تداخل قوادم ريش الطائر في خوافي الجناح، أو ما يُسمَّى في الحرفة (عند النجَّارين مثلًا) بالتَّعشيق dove-tailing. ولكن تاريخ اللغة غير متاح للمترجِم الذي يريد المعنى المقصود بالكلمة وحده، وقد رأيت الكثير من الكلمات الإنجليزية التي تتشابه لفظًا وتتفاوت معانيها تفاوتًا يصعب تبريره بالأصول التاريخية، وأقرب الأمثلة كلمة poker التي قد تعني القضيب الحديدي الذي يحرِّك به الإنسان الجمر لكي يزيده اشتعالًا، وقد تعني لعبةً من ألعاب الورق (البوكر)، والمعاجم لا تستطيع إقامة علاقة بينهما إلا بالإشارة إلى اختلاف الأصول الاشتقاقية، وذلك مبحث من المباحث الخاصة التي قد تخرج بنا عن مقصد هذا الكتاب.
(٤–١) وهناك صعوبةٌ أخرى لن نعرض لها وهي تعدُّد معاني الكلمة بما يدخل عليها من حروفٍ وأدوات particles؛ فهي صعوبةٌ تنتمي إلى طبيعة اللغة الإنجليزية التي تستخدم الحروف على اختلافها مع الأفعال (بل والأسماء أحيانًا) لتغيُّر معانيها. ويستطيع المترجم هنا أن يرجع إلى المعنى فيرى بيُسرٍ معنى كل تركيب، ويعتاد معرفة التركيب كاملًا؛ أي دون فصل الكلمة عن الحرف المصاحب لها واللازم لمعرفة معناها، وهو موجودٌ في العربية؛ فالراغب في شيء desirous of غير الراغب عن شيء averse to/from وهلمَّ جرًّا.
انظر كتابي: Lexical Approaches to Translation, Cairo, 1999.

وانظر دراستي بعنوان:

Wittgenstein’s “Family Resemblances” Revisited: Towards A Diachronic/Cultural Approach to Translation.

المنشورة في كتاب:

Cairo Studies in English: Essays in Honour of Fakhri Costandi, Cairo, 1999.

ففي هذَين شرحٌ مفصَّل لاختلاف الدلالة باختلاف التخصُّص واختلاف الأدوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤