الباب الثالث عشر

في ذكر المغفلين من القضاة

عن ابن الأعرابي قال: خاصم أبو دلامة رجلًا إلى عافية فقال:

لَقَدْ خَاصَمَتْنِي غُوَاةُ الرِّجَالِ
وَخَاصَمْتُهُمْ سَنَةً وَافِيَةْ
فَمَا أَدْحَضَ اللهُ لِي حُجَّةً
وَمَا خَيَّبَ اللهُ لِي قَافِيَةْ
فَمَنْ كُنْتُ مِنْ جُورِهِ خَائِفًا
فَلَسْتُ أَخَافُكَ يَا عَافِيَةْ

فقال له عافية: لأشكونَّك لأمير المؤمنين. قال: لِمَ تشكون؟ قال: لأنك هجوتني. قال: والله لئن شكوتني إليه ليعزلنَّك. قال: لِمَ؟ قال: لأنك لا تعرف الهجو من المدح. عافية هذا هو ابن زيد القاضي ولاه المهدي القضاة على بغداد.

قال: حدَّث عبد الرحمن بن مسهر قال: ولاني القاضي أبو يوسف القضاء «بجبل» وبلغني أن الرشيد منحدر إلى البصرة، فسألت أهل جبل أن يثنوا عليَّ فوعدوني أن يفعلوا ذلك وتفرَّقوا، فلما آيسوني من أنفسهم سرحت لحيتي وخرجتُ فوقفت له فوافى وأبو يوسف في الحراقة فقلت: يا أمير المؤمنين نعم القاضي قاضي جبل، قد عدل فينا وفعل وصنع وجعلت أثني على نفسي، فرآني أبو يوسف فطأطأ رأسه وضحك، فقال هارون: مِمَّ تضحك؟ فقال: إن المثني على نفسه هو القاضي. فضحك هارون حتى فحص برجليه وقال: هذا شيخ سخيف سفلة فاعزله. فعزلني.

عن علي بن هشام أنه قال: كان للحجاج قاضٍ بالبصرة من أهل الشام يقال له أبو حمير، فحضرت الجمعة فمضى يريدها فلقيه رجل من العراق فقال له: يا أبا حمير فأين تذهب؟ قال: إلى الجمعة. فقال: ما بلغك أن الأمير قد أخَّر الجمعة اليوم؟ فانصرف راجعًا إلى بيته، فلما كان من الغد قال له الحجاج أين كنت يا أبا حمير لَمْ تحضر معنا الجمعة؟ قال: لقيني بعض أهل العراق فأخبرني أن الأمير أخَّر الجمعة فانصرفت. فضحك الحجاج وقال: يا أبا حمير أما علمت أن الجمعة لا تؤخَّر.

قال المدائني: استُعمِل حيَّان بن حسان قاضي فارس على ناحية «كرمان»، فخطبهم فقال: يا أهل كرمان تعرفون عثمان بن زياد هو عمي أخو أمي. فقالوا: فهو خالك إذن!

قال ابن خلف: وسقط الذباب على وجه قاضي «عبدان» فقال: كثَّر الله بكم القبور.

قال ابن خلف: قال بعض الرواة: تقدم رجلان إلى أبي العطوف قاضي حران فقال أحدهما: أصلح الله القاضي، هذا ذبح ديكًا لي فخذ لي بحقي. فقال لهما القاضي: عليكما بصاحب الشرطة فإنه ينظر في الدماء.

قال أبو الفضل الربعي: حدثنا أبي قال: سأل المأمون رجلًا من أهل حمص عن قضاتهم، قال: يا أمير المؤمنين إن قاضينا لا يفهم وإذا فهم وَهِم. قال: ويحك! كيف هذا؟ قال: قدم عليه رجل رجلًا فادعى عليه أربعة وعشرين درهمًا فأقرَّ له الآخر فقال: أعطه. قال: أصلح الله القاضي إن لي حمارًا أكتسب عليه كل يوم أربعة دراهم أنفق على الحمار درهمًا وعليَّ درهمًا وأدفع له درهمين، حتى إذا اجتمع ماله غاب عني فلم أره فأنفقتها وما أعرف وجهًا إلا أن يحبسه القاضي اثني عشر يومًا حتى أجمع له إياها. فحبس صاحب الحق حتى جمع ماله فضحك المأمون وعزله.

وعن أبي بكر الهذلي قال: كان ثمامة بن عبد الله بن أنس على القضاء بالبصرة قبل بلال بن أبي بردة، وكان مخلطًا فاستدعت امرأة إلى ثمامة على رجل أودعته شيئًا ولم يكن لها بَيِّنَة، فأراد استحلافه لها فقالت: إنه رجل سوء فيحلف ويذهب حقي، ولكن استحلف إسحاق بن سويد فإنه جاره، فأرسل إلى إسحاق واستحلفه.

وحكى أبو الخير الخياط عن بعض أصحابه قال: دخلت «تاهرت» فإذا فيها قاض من أهله، وقد أتى رجل جنى جناية ليس لها في كتاب الله حَدٌّ منصوص ولا في السُّنَّة، فأحضر الفقهاء فقال: إن هذا الرجل جنى جناية وليس لها في كتاب الله حكم معروف فما ترون؟ فقالوا بأجمعهم: الأمر لك. قال: فإني رأيت أن أضرب المصحف بعضه ببعض ثلاث مرات، ثم أفتحه فما خرج من شيء عملت به، قالوا له: وُفِّقْتَ. ففعل بالمصحف ما ذكره، ثم فتح فخرج قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، فقطع أنف الرجل وخلى سبيله.

وبلغنا أن رجلًا قدَّم رجلًا إلى بعض القضاة فادعى عليه بثلاثين دينارًا وأقام شاهدًا واحدًا، فقال القاضي: ادفع له خمسة عشر دينارًا إلى أن يقيم الشاهد الآخر.

حكى فقيه من رفقائنا قال: حضر عندي أمين من أمناء القاضي فسألني عن فريضة فيها سدس: فقال ما معنى السدس؟ قلت له: من الدينار ثلاثة قراريط وحبة، وسهم من ستة أسهم، هذا هو السدس. فقال: اكتبه لي حتى أعرفه. قلت: والله لا أكتبه لك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤