الفصل العاشر

لم يستطع شيءٌ أن يعوق سليمان عن حقوق الزواج، وإن يكن الحزن قد أجَّل نيل حقوقه بضعة أشهر، ولكن أين المهرب لسهير والحياة طويلة، ما الشهور فيها إلا قطعة صغيرة من الزمن، يبتلعها الزمن، ويبقى الزمن، وتبقى الحياة، ويبقى زوجها، وتبقى حقوقه، وقد نالها، ولكن سهير كانت تحس دائمًا أنها كأنما ترتكب إثمًا حرَّمه الله، كان يداخلها شعور بالخزي والعار، ولولا أن عقلها ما يلبث أن يذكِّرها بأنها أوامر الله لما زايل هذا الشعور نفسها.

لم يكن الجنين يعلم أن أمه لا تحب أباه، ولم يكن يعلم أنه يتكوَّن على رغم أمه، ولم يكن يعلم أنها تتمنى أن تموت قبل أن يصبح هو طفلًا، ولو كان يعلم ما استطاع أن يفعل شيئًا، وماذا بيده أن يفعل، إنه يتكون ويكبر على رغم أنفه وعلى رغم أمه، ويكتمل وينزل إلى الحياة.

واستقبل القصر الطفل الأول لسهير، وقد كان اسم الطفل معدًّا له قبل مجيئه؛ «أحمد»، وقد رحَّب سليمان بالطفل ورحَّب أن يُسمَّى أحمد، وتخلى عن بذل أي مالٍ للحكيمة المولِّدة أو للخدم، فقد تعوَّد الخدم منه ألا يعطيهم شيئًا وإن يكن بعض الأمل قد داعب نفوسهم أن تسخو نفسه الجامدة، يوم مولد طفله الأول، إلا أن هذا الأمل كان ضعيفًا واهنًا، لم يحسُّوا في انهدامه برُزْء الأمل المنهدم.

وكانت سهير قد عرفت عن زوجها هذا البخل القاتل، ولم تشأ أن تنبهه إلى موقفه من الخدم، فقد كانت تعلم أن لا أمل يُرجى من تنبيهه، وضمَّت هذه السوءة إلى ما اجتمع فيه من سوءات وسكتَتْ، وقد كانت تعلم أنه مهما يعطيهم فإنه لن يطيق أن يصبِّر نفسه عن ارتكاب الصغائر أمامهم، فقد استطاع سليمان في مهارة حاذقة أن يرغم زوجته على احتقاره، فأصبح كُرهها له كُرهَين، ومقتها له ألوانًا من المقت، عديدة لا يخفت لها أوار.

استقبلت سهير طفلها أحمد، ومقتُ أبيه يُمهَّد له عندها، وحينما رأته في يد الحكيمة يُطلق صرخاته الأولى في وجه الحياة لم تُحس نحوه شيئًا من عطف، ولعلها لم تُحس نحوه شيئًا على الإطلاق، لولا أنها تذكَّرت ما يتناقله الناس من حب الأمهات لأولادهن، فطوت نفسها على شعورها المبهم، ونامت بعد أن عرفت أن وليدها طفل ذكر، وما كان يعنيها أن يكون ذكرًا أو أنثى، كل ما كان يعنيها ألا يجيء هذا الطفل، أما وقد جاء فسِيَّان عندها أن يكون ذكرًا أو أنثى، فهو إن يكن ذكرًا فقد يرث عن أبيه شرَّ أبيه، وهو إن يكن أنثى، فهي قد ترث عن أمها تعاسة أمها.

صحت سهير من نوم عميق، فوجدت أمها بجانبها تشرف على طعامها، حتى إذا أصابت ما قدَّموه لها، دفعت أمها إليها طفلها لترضعه، وحين وضعت ثديها في فم الطفل راح سؤال يدور في ذهنها، وأنت ما ذنبك؟ ما ذنبك أنت يا ولدي العزيز! العزيز؟! أعزيز أنت؟! أي شيء فيك عزيز؟! أنت بلورة شقائي، أنت تجسيد الأشباح القاتمة في ظلال حياتي! أنت تعاستي حية وترضع مني وأغذِّيها، لا عليك يا ولدي، فإني كما أتيت بك إلى الحياة أتيت بشقائي إلى الحياة، إنها أنا يا ابني التي خلقَتْ شقاءها بيدها، وها أنت ذا شقائي جاء من أحشائي مُجسَّمًا بعد أن كان فِكرًا، إنسانًا بعد أن كان خيالًا، حياة بعد أن كان رؤى، حياة وإن تكن شقية حزينة آسية، إلا أنها حياة، وأنا صاحبتها، وأنا مَن أغذِّيها، سأغذيك يا ابني كما غذيت شقائي دائمًا، وكما خلقت شقائي هذا، لقد ولدَتْك أحشائي، كما ولد عقلي شقائي، أتت بك أحشائي على رغم أنفها، وولد عقلي شقائي مختارًا لينتقم، لقد خِلتُ أني أنتقم ممَّن هجرني، فإذا أنا أنتقم من نفسي، فويلي من ظالمة ومظلومة، وقاتلة وقتيل، أنا هي جميعها، أنا الظالمة والمظلومة والقاتلة والقتيل، ولكن أنت … أنت يا ولدي، ما ذنبك؟ فاطعم، اطعم يا ابني هنيئًا لك ما ينساب إلى جوفك الطاهر البريء الندي، وأرجو الله اللطيف بعباده ألا ينساب في دمي الذي يُغذِّيك هذا الشقاء الذي خالط دمي على الأيام، اطعم هنيئًا، فأنت يا ولدي لا ذنب لك.

واقتحم سليمان الغرفة على زوجته، فألقت فضلة ثوبها على صدرها، ومال سليمان على جبين زوجته، فطبع عليه قبلة ليس فيها إلا ضم شفتَين وانفراجهما عن صوت مرتفع مزعج، وقال لها: «كيف أنتِ يا سهير؟» ولم تزد سهير على أن تقول: «الحمد لله.» وحين حاول أن يجذب للحديث أطرافًا لم تُمكِّنه سهير مما يريد، فقد كانت في غمرة من هذه المشاعر التي زحمت نفسها، ولم يدرك سليمان شيئًا مما يخالجها، فما كان يدرك شيئًا في نفسها، واطمأنَّ باله إلى أنها مُتعَبة لا تطيق الحديث، وخرج فرحًا من الغرفة، تشيعه نظرات سهير الحسيرة، وقد ازداد جسمه امتلاء، فأصبح سمينًا ضخمًا، لا يذكِّرك إن رأيته إلا بالعجل قوامًا وتفكيرًا.

•••

وبعد أيام قليلة من ميلاد أحمد عبرت باب القصر في خطوات وانية محبوبة زوجة عبد البديع، تحمل على كتفها ابنها السيد وتمسك في يدها سلة كبيرة، يغطيها البرسيم، ويسير من خلفها زوجها عبد البديع، يحمل هو الآخَر سلة كبيرة مغطاة بالقماش خيطت أطرافه إلى حوافي السلة، إن الأسرة قد جاءت إلى قصر الباشا تقدِّم تهنئتها إلى السيدة سهير وتحمل معها الهدايا التي ينتجها الريف الكريم، وقد كان هذا المجيء يحمل في طياته شكرًا عميقًا من هذه الأسرة إلى السيدة سهير؛ فهي التي مدَّت حمايتها على عبد البديع، فأبقت عليه في وظيفته حين حاول سليمان أن يطيح به مُدَّعيًا أنه لص، عاجزًا في الوقت ذاته عن أن يثبت عليه شيئًا من انحراف الضمير.

وقد أحسَّت محبوبة بالرهبة وهي تستقبل القصر، ولكن يد زوجها من ورائها ألقَتْ إلى نفسها الطمأنينة، فخطَتْ باسم الله وبستره إلى الرحبة الواسعة، وسعَتْ بين مغاني الحديقة إلى القصر الكبير.

ولكن سيد أبى أن يجعل السير يطمئن بهم، فهو ينشق عن صراخ عالٍ وعويل مُزعِج، جاهدَتْ أمه في كتمانه، ولكن بلا جدوى، فقد أبى حتى ثدي أمه الذي أخرجته لتُسكته به.

وبلغ العويل مسامع السيدات، فسألن وجاءهن النبأ عن زيارة عبد البديع، فمسَّت هذه الزيارة نفس سهير بنسمة طيبة أحسَّت في عبيرها وفاء وحبًّا، وإن يكن صراخ الطفل قد أزعجها.

وقبل أن يختفي عبد البديع وأسرته الصاخبة في الباب الداخلي سمع ضجة سيارة تقف عند باب القصر، فالتفت وعرف فيها سيارة سميحة هانم، فقال لزوجته: أسكتي السيد، واذهبي لتُسلِّمي على الست سميحة وتُهنِّئيها بوليد أختها.

ثم انفتل عبد البديع إلى داخل المنزل، ولم يُطِع السيد أوامر أبيه، ولم يُجدِ في إسكاته جهد أمه، ولكن هذا لم يمنعها أن تتقدَّم من سميحة هانم التي كانت تسير وئيدة الخطى، يمنعها عن الإسراع أنها تحمل هي الأخرى وليدًا غائبًا في ظلمات أحشائها، وقالت محبوبة: الحمد لله على سلامة الست سهير يا ستي سميحة هانم.

– الله يسلمك يا محبوبة، أهذا ابنك؟

– نعم يا ستي، العُقبي لكِ، نفرح بالمحروس، وتقومين بالسلامة مجبورة الخاطر إن شاء الله.

– لا، في هذه المرة أريد بنتًا يا محبوبة.

– بنت يا ستي! لا قدَّر الله!

– ولماذا يا محبوبة؟ أنا عندي حسام، ألا يكفي ولد واحد؟

– لا يكفي أبدًا يا ستي، ولد يا ستي، إن شاء الله ولد!

– يا شيخة اسكتي، فإني أخشى أن يسمع الله دعاءك، بنت يا رب، بنت.

– لا حول ولا قوة إلا بالله، أمرك يا ستي، بنت يا رب! نوِّلها ما تريد يا رب، واجبر خاطرها!

– ألم تري سهير بعد؟

– لا والله يا ستي، كنت داخلة ورأيتكِ فجئتُ أسلِّم عليك.

– تعالي نصعد معًا.

وصعد ثلاثتهم، وسيد لا يكف عن صراخه إلا بمقدار ما يلقف في حلقومه بضع شهقات من الهواء، ما يلبث أن يخرجها عالية الضجيج، تنقض على الهدوء الذي كان يسود القصر فتمزِّقه تمزيقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤