الفصل السادس عشر

كان وصفي جالسًا في بيته ثائر الأعصاب يفكِّر في هذا الأمر الذي لقيه به وزير الأشغال في يومه هذا، أي مخجلة تلك التي يطالعه بها أقاربه، وأي قريب؟ إنه زوج سهير، لا يطيق وصفي أن يروِّع حياة سهير وأولادها بأكثر مما روَّعها، إنه يشعر أنه المسئول عن هذا الزواج الذي أُلقِيَت إليه سهير.

لم يشأ جعفر أن يترك أباه في زحمة من ضيقه هذا، بل هو يدخل إليه يطلب بعض المال ليشتري كتبًا جديدة ظهرَتْ، وقد تعوَّد وصفي ألا يردَّ لابنه طلبًا مثل هذا، ولكنَّه في ضيقه هذا يوشك ألا يحفل أمر ابنه، ثم ما يلبث أن يعطيه ما طلب، ويخرج جعفر، وما هي إلا بعض دقائق حتى يدخل سليمان: خير يا باشا؟

– أي خير يا سي سليمان؟

– ماذا؟ ماذا حصل؟

– يا سليمان أنت تعلم كمْ جاهدتُ من أجلك، حتى تصل إلى مركزك هذا.

– نعم أعلم.

– أيليق بك بعد هذا أن تلوِّث سمعتنا، ونحن نعتمد على الشرف في حياتنا، ونحارب أعداءنا بنزاهتنا؟ ماذا يقول الناس عنا؟

وأحس سليمان أن وصفي عرف ما ارتكبه، وأوشك أن يُماري الحق، ولكنه عدَلَ عن ذاك وارتأى أن يستمر في تغابيه: ماذا؟

– إحسان بك عبد الفتاح.

وأُرتِجَ على سليمان لحظة، ثم قال: ما شأنه؟

– ماذا جرى يا سليمان؟ أتراني فارغًا لهذا التغابي؟ لقد كنت عند وزير الأشغال الآن وهو الذي أخبرني!

– أخبرك بماذا؟

– بأنك أخذت رشوة من إحسان.

– أنا؟ أنا؟

– نعم أنت.

– لماذا؟

– لتحفر له ترعة في أرضه التي اشتراها حديثًا بعقد عرفي.

– إنه لم يقُلْ إنها رشوة.

– فماذا قال؟ هدية؟!

– أبدًا، وإنما قال إنه يتبرَّع بها.

وقال وصفي ساخرًا: يتبرَّع بها؟! لماذا؟ هل أصبحتَ جمعية خيرية على آخِر الزمن؟

– لا ولكن كنت أفكِّر أن أشترك في جمعية العميان، وكان الحديث معي في ذلك الشأن يجري أمام إحسان بك فتبرَّع بالمبلغ.

– بخمسمائة جنيه؟! أهذا تبرُّع؟ إنها رشوة يا باشمهندس، رشوة!

وحاول سليمان أن يفتعل ثورة: لا، أنا لا أقبل الرشوة، لا أبدًا!

وقطع وصفي افتعاله في جمود: اسمع، هات الفلوس.

وامتقع وجه سليمان: ماذا؟

– أقول هات المبلغ.

– ولكنه ليس معي.

– إنه معي أنا.

– لا أفهم.

– لقد دعوتُ إحسان، وهو قادم الآن، وقد أعددتُ له المبلغ، وسأعطيه له الآن، فاكتب أنت لي شيكًا بالمبلغ، الآن.

– أكتب شيكًا؟!

– نعم.

– ولكن ليس معي دفتر الشيكات.

فقال وصفي في حزم صارم تمور فيه ثورة وتهديد: سليمان، اكتب الشيك على ورقة بيضاء.

وفهم سليمان كلَّ المعاني التي تصاحب هذا الأمر، فسارع يكتب الشيك مُذعِنًا، وما إن فرغ من كتابته، حتى جاء الخادم يعلن قدوم إحسان بك، فأذِنَ له وصفي ودخل، وما كاد يجلس حتى أخرج وصفي من جيبه ظرفًا وأعطاه لإحسان قائلًا: خذ هذا.

– ما هذا يا باشا؟

– الرشوة التي دفعتها لسليمان.

وتلاقت عيون إحسان وسليمان، ثم أطرق إحسان خجلًا قائلًا: ولكنها ليست رشوة يا باشا.

– اسمع، إما أن تأخذ المبلغ، فأعتبرُ المسألة كأن لم تكن، وأجعل طلب الترعة الذي تقدَّمت به يسير في طريقه الطبيعي بلا عرقلة ولا محاباة، وإما أن ترفض قبوله، فاعلم أن الترعة لن تشُقَّ أرضك ما دمتُ أنا على وجه الحياة.

ووضع إحسان المبلغ في جيبه في تخاذُل، وهو يقول: أمرك يا باشا.

– على ألا تعود إلى هذا يا إحسان بك.

– أمرك يا باشا.

– شكرًا.

– تسمح بالانصراف؟

– لا مانع.

وخرج إحسان دون أن يدعوه وصفي ليشرب القهوة، فقد رأى فيه صورة بشعة تُشبِه المرأة الداعرة التي تُغري الشباب بالخطيئة، وحين أراد سليمان أن ينصرف استبقاه وصفي ليقول له: أتذكر حديثًا بيننا منذ سنوات بعيدة، بعيدة جدًّا، حين جئتَ لتطلب أول درجة ارتقيتَها في سلك الحكومة.

ونكس سليمان رأسه قائلًا: نعم أذكر.

وقال وصفي في حزم: حسنًا، فأنا لا أحب أن أعيد هذا الحديث ثانية، وبطبيعة الحال لا لزوم أن تعرف سهير شيئًا من هذا، فمرض القلب الذي تعانيه لا يحتمل هذه الأزمات، قل لها إذا سألتك عما أردتك فيه … قل لها إنني … إنني …

وداخل صوته شيء من السخرية وهو يقول: قل لها إنني أردت أن أبلغك رضاء الوزير عنك.

وأطرق سليمان، لأنه لم يعرف أين يولي وجهه، وقال وهو خارج: نعم، هذا ما سأقول.

وخرج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤