الفصل السادس

الحرية

إذا كانت القاعدة الأدبية سجية في الإنسان خلافًا لسائر السُّنن والشرائع، فهي قيد لغرائزه وأهوائه أو رادع لها؛ وبهذا الردع تتجرد شخصيته من الشهوات التي تفسد الأدبية. إذن الإنسان بين متنازعين: سجيته الأدبية من جهة، وغرائزه وأهوائه من جهة أخرى.

وإذن يسوقنا البحث إلى موضوع خطير الشأن جدًّا؛ لأنه يلوح في بال كل إنسان مفكر، وهو موضوع الحرية. فهل الإنسان حر الإرادة وحر الفعل؟ وإن كان حرًّا، فهل حريته محدودة أو مطلقة؟ وإذن هل هو مسئول؟ وإلى أي حد هو مسئول؟

(١) ماهية الحرية

(١-١) هل أنت حر؟

موضوع الحرية معقد جدًّا؛ ولذلك يكاد يتعذر تعريف الحرية، فإذا جرينا في التمثيل والتحليل والتعليل إلى أن نقيم في الذِّهن صورة واضحة للحرية أمكن القارئ أن يفهمها من نفسه بلا تعريف.

مما قيل في تعريف حرية الإرادة والفعل: إنه إجراء للفعل بلا تقيد بباعث أو داعٍ له، أي إنك تفعل فعلك من غير أن يوجبه عليك موجبٌ، فأنت اخترته ففعلته، وإلَّا فإذا كان هناك موجبٌ للفعل خارجيٌّ فأنت غير حر، ولكن هل يمكن أن يتجرَّد المرء من الدواعي والبواعث والموجبات؟

وقد علمت أن شخصيته ليست نفسيته وجسمانيته فقط، بل هاتان مع غرائزه وظروفه أيضًا، فلكي يكون الإنسان حرَّ الإرادة والفعل على الإطلاق يجب أن يكون مسيطرًا على أخلاقه وعلى ظروفه، وفي وسعه أن يكيفهما حسب هواه، فيفعل ما تمليه إرادته بلا داعٍ ولا موجب، ولكن الإنسان مقيدٌ بأخلاقه وغرائزه؛ ففعله إذن مقيدٌ بظروفه، وبالتالي إرادته مقيدة أيضًا، فهل حقيقي أنه غير حر؟

لنفرض أنك موظف في محل تجاري ووظيفتك تحصيل ديون المحل، وقد أنيط بك تدبر عملك كما تقتضيه حكمتك، وافرض أن عميلًا للمحل في بلد آخر وعدك وعدًا صادقًا بدفع دينه في اليوم الفلاني، فلما دنا الميعاد عزمتَ على السفر، فهل تعدُّ نفسك حرَّ الإرادة هنا؟ أليس لديك أمر واحد فقط، وهو السفر لتحصيل الدين؛ لأن التحصيل أمر مؤكد في يقينك بناءً على وعد المدين؟ وإذا كان لديك أمر واحد لا ثاني له، فهل هنا وجه للاختيار؟ الاختيار لا يكون في واحد، بل بين أمرين أو أكثر. إذن أنت غير مُخيَّر. الظرف الذي وجدت فيه هو واجبات وظيفتك ووعد المدين وحلول الميعاد. هذا الظرف حتمَّ عليك أن تسافر؛ فما أنت إذن حرٌّ.

لنفرض مثلًا أبسط من ذلك، وهو أن لديك عسلًا وحنظلًا، وأنت تعرف أنَّ هذا عسل وهذا حنظلٌ، فأيهما تأكل؟ بالطبع لا تختار الحنظل، بل تختار العسل حتمًا. فأنت هنا غير حرٍّ؛ لأن شهوتك للحلاوة قضت عليك بأكل العسل ونبذ الحنظل المرِّ المذاق الذي تعافه النفس. قد تقول: لا آكل العسل ولا الحنظل. إليك مثلًا آخر: لديك طعام دسم وطعام آخر مسمم وأنت جائع ولا تستطيع الصيام طويلًا، فماذا تفعل؟ هل لديك غير أمر واحد، وهو أكل الطعام الدسم؟ إذن لست مختارًا أحد أمرين ليصح القول: إنك حرٌّ في اختيار أحدهما.

(١-٢) المعرفة قيد

إذن تقول: إن معرفة الإنسان جانية على حريته، فلو كنتُ أجهل أيهما حلو: العسل أم الحنظل، أو أيهما دسم أو سم، لكنتُ أتردد في اختيار أحدهما، وأخيرًا أختار لأختبر، فأنا حرُّ الاختيار فيما أجهله، وأما فيما أعلمه فما أنا حر؛ ولذلك لم أكن حرًّا في السفر إلى البلد الفلاني لكي أقبض الدين من فلان؛ لأني عالم أن فلانًا وعدني بإيفاء دينه في اليوم الفلاني ووعده صادق.

ولكن هل حقيقي أن الإنسان عالم بالأسباب والنتائج؛ ولذلك لا محل لاختياره، بل هو مسوق إلى فعل هذا دون ذاك؛ لأنه عالم بالنتيجة؟ فهل أنا حرٌّ أن أشتغل أو لا أشتغل وأنا عالم أنني إذا لم أشتغل فلا أرتزق؟ وهل أنا حرٌّ في أن أقتل فلانًا أو لا أقتله وأنا عالم أن الحكم بالموت قصاص القاتل؟

وكأنك تقول: إن الإنسان يتميَّز عن الحيوان بأن له عقلًا يمكِّنه من معرفة الأسباب والنتائج، وهو يعلم جيِّدًا نتيجة عمله؛ ولذلك لا يعدُّ حرًّا في الاختيار، بل هو مضطر أن يفعل الأفضل، والأفضل واحد، ولا اختيار في الواحد.

وقد تمادى منكرو الحرية في تقيد الإنسان بالأحوال والظروف بحيث لا يبقى له وجه للاختيار، وزعموا أن الأفعال والحوادث سلسلة، وكل حلقة منها نتيجة لما قبلها، ومرشحة للحلقة التي بعدها؛ ولذلك يستطيع الإنسان بفطنته أن يعلمَ مآل فعله، وعلمه هذا يقيد إرادته بحيث لا يستطيع أن يختار إلا أمرًا واحدًا، وهو ما يعلم نتيجته. فهو يشرب الخمرة لأنه عالم أنها تسره، وهو يبتغي سرورها المباشر، أو هو يمتنع عنها لأنها تضر صحته، وهو يبتغي سلامة جسده وعقله. فلا اختيار له في أمرٍ يعلم غايته التي يبتغيها.

فالإنسان ذو ذكاء يستطيع أن يتنبأ عن مصير عمله؛ ولهذا لا يمكن أن يوجه عمله إلا إلى ما يعتقد أن مصيره أفضلُ خيرٍ له. إذن ليس الإنسان حرًّا، بل هو مقيد بالمصير الذي يعتقده أفضل. هذا هو تعليل نظرية القيديين؛ أي منكري الحرية.

(١-٣) الاعتقاد غير المعرفة

ولكن هل اعتقاد المرء صائب دائمًا؟ ألا يمكن أن ما يعتقده أفضل خير له يُفضي إلى شرٍّ له؟ ألا يمكن أن تخالف النتائج ظنه؟ لنعد إلى المثل الأول.

سافرت إلى بلدٍ المدين وأنت واثقٌ أنك ستقبض الدين لأن المدين صادق الوعد، وقد عينتما الموعد والميعاد، ولكن عرض لك في الطريق صديق فأغراك بكأس من الخمرة، ثم أغراك بمقامرة برهة طويلة؛ ففات الوقت. فلما قصدت إلى المدين وجدته قد استبطأك، فتغيب لظنه أنك أرجأت استيفاء الدين إلى حين آخر. فهنا تغير ظرفك من الصحو إلى السُّكْر والمقامرة، ومن وجود المدين إلى تغيبه، فعلمك تغير إلى جهل، وبالتالي تغيرت النتيجة، وكان فشل بدل تحقيق الأمل؛ فندمت على ما فعلت.

إذن هنا تعود إلى وجدانك وتقول: لو لم أسكر وأقامر لما خبت مؤملًا. هنا قام لديك مبدأ الحرية: أما كنت حرًّا في أن تسكر أو لا تسكر؟ أما عرض لك أمران: إما أن تستمر في سفرك إلى المدين، أو أن تنصاع لصديقك؟ أما كنت مختارًا أحدَ أمرين؟

إنَّ ألم الندم يشهد بسوء اختيار الوجه الواحد، كما أن الفرح بتحقق الأمنية يشهد بحسن اختيار الوجه الآخر. والاختيار إثبات للحرية؛ فالحرية ليست أن تفعل ما تشاء بلا قيد ولا شرط، بل هي أن تختار بتعقل الأمر الذي تعتقد أنه أفضل نتيجة، فإذا ساءت النتيجة لم تكن إرادتك ملومة، بل كان تعقلك ملومًا؛ لأنه لم يحسن الإرشاد إلى النتيجة الفضلى، أو أنه كان جاهلًا المصير وتقلب الظروف.

إذا كان الإنسان أمام وجهين كل منهما مقرر النتيجة، وأفضلية إحدى النتيجتين على الأخرى مقررة، فهو بالطبع غير مخير؛ وبالتالي ليس حرًّا، ولكن مَن حكم له بأفضلية الوجه الواحد على الآخر؟ فهناك أخلاقه من شهوات وعواطف وأميال، وهناك تعقله الذي في يده ميزان الحق والصواب، وهناك ظروفه المتقلبة التي لا سلطة له عليها. كل هذه تتنازع الحكم وتقرير الأصوب والأفضل. والأفضل عند هذه غير الأفضل عند تلك، وغاية هذه غير غاية تلك. إذن مهما كان الأمر مقرر النتيجة فلا بد أن تجد الإرادة نفسها متقلبة بين هذه المتنازعات، ولها أن تختار؛ فهي إذن حرة.

(١-٤) الأفضل مشكوك فيه

وإذا لم يكن عند المرء تردد في الحكم فقد تجرَّد من التعقُّل والإرادة، فهو إذن حيوانٌ أو أبله أو مجنون أو سكران.

الحيوان لا يتردد في الحكم بأن يفترس حيوانًا آخر، إن كان من أكلة اللحوم، أو أن يأكل النباتات إن كان من أكلة النبات، فهو لا اختيار عنده ولا حرية.

ولكنَّ الإنسان — وهو حيوان عاقل — لا بد أن يجد في كل أمر وجهين أو وجوهًا، ويزن هذه الوجوه ليحكم في أفضلها ليختاره، فإن خاب أمله في الغاية التي ينشدها لام نفسه؛ أي تعقُّله، لأنه ناقص المعرفة فضلَّله، أو لامه لأنه ضعيف لم يتغلب على شهوته أو على خلقه الذي أفضى به إلى سوء المغبة.

ومهما اتسع اختبار المرء فهنالك أمور لم يختبرها، ولا بد من اختياره فيها ريثما يختبرها، ومهما اتسع علمه فهناك أمورٌ يجهلها، ولا بد من تردده فيها واختيار أحد وجوهها دون الآخر إلى أن يعلمها. ومهما سمت فضيلته فهناك أخلاقه وشهواته تتغلب عليه أيضًا، فهو في بحر من المتباينات التي لا بد له من الاختيار فيها.

(١-٥) المسئولية تقرر الحرية

هيهات أن يجد الإنسان نفسه أمام الأفضل المطلق حتَّى يقال: إنه ليس حرًّا ولا بد له من اعتناق هذا الأفضل، ولو كان الأفضل في كل الأمور مقررًا لَما بقي لزوم للعقل والتعقُّل والإرادة؛ فالأفضل واحد، وهو وحده يدعو الإنسان للفعل، ولو كان الخير مطلقًا وجليًّا للإنسان لَما كان الإنسان يضل عنه، وما كان ثمة خطأ، ولو كان الإنسان بلا أخلاقٍ ولا غرائزَ لما كان أيضًا لزومٌ للتعقل ليدرب أخلاقه وغرائزه، بل كان الإنسان كالحجر يقع إلى الأرض إذا زال ما يسنده أو يرفعه عن الأرض؛ إذ لا داعيَ لحركته غير جاذبية الأرض، أو كان كالسيار الذي يدور حول الشمس بلا حرية؛ لأنه مضطر أن يخضع لسنن الجاذبية والدافعية والاستمرار.

وأخيرًا إذا كان الإنسان غير حرٍّ؛ فما هو مسئول، ولا معنًى للإثم والصلاح حينئذٍ.

إذن يمكننا أن نُعرِّف الحرية بأنها اختيارٌ بين الأفعال التي تتباين فيها المحركات من أخلاق وغرائز وتعقلات، وتختلف فيها الظروف؛ فلدى هذه الأفعال الإنسانُ حرٌّ أن يختار فيما هو في مقدوره.

وإذن — أيضًا — الحرية محدودة غير مطلقة، فلا يمكن للإنسان أن يختار بين الطيران وهو بلا جناحين، وبين المشي وهو ذو قدمين، ولا يمكن أن يختار بين الأكل والصوم الدائم إذا كان لا يزال طامعًا بالحياة؛ أي إن الحرية لا معنى لها في المستحيلات، فهي محدودة في دائرة الممكنات، كذلك لا حرية عند مفاجأة الخطر؛ إذ لا بد من الهرب، كما لو فوجئت بهجوم أسد وأنت غير مسلح، فليس أمامك إلا التسلق على الشجرة.

(٢) حدود الحرية

لكي نعلم حقيقة الحرية يجب أن نعلم دوائر حدودها.

(٢-١) دوائر الحرية

  • فالدائرة الأولى: التي تحصر الحرية هي الأحوال الخارجة عن شخصية الإنسان، والتي لا تأثير له فيها بتاتًا، ولا قدرة له على تكييفها أو تغيير شيء فيها.

    ففي هذه الأحوال ليس الإنسان مسئولًا؛ لأنه ليس حرًّا. لا يمكنك أن تقول له: «يجب عليك»؛ لأنه يقول لك: «لا أقدر»، فحيث لا مقدرة فلا وجوب. لا حق لك أن تلوم فلانًا لعدم عَبْرِه النهر؛ لأنه لا يحسن السباحة بتاتًا، ولا أن تحرج ربَّان السفينة على السفر والبحر متلاطم الأمواج والعواصف، والأنواء مهددة له بالأخطار، ولا أن تلوم بانيَ البيت إذا هدم الزلزالُ البيتَ. إذن الدائرة الأولى هي دائرة المستحيلات.

  • الدائرة الثانية: هي كالدائرة الأولى خارجة عن شخصية الإنسان أيضًا، وليس له تأثيرٌ فيها بتاتًا، وإنما يمكنه أن يخرج منها إلى حريته إذا علم بها، فربان السفينة يمكنه أن يعدِل عن السفر إذا علم من الأنواء أخطار السفر.

    ولا يمكنك أن تلوم الراعي إذا فاجأه وحشٌ ضارٍ وافترس أحد خرافه، وإنما تلومه إذا رعى خرافه في مكان يعلم أنه مَسْبَعة أو مَضْبَعة؛ فهذه الدائرة هي دائرة المجهولات أو الجهل، حيث لا يحق لك أن تقول: «كان يجب» لمن يقول لك: «كنت أجهل».

  • الدائرة الثالثة: هي القسم الأسفل من ذاتية الإنسان غير خارجة عنه، ولكنَّها شديدة النفوذ والتمرُّد على إرادته؛ وهي غرائزه وأخلاقه الراسخة كشهواته وعواطفه وانفعالاته إلخ، فهذه تضيِّق دائرة حركته أيضًا؛ إذ يجد نفسه في بعض الأحوال مضطرًّا للفعل، ولو بعض الاضطرار، وله عذر أو بعض العذر. فالجوع كافر؛ ولذلك لم يرَ المسيح إثمًا في أن يقطف تلاميذه سنابل القمح ويأكلوها حين جاعوا. وقد يعذر الأب إذا غضب من غريم ابنه فضربه على الفور؛ لأن عاطفته الأبوية وانفعاله الغضبي لم يمهلا تعقله لكي يُؤثِر المسامحة على الانتقام.

    ولكن لأن هذه الدائرة مرسومة في ذاتية الإنسان فهي قابلة للمطِّ والتوسُّع؛ بأن يهذِّب الإنسان أخلاقه ويدمثها، ويتعوَّد قمع غرائزه، بحيث تتسيطر الإرادة عليها، وتكون أكثر حرية في الاختيار؛ ولذلك يتفاوت الناس في الأمة الواحدة من حيث هذه الدائرة تفاوتًا عظيمًا أو قليلًا، حسب نمط التربية والتعليم ودرجة البيئة الاجتماعية في الحضارة والرقي التمدني؛ فنجد أفرادًا أدمث خلقًا، وأضبط للأهواء، وأقمع للشهوات من أفراد، وكذلك نجد تباينًا في هذه الدائرة بين الأمم. إذن في هذه الدائرة تتسع حرية الفرد، أي ينبسط أمامه مجال الاختيار، فقلما يقول أو يصح له أن يقول: «كنت مضطرًّا أو لم أقدر.»

  • الدائرة الرابعة: هي القسم الآخر الأعلى من ذاتية الإنسان المقاومة للقسم الأول من ذاتيته، وهي تعقله الذي يناهض ثورة غرائزه، فهذه توسع دائرة حريته بأكثر مما تضيقها تلك. إذن يمكنك أن تقول لمَنْ اتَّخمَ من النَّهَم: «ألم تشعر بأنك شبعت؟ فلماذا نهمت؟ أما كنتَ تعلم أن التخمة تضرُّ المعدة وتُسبِّب المغص؟ أليس لك وجدان يصدُّ شراهتك؟»

    وهذه الدائرة قابلة للتوسع أيضًا كتلك بفعل التربية والتعليم والبيئة الاجتماعية أيضًا، والأفراد والجماعات متفاوتون فيها كما تقدم.

  • الدائرة الخامسة: وهي الذاتية الأدبية، هي دائرة الحرية العليا التي تدخل بنا إلى منطقة الواجب والحق. في الدوائر الأربع السالفة كان المخطئ يقول لك: لم أقدر، أو لم أعلم، أو كنت مضطرًّا، أو لم يخطر لي هكذا وهكذا، وإنما في هذه الدائرة يقول لك: كنت أقدر، وكنت أعلم، ولم أكن مضطرًّا، ولكني لم أُرِد.

    في الدوائر الأولى اصطاد زيد حمامة عَمْرٍو إما لأنه جائع ولم يستطع صبرًا على الجوع إلى أن يجد طعامًا آخر، أو أنه كان يظنها سائبة، أو يجهل أنها تخص فلانًا. وأما في الدائرة الخامسة فيصطاد زيدٌ حمامة عَمْرٍو مع علمه أنها لعَمْرٍو، ومع أنه غير جائع، وإنما يصطادها إذ ليس من يمنعه عن ذلك غير أدبية نفسه، فإذا كان أدبي النفس فيمتنع عن صيدها مهما كانت هناك مغريات له لصيدها.

(٢-٢) ذاتيات الإنسان الثلاث

فللإنسان إذن ثلاث ذاتيات متفاوتة في الدرجة: ذاتيته الطبيعية المشتملة على غرائزه، وذاتيته العقلية، وذاتيته الأدبية، وسلوكه أو تصرفاته التي هي نتيجة تفاعل هذه الذاتيات فيما بينها وبين الظروف المحيطة به. فكأنَّ هذه الذاتيات والظروف تصدر عوامل مختلفة القوى والاتجاهات، فبعضها أقوى من بعض، وبعضها أكثر استمرارًا من بعض، وبعضها يناقض بعضًا، وإنما لا بد من حصول فعل كنتيجة لتفاعلها، ولا بد أن يكون هذا الفعل متجهًا في جهة العامل المتغلب، أو في جهة هي حاصل جهات العوامل المختلفة الاتجاه، حسب سنَّة الحركة الطبيعية.

ولإيضاح ذلك نفرض أن زيدًا من الناس كان في متنزه عمومي يباح فيه شرب الخمرة، وهو يعلم أن شرب الخمرة منكر صحيًّا وأدبيًّا. ولزيادة الإيضاح نقيس قوة ذاتياته بالأرقام، فإذا كانت قوة ذاتيته البهيمية الغريزية مثلًا ٣، وقوة ذاتيته العقلية ٣، وقوة ذاتيته الأدبية ٣، كان اتجاهه إلى السكر متوسطًا بين عقله وأدب نفسه، فيشرب باعتدال ولا يسكر؛ لأن قوتيه العقلية والأدبية ضعفا قوته البهيمية، فتستميلانه إلى الاعتدال في الشرب، وإذا زادت قوته الأدبية نقصت قوته البهيمية بقدر زيادة تلك؛ وبالتالي مال اتجاهه عن الشرب إلى الامتناع بقدر ذلك، وبالعكس إذا اشتدَّت قوته البهيمية وضعفت قوته الأدبية مال إلى الانغماس في السُّكْر بنفس النسبة.

إذن تصرُّف الإنسان أو سلوكه إنما هو حاصل تفاعل هذه العوامل، ولولا وجود هذه العوامل المختلفة التي تتنازع وجهة تصرفه لما كان معنًى للقول: إنه حرٌّ أو غير حرٍّ. فوجود الإنسان في هذه الدوائر التي تحيط بشخصيته وتحصرها ضمن حدود معينة أوجد حريته، ولولا هذه الحدود التي نحن بصددها لكان بلا حرية البتة.

(٢-٣) ليست الحرية مطلقة

ولعل بعض القراء يتوهم أنه لولا هذه الحدود لكانت الحرية مطلقة إطلاقًا تامًّا. ولتبيان فساد هذا الوهم نُزيل هذه الدوائر الواحدة بعد الأخرى لنرى ماذا يكون، فلو أزلنا الدائرتين الأوليين: دائرة المستحيلات ودائرة المجهولات؛ لأصبح الإنسان قادرًا على كل شيء، أي لكان إلهًا؛ فإما أن يكون إلهًا شرِّيرًا إذا تغلبتْ غرائزه على أدبية نفسه، أو إلهًا صالحًا إذا كان العكس، وإذا أزلنا الدائرة الثالثة: دائرة الغرائز والأخلاق أيضًا، أصبح روحًا أدبية لا فعل لها؛ إذ لا قوة لها للفعل، وبالتالي لا يبقى محلٌّ للحكم على عملها إن كان حسنًا أو سيئًا؛ ولذلك لا يبقى محل للقول بحريتها.

وإذا أزلنا الدائرة الرابعة تلاشت الخامسة أيضًا؛ لأن القوة الأدبية مرتكزة على القوة العقلية، وحينئذٍ يصبح الإنسان جمادًا لا حياةً متحركةً، ولا عقلًا مدرِّبًا له، وبالتالي ينتفي معنى الحرية عنه كانتفائه عن الحجر: يصبح بلا حرية البتة كما أن الحجر ليس حرًّا في أن يرتفع عن الأرض أو أن يقع عليها؛ لأن ارتفاعه ووقوعه يتوقفان على ناموس الجاذبية والدافعية، فمتى رفعته قوة أجنبية ارتفع من غير أن يريد، ومتى تركته سقط من غير أن يريد.

(٢-٤) دوائر الحرية علة وجود الحرية

فإذن زوال هذه الدوائر المحددة الحرية لا يفضي إلى حرية مطلقة، بل بالعكس يقضي على الحرية بالفناء، وإنما وجود هذه الدوائر المحدِّدة للحرية يؤيد وجودها، وكلما زالت دائرة من دوائر الذاتية العليا سقطت دائرة حرية الفعل نفسه؛ فإذا زالت الدائرة الأدبية أصبح المرء إنسانًا شيطانيًّا جهنميًّا لا يقدر أن يعمل صالحًا، بل يصبح عبدَ شهواته، وإذا زالت الدائرة التعقلية أصبح المرء حيوانًا يضطر أن يفعل بما توجبه غرائزه.

فترى مما تقدم أن دوائر حدود الحرية هي علة وجود الحرية، وتعدد هذه الدوائر جعل مجال الحرية واسعًا.

فالحرية المطلقة غير موجودة، والحرية الواسعة العليا هي الحرية المنتشرة في الدوائر الأدبية.

(٢-٥) وجود الحرية شاهد على إنسانية الإنسان

قلنا: إن دائرة الحرية الأدبية هي التي يعرف فيها المرء الحق والصواب والخير ويقدر أن يفعله، ولكنَّه لأدبية في نفسه صالحة أو طالحة يريد أن يفعله أو لا يريد، فهي الحرية العليا، وبها يتميَّز الإنسان على الحيوان؛ لأنها صادرة عن ذاتية أدبية: فالأسد حرٌّ أن يجول هنا وهناك في البحث عن فريسته، ولكنَّه ليس حرًّا أن يأكل الفريسة أو لا يأكلها.

ففي هذه الدائرة تتسع حرية الاختيار، ولكنْ تضيق دائرة المختار. هنا يمكنك أن تقول: أريد هذا الخير أو لا أريده، ولكنَّ هذا الخير نفسه الذي أردته أصبح أضيق دائرة، فلا يسوغ لك ما يسوغ للحيوان الأعجم.

(٣) هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر؟

(٣-١) وحدة الحياة الإنسانية

إلى هنا بحثنا في حرية الإنسان، في تصرفاته وسلوكه، من الوجهة الطبيعية من حيث تصرفه نحو نفسه، أو من الوجهة الأدبية من حيث تصرفه فيما يمس الآداب الاجتماعية، وقصرنا البحث في ذلك على أفعاله منفصلة بعضها عن بعض؛ فهو يُخطئ هنا ويصيب هناك، ويأثم اليوم، ويُحسن عملًا غدًا، بحسب الظروف التي تتغلب عليه، وبحسب التقلبات التي تطرأ على أخلاقه وعقليته، ولكننا لم نبحث في عمل حياته كوحدة قائمة بذاتها لنعلم هل هو مسيَّر في هذا الإهمال أو هو مخيَّر. هذه مسألة أخرى تختلف عن مسألة الحرية التي تَبسَّطْنا فيها كفاية.

قلنا: إن الحرية محدودة؛ لأن الاختيار محدود، فأنت حرٌّ أن تأكل هذا أو ذاك، ولكنك لست حرًّا أن لا تأكل إذا كنت متمسكًا بالحياة، وأنت حرٌّ أن تنام في منزلك أو في الفندق، وعلى الفراش الوثير أو على الحصير، ولكنك لستَ حرًّا أن لا تنام بتاتًا، وأنت حرٌّ أن تسعى إلى المال عن طريق العمل الشريف، أو بالوسيلة الدنيئة، أو بالتعب، ولكنك لست حرًّا أن تعفَّ عن جمع المال إذا كانت شهوته شديدة فيك، وأنت حرٌّ أن تشمَّ الكوكايين، ولكنك لست حرًّا أن تمتنع عنه بعد أن تسلطت عادته عليك، وأنت حرٌّ أن تحب فلانة دون فلانة، ولكنك لست حرًّا أن لا تحبَّ. وهكذا تجد أن هناك أحوالًا وجدت فيها لا اختيار لك في الوجود فيها أو في الخروج منها.

(٣-٢) لا سيطرة للإنسان على مجرى حياته

إن من ولد زنجيًّا في وسط أفريقيا ليس ملومًا إذا لم يكن متمدنًا، وابن الفقر والحاجة غير ملوم إذا لم يتيسر له أن يكون عالمًا فيلسوفًا، وولي العهد مخلوق ليكون ملكًا، وشكسبير خلق ليكون شاعرًا، والشيخ سلامة حجازي خلق موهوبًا جمال الصوت، ومثله أم كلثوم وغيرها، وتشارلي تشابلن جاء إلى الوجود موهوبًا مزية الهزل، والشرير المجرم كان حظه أن يوجد في بيئة إجرام، ووارث الثروة حظه أنه غني.

فجميع هؤلاء وأمثالهم قلما كان لحريتهم تأثير في ظروف حياتهم التي وجدوا فيها، وإذا حللت حياة كل شخص تقريبًا وجدت أنها، كوحدة عمومية، هي ألعوبة الأقدار، ولا شأن لحريته في الاختيار إلا في أفعاله منفصلة؛ أي في كل فعل منها وحده، وقلَّما تجد ارتباطًا بين أفعاله بحيث تتسلسل الحرية والمسئولية فيها، وإلا لكان المرء صائب المسعى دائمًا.

(٣-٣) الإنسان ألعوبة القضاء والقدر

ولأن الإنسان يخطئ مرة ويصيب أخرى، ويأثم الآن ويحسن عملًا غدًا، تبعًا لتقلب أحواله ونفسياته، فلا يمكن أن يكون مسيطرًا على مجرى حياته من أول بلوغه إلى مماته، فكأنه ملقى في نهر من حوادث الحياة عريض طويل متعرج، والتيار والأمواج وخوض الآخرين معه. كل هذه تتقاذفه إلى هنا وهناك بالرغم من أنه يجاهد إلى أن يصل إلى البَرِّ؛ فقد يصادفه الحظ أن يقذفه التيار نحو الشاطئ، ولكن قد يتفق وجود بالوعة هناك فتغوص به وترده إلى جهة أخرى، فكأنَّ بلوغه إلى الشاطئ متوقف على القدر. مع ذلك هو يشعر أنه لا يستطيع الاتكال على القدر، بل يجاهد متجهًا إلى الشاطئ متحيِّنًا الفرص للاندفاع إليه، فإذا حدث ما قذفه عن الشاطئ كان ذلك من سوء حظه.

(٣-٤) التعقل يتقي القدر

فالإنسان في إجمال حياته مسيَّر غير مخيَّر، بمعنى أنه لا يستطيع أن يجزم بالغاية التي يرمي إليها، وإنما إذا كان يتعرف دائمًا السنن والنواميس الطبيعية والاجتماعية والأدبية، ويختبرها، ويحسن اختيار الأفضل، فيكون أضمن بلوغًا إلى الغاية الفضلى ممن يستسلم لحكم القدر الأعمى، ويتكل على البخت أو التوفيق وحده.

إذن الإنسان مسؤول عن تصرفاته وأفعاله المنفصلة كل واحد منها على حدة، ولكنَّه غير مسئول عن مجمل حياته ومصيرها؛ لأنه لا يقدر أن يسيطر إلا على حلقات أفعاله منفصلة، وأما سلسلتها المتصلة فلا يقدر أن يسيطر عليها، وإلا لكان كل فردٍ يصعد في سلَّم النجاح إلى القمة آمنًا السقوط.

تصح هذه النظرية على اعتبار أن الإنسان سليم العقل والجسد، بحيث تتيسَّر له قوة الحكم، ويتسنى له التمتع بنعمة الحرية، ولكنَّ هناك أفرادًا شاذِّينَ أَعِلَّاء العقلِ والأخلاقِ لا يستطيعون الحكم، ولا يحسنون الاختيار، ولا يقدرون أن يُرَوِّضوا غرائزهم ويقمعوا شهواتهم، ولا تسنَّت لهم عوامل لتهذيب أخلاقهم وتدميثها، فهؤلاء مسئوليتهم قليلة، والقوانين التي تساوي بينهم وبين أصحاب العقول والأخلاق تجور عليهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤