الفصل الرابع

الواجبات

(١) طائفة الواجبات

بحثنا فيما تقدم في رئيسيات الحقوق التي للفرد تجاه المجتمع، وهي الحقوق التي تتمثل للذهن قبل الواجبات التي تصحبها. وفيما يلي نبحث في الواجبات الرئيسية التي تتمثل للذهن قبل الحقوق المرافقة لها.

(١-١) شرعية الواجبات

الواجبات الشرعية القديمة مصوغة في وصايا أمرية ونهيية، كما نرى نماذجها في لوحي موسى الحجريين وفي غيرهما من شرائع الأمم القديمة والحديثة مصوغة بصيغة شرطية، وجواب الشرط هو العقاب، كقولك: من يَقتُل يُقتَل، فهي شرائع مكتوبة محدودة؛ ولهذا توسعتْ على تمادي الزمان حتى ملأتْ مجلدات.

ومع ذلك لا تزال ناقصة وذات عيوب؛ لأنه يتعذر بل يستحيل أن تجد قواعد شرعية أو مبادئ قانونية أو مواد شرائع تشمل كل حادث من الحوادث الاجتماعية، ولا سيما في هذا العصر الذي تعقدت فيه علائق الأفراد والأمم تعقدًا شديدًا؛ ولذلك لا غنى عن الالتجاء إلى مبادئ أدب النفس أو أولياته لتصحيح الحكم حتى في المحاكم القضائية، كما أنه لا بد من انتداب الضمير لتزكية الحكم.

فواجبات الفرد إنما هي زبدة أوليات أدب النفس وثمرة مبادئه، ومصدر هذه الواجبات كمصدر تلك الحقوق التي تقدم البحث فيها؛ أي النسبة التي بين الفرد والمجتمع. هي واجبات الفرد نحو النظام الاجتماعي، ومنها تشتق الواجبات المتبادلة بين الأفراد بحسب العلائق والنسب المتبادلة بينهم. وبقيام الفرد بهذه الواجبات يتيسر للمجتمع أن يستمر في رقيِّه مغدقًا المسرات والنِّعم على أعضائه.

(١-٢) واجب احترام النظام

إن قيمة القوانين القضائية والإدارية وفاعليتها تتوقفان على محافظة الجمهور على نظامه الاجتماعي، فحيث لا يحترم النظام تضعف سلطته، وتخيب فاعليته؛ فإذا كان الجندي لا يخضع لأمر قائده تضعف قوة الجيش حالًا، وإذا كان ينفذ أمر قائده ولو كان خطأ كانت كتلة الجيش متينة وقوته عظيمة؛ فاحترام النظام كالحب لا يؤذن بالانتقاد أو الاعتراض أو التدخل، بل يوجب الطاعة عند طلب التنفيذ، وإذا كان ثمة خطأ في نظام، أو أن النظام يقبل نقدًا أو اعتراضًا؛ فللهيئة الاشتراعية أن تنقح.

لذلك يجب أن نحترم الحاكم حتى ولو كان غير أهل للاحترام؛ لأننا نحترم فيه شخصية المجتمع، وكذلك نحترم الحكام ونحترم القضاء، ونطاوع السلطة التنفيذية كالشرطة ونحوها، وليس ذلك فقط، بل يجب أن ننفذ القوانين الإدارية من تلقاء أنفسنا من غير أن تكون ثمة عين الشرطي مراقبة لنا، وأن ندفع المكوس المفروضة بكل طيب خاطر، وأن نتجنب كل سلوك يعرض الأمن العام للخطر أو الفوضى. يجب أن نفعل كل هذه ونحوها حتى ولو كان في بعض الأنظمة التي توجبها خطأ أو جور أو حيف، نفعلها ما دامت في مقام التنفيذ حرصًا على سلامة المجتمع، وإنما لنا أن نسعى لتنقيحها بالأساليب الشرعية القانونية.

هذا الواجب يخولنا حق طلب حماية أشخاصنا وحياتنا وحريتنا وأموالنا من المجتمع، وإيجاد الوسائل العمومية التي تساعدنا على ترقية أنفسنا.

(١-٣) واجب احترام رأي الأكثرية

كثير من الأنظمة أو القوانين لا توافق مصلحتنا كأفراد، أو قد تضرُّ بنا أو تخالف أميالنا أو أذواقنا على الأقل؛ ولذلك يمكن أن نظنها خطأ أو ضلالًا، أو أن فيها غبنًا وحيفًا، وربما كان ظننا صائبًا. وإنما لأن الأنظمة تتقرر بحكم رأي الأكثرية تجب إطاعتها احترامًا لرأي الأكثرية، إلا إذا قبضت أقلية على زمام السلطة واستبدت، فيسوغ التمرد عليها.

وأما ما يتقرر بحكم الأكثرية فلا بد من احترامه حرصًا على سلامة المجتمع واستمراره في سبيل الرقيِّ والنجاح؛ لأنه لا برهان على حقانية الحق وعدالة العدل أقوى من قرار الأكثرية. وليس في الإمكان تنفيذ حق لم تقرره الأكثرية، فإذن لضمانة سلامة المجتمع يجب احترام رأي الأكثرية.

نرى نتيجة هذا الاحترام في القارة الأميركية؛ ففي الولايات المتحدة أول من يبادر لتهنئة الرئيس الجديد الذي فاز في الانتخاب هو خصمه، دلالة على خضوع جميع حزبه لقرار الأكثرية. وأما في جمهوريات أميركا الوسطى، فكان فوز الرئيس لا يتوقف على الانتخاب السلمي الخالي من الزيف، بل على حرب أهلية بين الحزبين، فالحزب الذي يغلب في الحرب تكون الرئاسة له ولو كان أقل عددًا. فهنا لا حرمة للأكثرية؛ ولهذا نرى الفرق في الرقيِّ بين الولايات المتحدة والجمهوريات الوسطى كالفرق بين السماوات والأرض.

وهذا الواجب يخوِّل حق المساواة بين الأكثرية والأقلية في جميع التمتعات التي تنال عن يد السلطة التي في قبضة الأكثرية.

(١-٤) واجب الحرص على نجاح المجتمع

الفرد يستمد حياته ونموه من حياة المجتمع، ويتمتع بما يغدقه عليه المجتمع من التمتعات، ونجاحه متوقف على نجاح المجتمع، كذلك نجاح المجتمع أو رقيه متوقف على نجاح أفراده وتضامنهم وتعاونهم وتوافقهم في أعمالهم وتصرفاتهم وعلائقهم بعضهم مع بعض؛ فلذلك على الفرد أن يصرف كل ما مُنح من قوًى ومواهب في العمل النافع له ولغيره، وللمجتمع على العموم، وإلا كان مذنبًا للمجتمع، وإن كان ينجو بذنبه من عقاب المجتمع في كثير من الأحوال.

فالأغنياء الوارثون الذين قيض لهم نظام الاجتماع الفردي أن يحصلوا على ثروات طائلة بلا بذل تعب في مقابلها إذا لم يستخدموا أموالهم في أعمال ومرافق يسترزق منها آخرون، وفي مشروعات خيرية كما فعل ركفلر وكارنجي، وكما يفعل الآن فورد وأضرابه، بل إذا جعلوا يبددونها في اللهو والبطالة والفساد والدعارة كانوا أعظم المجرمين، وكانوا يستحقون الشنق. إن استفحال هؤلاء ووفرة عددهم تسوِّغ تفضيل النظام الاشتراكي، وتبرر نشاط الاشتراكيين.

بعرق جبينك تأكل خيرك: أول شريعة دينية ظهرت على الأرض، وكان العمل بموجب هذه الشريعة عبادة؛ لأنها أول مبدأ جيد ارتشد إليه الإنسان بالاختبار الطويل منذ جعل يشطُّ عن طور الحيوانية إلى الإنسانية. فالعمل ضرب من عبادة الحق لثقة بحقانية نجاح المجتمع. وهذا ما يجعل المرء الحسن الإدارة أن يقف نفسه على العمل الصالح.

(١-٥) واجب الأمانة

كما أن لك حقوقًا على المجتمع — تقدم بيانها — هكذا لغيرك حقوق مثلها، فيجب عليك احترامها؛ كحقوق الحياة والحرية والملكية والمساواة إلخ، ذلك لأن النسبة التي بينك وبين المجتمع، والتي سوَّغت هذه الحقوق، إنما هي محققة بحسن العلائق بينك وبين إخوانك، فإذا كنت تتوقع من المجتمع أن يحمي حقوقك وجب عليك أن لا تعتدي على حقوق سواك، بل بالأحرى أن تحترمها، وإذا كان كل فرد يحترم حقوق الآخرين هكذا، بحيث لا يضطر المجتمع أن يعاني في سبيل حماية حقوق الأفراد، كانت العلائق بين الأفراد جيدة بقدر قلة المعاناة هذه. وبقدر جودة هذه العلائق تكون النسبة بين الفرد والمجتمع متينة، وبالتالي يكون نجاح كل من المجتمع والفرد أعظم.

إن واجب احترام حقوق الغير يستلزم الامتناع عن الغش والتزوير والخيانة والاختلاس والغبن والغدر ونحو ذلك مما يغمط حقوق الغير، فهذا الامتناع هو الأمانة بعينها.

(١-٦) واجب اعتبار شخصيات الغير

وإذا كانت جودة العلائق بين الأفراد لا تقتصر على الوجوه السلبية؛ أي عدم اعتداء الواحد على حقوق الآخرين، بل تشمل الوجوه الإيجابية أيضًا بحيث يتعاون الأفراد في ترقية أمورهم وإنجاحها، كانت العلائق أجود، والنسبة الاجتماعية أمتن، فإذا كان العالم يكتم علمه لنفسه، وذو الموهبة يخنقها، والمتمول يخزِّن ماله ولا يثمره، وكل شخص يقول: دعوني لنفسي يكفي أني لا أعتدي على حق أحد، كانت العلائق بين الأفراد رخوة وفاترة، وكان الرقيُّ ضعيفًا.

هذا الواجب يقوم برغبة الفرد في أن يشترك مع غيره في المشروعات العمومية المفيدة للجمهور، ولا سيما للعامة؛ كإنشاء الأندية الأدبية والعلمية والفنية والمعاهد والملاجئ، إلى غير ذلك مما يستفيد منه أعضاؤه وغيرهم فوائد عرفانية وغيرها.

إن داعي قيامك بهذا الواجب هو احترامك شخصية الغير، واعتبار أنهم من جبلة كجبلتك، ولهم قيمة اجتماعية كاجتماعيتك، وأنهم أعضاء لازمون للمجتمع كلزومك له؛ لذلك عليك أن تكون شخصًا اجتماعيًّا جيدًا، وأن تحترم الآخرين كأنهم أشخاص اجتماعيون جيدون مثلك.

(١-٧) واجب الصدق

إن صلاحية عضوية الفرد في جسم المجتمع تتوقف على إمكان التحامه في المجتمع واندماجه فيه، ولا يمكن أن يتمَّ هذا الاندماج إلا إذا كان الفرد يقدم شخصيته للمجتمع كما هي من غير ختل؛ أي أن يصدُق في قوله وفعله، فيفعل كما يقول، ويقول ما يعني؛ يجعل أفعاله مطابقة لأقواله، وأقواله مطابقة لمقاصده، فالفرد الذي يخاتل ويراوغ وينافق ويماذق لا يلبث أن يجد نفسه منبوذًا من جسم المجتمع كنبذ صديد الخُرَّاج؛ لأنه لا يوثق بقوله ولا بوعده.

فالصدق يُعنى به أن نقول ونفعل بحيث يكون تصرفنا في القول والفعل معربًا بأصرح ما يمكن عما نعتقد أنه حق، وأنه صدق، وما نقصد أن نحققه. فإذا تعذَّر علينا في بعض الأحوال أن نطبق فعلنا على قولنا، أو أن ننجز وعدنا، أو إذا أسيء فهم اعتقادنا لسوءِ تعبيرنا، إذا حدث كل هذا خلافًا لرغبتنا وقصدنا، كان لنا عذرٌ تجاه ضميرنا، وإن كان يتعذر علينا في بعض الأحوال أن نبرئ أنفسنا أمام غيرنا.

(٢) اعتبارات أخرى في الحقوق والواجبات

(٢-١) تصادم الحقوق والواجبات

تلك هي المبادئ الرئيسية للحقوق والواجبات، وقد وردت روحها في جميع الوصايا الدينية؛ كوصايا موسى العشر ونحوها، ولكنها لا تستوفي جميع المبادئ الأدبية التي تفرض واجبات على الفرد وتعين له حقوقًا، كما أنها لا تسلم من التناقض فيما بينها في كثير من الأحوال، مثال ذلك: أن حق الحرية وواجب احترام النظام كثيرًا ما يصطدمان، فيتعذر على المرء أن يقرر أيهما أجدر بأن يضحى، وأيهما أولى بأن يتغلب، كذلك قد يحتك واجب احترام حق الحياة بحق الملكية، فيغمط هذا الحق في سبيل ذاك الواجب، كما لو اغتصبت السكين من يد الشخص المزمع أن يرتكب جريمة القتل. وكذلك قد يتناقض واجب الصدق بواجب الحرص على الحياة، كأن تضلل مطاردي شخص عنه لإنقاذه منهم.

على هذا النحو تجد في حوادث الحياة اليومية كثيرًا من الأحوال والظروف التي تتناقض فيها الحقوق والواجبات، ويتعذر تمشيها معًا كمبادئ أدبية أولية.

وتناقضها على هذا النحو يفضي إلى ارتباك المرء حين يطرأ عليه حال من تلك الأحوال، فقد لا يدري كيف يفصل بينها، ولا أي المبادئ ينقض ولا أيها يؤيد، وأي الوصايا يعصي وأيها يطيع.

ولذلك تحاول الأنظمة الاجتماعية أن تسن قواعد لمخالفة الوصايا في الظروف الخاصة، وبهذه المحاولة ينفتح حقل واسع للاشتراع لا نهاية له، ومع ذلك لا يمكن أن يستوفى جميع الأحوال وحصرها ضمن قوانين محدودة، فلا بد إذن من العودة إلى العكس، أي إلى توحيد مبادئ الحقوق والواجبات الرئيسية، وردها إلى مبدأ واحد أعلى يرجع إليه المرء في الحكم والفصل بين المبدئين المتناقضين، فما هو المبدأ الأعلى؟

(٢-٢) المبدأ الأدبي الأعلى

هو المبدأ الأدبي الذي يأمرنا بأن نحقق وجود ذاتيتنا المتعقلة؛ أي نوجدها، وأن نولي شخصيتنا الأدبية المتعقلة الحكم في الأمر؛ فنجرد أنفسنا من الأهواء والأغراض، ونحكم في المسألة كأنها تخص أشخاصًا آخرين ونحن قضاة فيها، ونرى إن كان هذا الوجه أفضل من ذلك لحياة المجتمع، أو أن العقل الاجتماعي يوافق عليه، أو هل يطابق الرأي العام.

لعلك تقول: إن التبصرة في الأمر على هذا النحو لا تخلصنا من الارتباك والحيرة؛ ولذلك لا بد لنا من تفريع ذلك المبدأ الأعلى إلى مبادئ فرعية لكي نطبق المسألة على واحد منها، فكأنه لا غنى عن تعدد المبادئ والوصايا والشرائع.

تقول: لو كان تعدد الوصايا والشرائع ينقذنا من الحيرة والارتباك في الحكم حين تتصادم المبادئ الأدبية لكُنَّا نلجأ إليه، ولكننا نرى أنه كلما تفرعت المبادئ الأدبية وتعددت زاد ذلك التصادم واشتد الارتباك، فإذا كان تفرع المبادئ وتعددها ليس حين الارتباك أفضل ملجأ من توحدها في مبدأ واحد أعلى، أفليس تشبع النفس بمبدأ واحد أفضل من خبل العقل بمبادئ متعددة متفرعة بعضها من بعض؟

إن مسألة تصادم المبادئ الأدبية مسألة ضميرية بحتة، فإذا كان الضمير حيًّا، والإرادة حسنة، والعقل حكيمًا؛ فالخوف من خطأ الحكم قليل جدًّا. فالعبرة ليست بصيغة الوصايا والشرائع أدبية وغير أدبية، بل العبرة بالنسبة الأدبية، فحيث تكون النفس متأدبة؛ أي راقية في سلم الأدب النفسي، يكون الضمير صالحًا، والعقل حكيمًا، والإرادة حسنة؛ لذلك يفضل أن يبذل الجهد في تهذيب الأخلاق وتأديب النفوس على أن يبذل في تنقيح الشرائع وتوسيعها.

لأن الشرائع لا تصنع الشخصيات الأدبية، بل الشخصيات الأدبية تصنع الشرائع.

(٢-٣) تفصيل الواجبات

تختلف الواجبات من حيث صيغتها واحتمال القيام بها وضرورته، وهي:
  • أولًا: «الواجبات المحدودة» وهي الواجبات التي يمكن صوغها في صيغة محدودة من غير استثناء فيها، وهي التي تنص عليها الوصايا الشرعية التي يُفرض عقاب لمخالفتها؛ كوصايا الدين أو وصايا الحكومة، وهي على الغالب واجبات سلبية؛ أي واجب الامتناع كقولك: لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد زورًا.
  • ثانيًا: «الواجبات غير المحدودة» وهي التي يتعذر صوغها في صيغة محدودة كشريعة، ولكنها في الوقت نفسه ينتظر من كل شخص اجتماعي أن يقوم بها بحسب طاقته، كواجبات احترام النظام، واحترام الشخصيات، والحرص على نجاح المجتمع.
  • ثالثًا: «الواجبات المستثنية» وهي واجبات غير محدودة لا يمكن صوغها كشريعة، وفوق ذلك لا ينتظر من كل فرد أن يأتيها، ولا يمكن أن تؤتى في كل ظرف، بل هي تتوقف على طاقة الأشخاص وظروف الزمان والمكان كالمبرات مثلًا؛ فهي ليست واجبًا على كل شخص، وفي كل ظرف؛ فلا يمكن للفقير أن يحسن، وللضعيف أن ينجد. والطبيب يستطيع أن يسعف الآن، ولكنه إذا كان مريضًا فلا يستطيع، والقَويُّ يمكن أن ينجد في البر، ولكنه لا يستطيع النجدة في البحر؛ لأنه لا يحسن السباحة.

على أنه لا يستطاع وضع حدود قاطعة بين أنواع هذه الواجبات لأسباب مختلفة؛ أولًا: لأن الشرائع المصوغة صياغة محدودة قابلة للتغير والتبدل والتنقيح بحسب طبائع الأمم الاجتماعية، وبحسب الزمان والمكان، فالرِّبَا مثلًا جائز عند أمم وممنوع عند أخرى، وثانيًا: لاختلاف مقدرة الناس في القيام بالواجبات كما تقدم القول، ولاختلاف الظروف والأحوال التي تستدعيها.

(٢-٤) أدبية الواجبات

ثم إن جميع الواجبات شرعية وغير شرعية تعدُّ واجبات أدبية إذا كان المرء يقوم بها من تلقاء نفسه لاعتبار أنها حسنة، وأنها لازمة لخير المجتمع؛ فإذا كان يقوم بواجب خوفًا من عقاب، أو طمعًا بثواب؛ لم تعد أدبية، بل تكون إلزامية ولا حرية للإرادة فيها. وحيث لا تكون الإرادة حرة فلا يكون السلوك أدبيًّا.

وكلما كان فعل الواجب بعيدًا عن الاستلزام قرب إلى الفضيلة؛ لأن الفضيلة سجية تدفع الفاعل لعمل الواجب من تلقاء نفسه بلا تغرير ولا إغراء، ولا وعد ولا وعيد؛ لذلك يجب أن يترك تعيين الواجب أو تحديده لتبصرة المرء نفسه، وليس لعلم أدب النفس أن يقرر له واجباته؛ لأن الإنسان لم يترك بلا دليل، بل له مرشد في نفسه، وهو ضميره، وهو كشخص متعقل يجد في الظروف التي وجد فيه منهجه مختطًّا له بحدوده. وجميع الأفراد معًا يجدون أنفسهم في مناهج خاصة تسمح لهم أن يسيروا فيها بحسب نظام حيوي عام.

وواجباتهم الرئيسية مرتبطة بتنفيذ عملهم المطابق لهذا النظام.

(٢-٥) الواجبات العرفية

فيما عدا الواجبات الشرعية والواجبات الأدبية الأخرى نجد صنفًا من الواجبات ثانيًا من حيث طبيعته، ولكنه يحتم الطاعة؛ وهو الواجبات العرفية، كآداب المجاملة، وآداب المعاملات في الأعمال، وآداب احترام الشعائر والتقاليد المرعية إلخ. فجميع هذه الواجبات غير مفروضة فرضًا أدبيًّا، ولكنها في كثير من الأحوال ضرورية لاستقلال الشخصية، ولا سيما لأن كثيرًا منها لم ينشأ عبثًا، ولا يندر أن تكون عاصمة من الظلم والخطأ.

من أمثلة ذلك: الاعتراف بلقب الشريف ورتبته، واحترام شعائر دين من يخالفك في دينه، وعقيدة من خالفك في عقيدته، وإنزال كل شخص في منزلته الاجتماعية، واحترام اليمين، وطاعة الابن للأب، واحترام الشاب للشيخ، والامتناع عن التعريض بالعرض إلى غير ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤