الفصل الثاني

الإرادة

(١) إرادة الفعل أو الفعل المراد

علمت فيما تقدم العوامل الأولى التي تحرك المرء وتدفعه إلى الفعل، وعلمت أيضًا أن هذه العوامل المحركة متى دفعته إلى الفعل لا يلبث العقل أن ينبري لتدريب الفعل نفسه، فقد انتهينا فيما تقدم من بيان الأخلاق والسجايا المحركة، والآن نبتدئ في بيان القوى العقلية المدربة؛ فرغنا من محدثات الحركة، وجئنا إلى الحركة نفسها؛ جئنا إلى الفعل نفسه. ومجرى الفعل أو سلسلة حوادثه هي التي نسميها السلوك، فالتصرف هو مجموعة الحوادث المرادة التي يجري فيها الفعل أو الحركة التي أحدثتها المحركات؛ فالغضب هو المحرك، والاندفاع في القتال بحكم الإرادة هو التصرف.

(١-١) ما هي الإرادة؟

يحدث التصرف أو السلوك بإدارة الإرادة في ظرف معين إلى غاية معينة، ولكل من التصرف والإرادة والظرف والغاية وجوه مختلفة باختلاف المحرك، واختلاف نسبتها بعضها إلى بعض؛ ولذلك يتعين علينا أن نسهب في بيان حقيقة كل من هذه الأمور ووجوهها.

أما التصرف أو السلوك فهو المجرى النسبي بين العوامل والمعمولات، بين المحركات والغاية، هو ما وافق المحرك والمدرب من جهة واحدة، وما وافق الغاية من جهة أخرى. والآن نشرع في بيان أحوال الإرادة المدربة المتصرفة.

سلسلة الحاجة والشهوة والرغبة

إذا توسعنا بمعنى الإرادة أطلقناها على الرغبة أيضًا، ولكننا لا نستطيع أن نطلقها هذا الإطلاق في الأحياء الدنيا على غير الإنسان؛ لأنها غير موجودة فيها بالمعنى العقلي الذي نفهمه؛ ولذلك نفصل بينها وبين الرغبة. حتى الرغبة نفسها غير موجودة في الحيوان كما هي في الإنسان، فإذا توسعنا بها أطلقناها على الشهوة الموجودة في الحيوان.

فالشهوة موجودة في الإنسان والحيوان، والرغبة غير موجودة في الحيوان إلا كشهوة ضعيفة. وأما الإرادة فمقصورة على الإنسان، والشهوة نفسها غير موجودة في الأحياء السفلى كالديدان والهوام والمِكْروبات والنباتات، وإنما توجد في هذه الأحياء الحاجة؛ ولذلك يتعين علينا أن نُبَيِّن ماهية هذه المذكورات: الإرادة والرغبة والشهوة والحاجة، ونسبتها بعضها إلى بعض.

الحاجة

تغلغل جذور النبات ونمو أصلها في الأرض، وتفرخ فروعها في الهواء، واتجاه أوراقها إلى نور الشمس، كل هذه صادرة بحكم الحاجة إلى الغذاء، فلا يصح القول: إنها فعلت كذلك بحكم الشهوة، وكذلك المِكْروب والدودة لم يطوفا في الرطوبة ويمتصا الغذاء بفعل الشهوة، بل بفعل الحاجة وبمقتضى النزعة الطبيعية فيهما.

أما الحاجة المجردة من الشهوة في الإنسان والحيوانات العليا فمقصورة على ما ترمي إليه الأفعال الحتمية؛ كالتنفس والنبض والتثاؤب والنوم ونحو ذلك. فالحاجة إذن مجردة عن الإرادة.

الشهوة

وأما الحيوان الحساس فذو شهوة للطعام، وذو شهوة تناسلية، وكلتاهما تدفعانه للأكل والمزاوجة، ولكنه لا يفعل ذلك متعقلًا كالإنسان؛ أي إنه لا يفعل بإرشاد عقل، بل بإرشاد الغريزة. وإن كان في الحيوانات العليا شيء من العقل المرشد، فهي لا تدرك أنها تفعل بتعقل كما يدرك الإنسان.

الرغبة

أما الإنسان فيفعل فعله بحثِّ الرغبة أو الشهوة إذا شئت أن تقول، ليس بنزعة عمياء إلى غاية معينة، بل هو يميل للفعل ويفعل تحت سيطرة الوجدان، يفعل وهو عارف أنه يفعل وماذا يفعل؛ فهو إذا طلب الطعام يفهم أنه يطلبه. والحيوان إذا سعى إلى الطعام فقد يفهم الطعام، ولكنه لا يعقل أنه فاهم، والنباتة تتجه إلى الشمس ولا تدري أنها اتجهت إليها؛ فهي محتاجة إلى نور الشمس، وفي طبيعتها ما يُميلها إليه.

فالحيوان مشتهٍ للطعام، والإنسان راغب فيه، الحيوان يشتهي الطعام حين يجوع، وتهيج شهوته له حين يحضر لديه، ومتى كان شبعانًا لا يفهم معنى الجوع ولا يشتهي الطعام. وأما الإنسان فسواء كان جائعًا أو شبعان، وسواء كان الطعام حاضرًا أو غائبًا، فهو راغب في السعي إلى الطعام لادخاره إلى حين الجوع؛ لأنه يفهم الجوع ولو كان شبعان، ويفهم الطعام ولو كان غائبًا عنه؛ ولذلك يرغب وإن لم يكن محتاجًا في الحال.

الرغبة لأجل اللذة

أظن أنه قد اتضح لك جيدًا الفرق بين شهوة الحيوان ورغبة الإنسان. بقي أن تفهم أيضًا الفرق بين الرغبة والشهوة في الإنسان وحده، فلا يخفى عليك أن أعظم عنصر في الوجدان — أي إدراك الإنسان أنه مدرك — أو بعبارة أخرى في التعقُّل، هو الشعور باللذة والألم؛ فالإنسان لا يطلب الطعام لأجل الطعام نفسه، بل لأجل ما يشعر به من اللذة في الشبع.

فهو يدرك معنى اللذة كما يدرك معنى الطعام: فحين يشتهي الطعام يقصد اللذة، وحين يمتنع عن الطعام لغرض يفهم أنه يعاني ألم الجوع، ولكنه يدرك أن غرضه من الصوم يفضي به إلى لذة أعظم من لذة الشبع. فالشهوة ترمي إلى اللذة المباشرة، والرغبة ترمي إلى اللذة البعيدة والمباشرة أيضًا.

الرغبة في الأمر الحسن

فالرغبة في شيء لا ترمي فقط إلى التمتع بذلك الشيء، بل إلى ما يؤدي إليه من اللذة إذا لم يكن هو بنفسه لذيذًا. وما يؤدي إلى لذة نعده حسنًا. فالرغبة ترمي إذن إلى الشيء الحسن: فإذا كان الصوم في نظر المرء حسنًا رغب فيه. وفي الحسن نفسه لذة للراغب فيه. يرغب المرء في السعي لأجل الرزق حتى في حالة الشبع، وفي حالة عدم الحاجة إليه، وإنما هو يسعى إليه كغاية حسنة؛ وهي ادخاره.

وبهذا المعنى يختلف الإنسان عن الحيوان، وبه يختلف الإنسان الراقي عن الهمجي، والعاقل عن الجاهل، والكريم عن البخيل؛ فلكل من هؤلاء شهوة ورغبة تختلفان عند الواحد عنهما عند الآخر: الهمجي لا يسعى إلى الطعام إلا لأنه يجوع، فإذا شبع كسل عن العمل، والمتمدن يسعى إلى الثروة لا لأنه يخاف الجوع، بل لأنه يبتغي التأنق؛ ولذلك يستمر في كدحه وكده ولو كان شبعان.

وذاك يسعى لأنه يبتغي لذة الشبع، فمتى شبع لا يكلف نفسه عناءً، وهذا يسعى لأنه لا يكتفي بما حصل، بل يطلب مزيدًا، ويجد لذة في الحصول على المزيد وإن كان لا يخاف ألم الجوع؛ لأن الطعام ميسور، فالمزيد من الرزق أمر حسن في نظره.

نسبة الرغبة إلى الإرادة

هنا بلغنا إلى نسبة الرغبة إلى الإرادة وبيان الفرق بينهما: في الرغبة ميل للفعل، ولكنها لا تتكفل بالفعل؛ بل تقف عند هذا الميل وتترك الأمر للإرادة. الإرادة تأمر بالفعل أو لا تأمر. يمكنك أن ترغب في شيء، ويمكن أن تشتهي شيئًا، ولكنك قد لا تريد أن تُقدم عليه: ترغب أن تشرب كأسًا من الخمرة ولكنك لا تريد لأنك تكره أذاها، ترغب في قتل فلان ولكنك لا تريد أن تقتله بنفسك، تود أن يقتله أحد غيرك، تشتهي مال جارك ولكنك لا تريد أن تغتصبه، ترغب في معروف من صديقك ولكنك لا تريد أن تسأله إياه.

وبالعكس قد تريد من غير أن ترغب؛ فقد تريد أن تزاحم صديقك في مسترزق، وتزاحمه فعلًا، مع أنك لا ترغب في منع الرزق عنه، ترغب أن تسافر إلى بلاد بعيدة لتتعلم في جامعتها، ولكنك لا تريد أن تسافر.

فمما تقدم من الأمثلة تفهم جيدًا الفرق بين الرغبة والإرادة؛ فالرغبة مجردة عن الفعل، هي أخت الشهوة في الحيوان مجردة عن الإرادة، والإرادة هي الأمر بالعمل أو النهي عنه، فهي التي توافق الشهوة أو الخلق المحرك للفعل، وتأمر بالفعل، أو تخالفهما وتنهى عنه، أو تأمر بالفعل المخالف.

(٢) التصميم

مع ذلك لا تنبري الإرادة لمباشرة الفعل مستقلة هكذا وحدها؛ فهناك سلطة أعلى منها لا بد من تدخلها، هناك الفطنة أو الحكمة، فهي تصدر الحكم الذي تبلغه الإرادة للقوى الفاعلة، هناك قوة تقرير الفعل — وهو التصميم على الفعل — فقد تريد ولكنك لا تصمم التنفيذ، فلا تتم الإرادة؛ لأن التصميم مرتبط بالزمان المستقبل، فإن أردت وفعلت كان التصميم مقرونًا بالإرادة، وإن أردت وسوَّفت بقي الفعل متوقفًا على التصميم؛ فقد تريد أن تزور صديقك غدًا، ولما جاء الغد بدت أحوال أخرى جعلتك في تردد، فإذا لم ينبرِ التصميم فلا تحدث الزيارة، ولا تتم الإرادة.

فالإرادة النافذة هي ما اقترنت بالتصميم، أو أن التصميم هو شيء أكثر من الإرادة. قد تنوي «تريد» أن تسافر غدًا باكرًا، ولكن لما جاء الغد وجدت الطقس رديئًا، فإذا لم ينبرِ التصميم فلا تتم إرادة السفر؛ فالإرادة بلا تصميم نية مؤجلة التنفيذ، والتصميم إرادة نافذة. فالإرادة ذات طرفين: النية والتصميم.

(٣) الظرف

والإرادة أو الرغبة ترافق الفعل إلى أن تبلغ به إلى الغاية، اللهم إذا بقي الظرف الذي نشأت فيه الرغبة على حالها ولم تتغير، فإذا تغيرت الرغبة تغير الفعل، وقد تتغير الغاية أيضًا، وإمكان هذا التغيير يحدو بنا إلى البحث في الظرف وأحواله.

(٣-١) ما هو الظرف؟

كل رغبة خاصة بالظرف الذي تنشأ فيه؛ فإذا تغير الظرف لسبب من الأسباب فقدت الرغبة معناها أو تغيرت بكليتها. والظرف يختلف اختلافًا كليًّا لاختلاف الطوارئ التي تغير محركات الفعل وبواعثه، ولاختلاف الرغبات والغايات.

لنفرض أنك تساوم شخصًا على أمر فيه مصلحة لكليكما، وترغب أن تتفق معه على شروط العقد، وفيما أنت تناقشه ويناقشك بدرت منه عبارة أغضبتك فتستاء وتعدل عن الاتفاق. فودية المساومة ظرف لرغبتك في الاتفاق، فلما استأت من مناقشته تغير الظرف من المودة إلى المغاضبة، وتغيرت الرغبة والغاية. وهَبْ أنك آنست في مناقشته تساهلًا يُطمعك بمصلحة أخرى أفضل من المصلحة التي ترمي إليها، فهذا التساهل من قبله غيَّر ظرف المساومة وتغيرت معه رغبتك.

مثال آخر: هَبْ أنك شرعت ببناء منزل في أرض لك لكي تسكن هذا المنزل، وفي أثناء ذلك جاءك مَنْ يشتري منك الأرض وما تم من البناء بثمن فيه ربح لك، فتبيعه لتشتري منزلًا آخر أو أرضًا أخرى. فهنا الظرف الثاني نقض الظرف الأول وغيَّر الرغبة، وقد يغريك هذا الربح فتعدل بتاتًا عن بناء منزل خاص بك، وتقرر أن تشتري وتبيع طمعًا بالربح، فهنا تغيُّر الظرف قضى إلى تغيُّر الرغبة والغاية بتاتًا.

مثال ثالث: كان التلميذ يدرس على نية أن يتخرَّج طبيبًا، وفي أثناء ذلك مات أبوه أو أفلس ولم يعد يستطيع الإنفاق عليه، فعدل عن الدرس ونزل إلى مضمار العمل والاسترزاق، فالظرف الأول تغيَّر بتغيِّر حالة الأب، فتغيَّرت معه رغبة الابن وغايته وعمله.

فالظروف ليست تحت حكم الإنسان، بل هي كالرياح تجري بما لا تشتهي السفن؛ ولذلك تتغير ظروف الإنسان من حين إلى آخر، أو من عام إلى عام، أو من شهر إلى شهر، أو من يوم إلى يوم، أو من ساعة إلى ساعة. ويمكن إجمال هذا التغيير أو حصره في أحوال رئيسية نُلِمُّ بها فيما يلي:

(٣-٢) تغيرات الظرف الرئيسية

  • فأوَّلًا: يمكن أن يكون سبب التغيير في المحركات الباعثة للفعل؛ كما لو كنت تطالع رواية فهاجت حادثة الرواية عاطفة الحب فيك، فاندفعت أفكارك في الخيالات الغرامية، وقد يلوح لك أن تنظم قصيدة في الموضوع؛ فتترك الرواية وتشرع في النظم، أو كما لو كنت تشتغل في شغلك ثم سمعت بتظاهرة في الشارع، فتترك شغلك وتشاهد التظاهرة، وقد تخرج لتنضم إلى المتظاهرين.
  • وثانيًا: يمكن أن يكون السبب قوة الحكم التي فيك؛ إذ يعرض لك ما يغير حكمك، فتعدل عن مجرى فعلك وتوجهه في مجرى آخر؛ كما لو كنت تضارب في السوق وفهمت أن المضاربة تؤدي بك إلى الخسارة والإفلاس، فتعدل عنها إلى التجارة المشروعة بلا مضاربة، أو كما لو كنت تشتغل بحرفة الخياطة ثم رأيت أنك تربح من أثمان الأقمشة ربحًا يفوق عناء الخياطة، فتعدل عن الخياطة إلى تجارة الأقمشة.
  • ثالثًا: قد يكون السبب طارئًا خارجيًّا يطرأ على عملك فيغير مجراه، أو يقطع السبيل عليه؛ كما لو كنت تصطاد طيورًا فصادفت غزلانًا، فتجنح عن صيد الطيور إلى صيد الغزلان، أو كما لو كنت مسافرًا في سيارة فتعطلت السيارة فتتركها وتركب القطار.
  • رابعًا: قد يكون السبب تغير حالة صحية، فبينما أنت تشتغل أُصِبت بمرض فتجنح إلى السرير للاستشفاء، وقد يكون المرض عضالًا يمنعك عن العودة إلى عملك نفسه، فتضطر أن تعمل عملًا آخر، أو أن تسافر للاستشفاء.
  • خامسًا: العمر أو الزمان يقضي عليك بتغيير مجرى حياتك، فأنت اليوم تلميذ، وغدًا مستخدَم، وبعد الغد مستقل. واليوم أنت تشتغل، وغدًا في عيد، والآن أنت مسرور، وبعد برهة أنت كئيب، والآن أنت وحدك، وبعد برهة بين جماعة، وهلم جرًّا.

    ففي كل حال من هذه الأحوال أنت في ظرف جديد يُغَيِّر رغباتك وغاياتك ومجاري أفعالك.

  • سادسًا وأخيرًا: تختلف الظروف باختلاف الأشخاص؛ فقد يكون لاثنين رغبة واحدة ولكنهما يختلفان في الغاية، كلاهما يكتتب في مشروع خيري، الواحد بدافع الشفقة، والآخر بدافع الشهرة. فالظرفان مختلفان. وقد يقترع نائبان في برلمان على مشروع، الواحد يقصد به الخير العام، والآخر يقصد مصلحة له في المشروع. فالخير العام ظرف للنائب الأول، ومآل المشروع لمصلحة النائب الثاني ظرف له. والشريكان في عمل يسعيان إلى الربح؛ أحدهما يشتغل في المكتب، والآخر يطوف على الزبائن.

(٣-٣) تضارب الظروف

فيما تقدم فرضنا رغبة واحدة في ظرف واحد لغاية واحدة، ولكن المرء محفوف بالظروف العديدة، وله رغبات متعددة مختلفة في وقت واحد، وكثيرًا ما تكون هذه الرغبات والظروف متضاربة أو متباينة، فهل تكون له أفعال متعددة في وقت واحد؟

يمكن أن يجد السياسي نفسه في ثلاثة ظروف معًا وهو يفاوض سياسيًّا آخر في دولة أخرى، فأوَّلًا: يريد السلم العام، وثانيًا: يريد مصلحة بلاده، وثالثًا: يريد أن يرضي ضميره. ولا يندر أن يجد في هذه الظروف تضاربًا؛ فإذا أصرَّ على مصلحة بلاده، فقد يعرض السلم للخطر، أو قد لا يرضي ضميره؛ لأن المصلحة الوطنية المطلوبة غير حقة مثلًا، وإذا حافظ على السلم بالتساهل فقد يضيع حق وطنه، وقد لا يرضي ضميره إذا كان حق وطنه أكيدًا، فأي هذه الظروف يفوز، أو أية هذه الرغبات تنجح؟ البحث هنا فلسفي عقلي بحت، والحكم يتوقف على عقلية السياسي وأدبيته وفطنته في وزن الأمور؛ فالرغبات الثلاث كقوات متضاربة، وأقواها توجه الفعل في جهتها.

وهكذا الإنسان يجد نفسه كل حين، وكل يوم، وكل ساعة في ظروف ورغبات مختلفة يغلب أن تكون متضاربة؛ فهو يريد أن يحسن إلى فقير ولكنه قليل المال، ويريد أن يذهب إلى المعبد ولكنه مضطر أن يلازم عمله، ويريد أن يكون حرًّا ولكنه في الوقت نفسه يريد أن يحافظ على النظام، ويريد أن يضحي لأجل وطنه، ولكنه ذو عائلة وأطفال وهم أولى بالتضحية.

وهكذا هو ذو رغبات مختلفة، في ظروف مختلفة. وأقوى الظروف برغباتها أرجح وأقرب إلى الفوز. الظرف يعين قوة الرغبة: فقد يبقى المرء متقاعدًا عن خدمة وطنه والتضحية له إلى أن يستفزه اعتداء أمة أخرى على بلاده، فيهب للتضحية لأجل وطنه. فتغير الظرف يُميل الرغبة.

(٤) الشخصية: متغيرة ومطلقة

بعد هذا البيان تعلم أن شخصية الإنسان متغيرة أيضًا، إذا سلمت بأن الشخصية هي اتحاد الأخلاق المحركة مع التعقل المرشد في إجراء الفعل، فإذا كانت الأخلاق المحركة للفعل متغيرة بتغير الظروف، وإذا كانت الرغبة التي تنتدب الإرادة للأمر والنهي متغيرة أيضًا، فالشخصية نفسها إذن متغيرة: فأنت الآن مسالم، وبعد هنيهة مخاصم، وأنت الآن عادل، وبعد هنيهة ظالم، وأنت الآن وطني، ثم أناني، وأنت الآن منهمك، ثم أنت متمتع، مسرور ثم مكتئب، رزين ثم أهوج.

أما الشخصية المطلقة التي يتصف بها المرء ويعرفها له معارفه، فهي المعدل المتوسط لشخصياته المتغيرة، أو هي حاصل تفاعلها، فيقال: هذا كريم لكثرة إحسانه، وإن كان في بعض الأحيان ممسكًا، ويقال: هذا أشمٌّ أنُوفٌ عزيزُ النفس لتغلُّب هذه السجايا فيه، وإن كان في بعض الأحيان يتزلف أو يتصاغر، ويقال: هذا المرء جليل؛ لأن الجلال صفة غالبة فيه، وإن كان في بعض الأحيان يتبذل.

انتهينا من تبيان الأساليب التي يجري فيها الفعل بقوة المحركات وحكم الإرادة، فنجمل هذا البيان بهذا الترتيب:

وإليك بيان أحوال الغاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤