الفصل الأول

في تاريخ سيناء منذ الفتح الإسلامي لمصر إلى عهد الأسرة المحمدية العلوية

(سنة ٦٤٠–١٨٠٥م)

(١) عصر النبي محمد (سنة ١–١١ﻫ/٦٢٢–٦٣٢م)

كان أول آثار الإسلام وأنفسها في سيناء العهد الذي أعطاه النبي محمد لأهل أيلة، ثم العهد الذي قيل إنه أعطاه لرهبان سيناء، وفي تقاليد بدو سيناء ورهبانها أن النبي محمدًا زار طور سيناء على جمل، فترك الجمل أثر قدمه على قمة الطور كما مرَّ.

(٢) عصر الخلفاء الراشدين سنة ١١–٤١ﻫ/٦٣٢–٦٦١م

ثم كان الفتح الإسلامي لمصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب على يد عمرو بن العاص، وقد دخل مصر بطريق الفرما مارًّا برفح والعريش كما قدَّمنا، وكان أول موضع قوتل فيه الفرما. قاومه الروم فيها مقاومة ضعيفة فاستولى عليها في أواخر سنة ٦٣٩م بعد قتال شهرين، ثم تقدم إلى بلبيس ففتحها، وأخذ يفتح مصر بلدًا بلدًا حتى فتحها كلها، وآخر بلد فتحها الإسكندرية سلمت له يوم الخميس غرة محرم سنة ٢٠ﻫ/٢١ ديسمبر سنة ٦٤٠م.

وكان العرب المسلمون قد أتموا فتح الشام سنة ٦٣٨م، وملكوا جزيرة العرب كلها والعراق؛ فأصبحت سيناء محاطة بالمسلمين من كل الجهات، وهاجر كثير من العرب المسلمين جزيرتهم إلى مصر وسوريا، فتخلَّف بعضهم في سيناء وأخضعوا أهلها وأدخلوهم في دين الإسلام، أو أجلوهم عنها واستوطنوها إلى اليوم.

(٣) الدولة الأموية سنة ٤١–١٣٢ﻫ/٦٦١–٧٥٠م

(٤) الدولة العباسية سنة ١٣٢–٦٥٦ﻫ/٧٥٠–١٢٥٨م

وبعد الخلفاء الراشدين قام على الإسلام الدولة الأموية، فجعلت مركزها دمشق الشام، ثم الدولة العباسية فجعلت مركزها بغداد، وقام على مصر في عهد هذه الدولة دولتان اغتصبتا الملك من العباسيين وهما:
  • الدولة الطولونية ٢٥٤–٢٩٣ﻫ/٨٦٨–٩٠٥م.

  • والدولة الإخشيدية ٣٢٤–٣٥٨ﻫ/٩٣٥–٩٦٩م.

ولم يكن لملوك هذه الدول الأربع على شهرتها آثار تذكر في سيناء، إلَّا أن سيناء كانت طريق سراياهم وسابلتهم، وقد أوقعوا بعض وقائعهم فيها.

ذُكر في تاريخ خمارويه أحد ملوك الدولة الطولونية أنه زوَّج ابنته «قطر الندى» للخليفة المعتضد، فجهَّزها جهازًا يضرب به المثل. من ذلك ٤٠٠٠ منطقة مرصعة وعشرة صناديق مملوءة جواهر وألف هاون من الذهب، ولما فرغ من جهازها أمر فبُني لها قصر على رأس كل مرحلة تنزل بها فيما بين مصر وبغداد، وجعل في كل قصر من أسباب الراحة والترف ما يصلح لمثلها في حال الإقامة.

(٤-١) وقعة في العريش سنة ٩٠٥م

وكان ببلدة العريش وقعة بين إبراهيم الخليجي الخارجي وعساكر المكتفي بالله في سنة ٩٠٥م، وحاصل ذلك على ما نقل في دائرة المعارف لابن الوردي: «أن الخليجي الخارجي واسمه إبراهيم كان أحد قواد بني طولون وكان في نواحي مصر، تخلف عن محمد بن سليمان من قوادهم أيضًا، وذلك لما ولَّى المكتفي عيسى بن محمد النوشري على مصر سنة مائتين واثنتين وتسعين، فكتب عيسى إلى المكتفي بالخبر، وكثرت جموع الخليجي وزحف إلى مصر، وخرج النوشري هاربًا إلى الإسكندرية وملك الخليجي مصر، وبعث المكتفي العساكر مع فاتك مولى أبيه المعتضد وبدر الحمامي وعلى مقدمتهم أحمد بن كيغلغ في جماعة من القواد، ولقيهم الخليجي على العريش في صفر سنة مائتين وثلاث وتسعين (ديسمبر سنة ٩٠٥م)، فهزمهم ثم تراجعوا وزحفوا عليه، وكانت بينهم حروب فني فيها أكثر أصحاب الخليجي وانهزم الباقون، فظفر عسكر بغداد ونجا الخليجي إلى فسطاط مصر واختفى به، ودخل قواد المكتفي المدينة وأخذوا الخليجي وحبسوه، فأخبر المكتفي بذلك فكتب بحمله إلى بغداد فبعث به فاتك فُحبس ببغداد.» ا.ﻫ.

(٤-٢) وقعة في العريش سنة ٩٣٩

«وفي سنة ٣٢٨ﻫ/٩٣٩م أعطى الخليفة الراضي بالله لقب أمير الأمراء لمحمد بن رائق حكمدار فلسطين، وكان مستقلًّا بالحكم عنه، فلاح له أن يغزو سوريا وكان عليها الأمير بدر من قبل محمد الإخشيد (والي مصر) فحاربه، فهرب بدر، فنهض محمد الإخشيد لإنجاده مستخلفًا في مصر أخاه الحسن وعسكر في الفرما، وكانت جيوش محمد بن رائق قد بلغت تلك البلد، فتدخل بعض الأمراء فتصالحا، وعاد محمد الإخشيد إلى الفسطاط، وما بلغها حتى جاءه الخبر أن محمد بن رائق برح دمشق وفي نيته مهاجمة مصر، فأسرع الإخشيد لملاقاته فالتقى مقدمة جيش ابن رائق في العريش، فأوقع فيهم وهزمهم وأسر خمسمائة رجل منهم …» ا.ﻫ.

(٥) الدولة الفاطمية سنة ٣٥٨–٥٦٧ﻫ/٩٦٩–١١٧١م

ثم كانت الدولة الفاطمية على مصر، فكان من آثارها في سيناء الجامع الذي بناه الآمر بأحكام الله عاشر خلفائها في وسط الدير كما مرَّ.

(٦) الحروب الصليبية ٤٨٩–٦٦٩ﻫ/١٠٩٦–١٢٧٠م

وفي عهد المستعلي ابن المستنصر سلف الآمر بدأت الحروب الصليبية الشهيرة التي أثارتها أوروبا على الشرق، وكان السبب الأعظم الذي استفز أوروبا لها «ظلم الأتراك السلجوقيين» لنصارى الشام وحجاج بيت المقدس. وكان الممثل الأكبر لهذا الظلم في أوروبا راهب فرنسي يدعى «بطرك الناسك»، وقد دامت هذه الحروب ٢٠٠ سنة ونيفًا غزا الأوربيون في أثنائها الشرق ثماني مرات، وكان بينهم وبين مصر والشام والعراق وقائع شتى لا نذكر منها هنا إلَّا ما كان له علاقة بتاريخ سيناء.

  • حرق الفرما: «ففي أواخر سنة ٥١١ﻫ/١١١٧م خرج بلدوين ملك الصليبيين من بيت المقدس لافتتاح مصر بجيش جرار، فوصل الفرما فاستولى عليها وذبح أهلها وأحرق جوامعها، وهمَّ أن يدخل مصر فداهمه مرض اضطره إلى العود حالًا، فعاد قاصدًا بيت المقدس، فمات قبل أن أدرك العريش بقليل، فنزعوا أحشاءه ودفنوها على تلة في الطريق وأقاموا على قبره حجرًا كبيرًا، ولا يزال ذلك المكان معروفًا إلى أيامنا هذه باسم بردويل كما مرَّ في باب الجغرافية، أمَّا جثته فحملوها إلى بيت المقدس ودفنوها هناك بجانب جثة أخيه فردريك.»
  • نهب الفرما: «وفي سنة ٥٤٨ﻫ/١١٥٣م جدَّد الصليبيون هجماتهم على سوريا ومصر، ونزلت العمارة السيسيلية على سواحل مصر وأحرقت مدينة تنيس في منتصف بحيرة المنزلة ونهبت الفرما، إلَّا أنها لم تتقدم أكثر من ذلك فأخذت ما أمكنها حمله من الغنائم وعادت من حيث أتت.»

«وفي سنة ٥٦٢ﻫ/١١٦٧م هاجم الصليبيون مصر عن طريق العريش وبلبيس ودخلوا القاهرة، ثم انسحبوا إلى سوريا بغنيمة.»

(٧) الدولة الأيوبية ٥٦٧–٦٤٨ﻫ/١١٧١–١٢٥٠م

وفي زوال الدولة الفاطمية قام على مصر صلاح الدين الأيوبي رأس الدولة الأيوبية، وهو من أعظم رجال التاريخ وأكبر ملوك الإسلام وأعرضهم جاهًا وأعلاهم قدرًا وأكرمهم خلقًا، وكان قائدًا عظيمًا وسياسيًّا محنكًا.

fig99
شكل ١-١: الملك المنصور السلطان يوسف صلاح الدين بن نجم الدين أيوب بن شادي.

«ولد بمدينة تكريت سنة ٥٣٢ﻫ / ١١٣٨م، وتوفي يوم الأربعاء ٢٧ صفر سنة ٥٨٩ﻫ/٤ مارس سنة ١١٩٣م، ودفن بمدينة دمشق الشام، أمَّا أبوه نجم الدين أيوب فتوفي ودفن بمصر يوم الثلاث ٢٧ الحجة سنة ٥٦٨ﻫ، وبعد سنتين نقلت جثته إلى المدينة المنورة مع جثة أخيه أسد الدين بأمر صلاح الدين، ودفنا في قبر جمال الدين الأصفهاني بالمدينة المنورة، أمَّا الملك الأفضل علي نور الدين أكبر أولاد صلاح الدين فتوفي ودفن بمدينة سميساط سنة ٦٢٠ﻫ.»

(٧-١) فتح أيلة ١١٧٠م

وكان له شأن كبير مع الصليبيين في أيلة ومصر وسوريا، أمَّا شأنه معهم في أيلة فقد تقدم ذكره في الكلام على أيلة عن وزيره القاضي الفاضل، وخلاصته «أنه في سنة ١١٧٠م سار من مصر بعصابة من رجاله الأشداء ومعه مراكب مفككة حملها على الإبل، ولما وصل عند أيلة (جزيرة فرعون) ركَّب المراكب وأنزلها البحر ونازل أيلة برًّا وبحرًا، وما زال حتى فتحها في ٢٠ ربيع آخر سنة ٥٦٦ﻫ/٣١ ديسمبر سنة ١١٧٠م، وجعل فيها جماعة من ثقاته وقوَّاهم بما يحتاجون إليه من سلاح وميرة، وعاد إلى مصر في آخر جمادى الأولى.»

fig100
شكل ١-٢: حفيد صلاح الدين الأيوبي محمد علي علوي. «ابن محمد علوي بك ابن علي بن محمود بن إسحاق بن إبراهيم بن علي بن يوسف بن مصطفى بن محمد بن البشير بن مصطفى بن علي بن إبراهيم بن محمد بن يوسف بن عثمان بن علي بن يوسف ابن الملك الأفضل علي نور الدين، ملك دمشق الشام، أكبر أولاد الملك المنصور السلطان يوسف صلاح الدين الأيوبي.»

والظاهر أنه هو أوَّل من أنشأ «طريق العريش» بعد خراب تنيس والفرما حوالي سنة ١١٦٥، وأنه في محاربة الصليبيين في أيلة طرق «درب الشعوي»، وقد أقام على هذه الطريق بقرب عين سدر قلعة حصينة تعرف بقلعة الجندي، وكل القرائن تدلُّ أنه هو باني قلعة مبعوق بوادي الراحة وقلعة فرعون في جزيرة فرعون كما مرَّ.

(٧-٢) قلعة الجندي

أمَّا قلعة الجندي، فإنها قائمة على رأس أكمة مرتفعة على نحو ميل شمالي عين سدر، وهذه الأكمة تنفصل عن جبال الراحة إلى الشرق وتكشف سهولًا وأودية وجبالًا شتى إلى كل الجهات، وقد مررت بهذه القلعة في رجوعي من نخل سنة ١٩٠٥، فقضيت نصف ساعة في تسلُّق أكمتها إلى أن وصلتها، فإذا هي متهدمة ولكن أنقاضها تدل على أنها كانت من الحصانة والفخامة والإتقان على جانب عظيم، ولها باب كبير في الجهة الشمالية الغربية، وفوق عتبة الباب حجر تاريخي عربي كبير مربع الشكل، نُقِش عليه بحروف ناتئة اسم باني القلعة وتاريخها، وهذه صورته:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد. خلد الله ملك مولانا الملك الناصر صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، الملك يوسف بن … العادل الناصري في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ﻫ (أغسطس ١١٨٧م).

fig101
شكل ١-٣: قلعة الجندي، وتعرف أيضًا بقلعة الباشا.

وفي الجهة الجنوبية من القلعة جامعان متجاوران: أحدهما الكبير ما زالت جدرانه قائمة تدلُّ على ما كان عليه في الأصل من جمال الصنعة والإتقان، وعلى بابه حجر تاريخي عليه كتابة متآكلة لم يبقَ منها إلَّا اسم الجلالة: «الله»، وفي محرابه كتابة متآكلة أيضًا باقٍ منها هذه العبارة: «بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم صلِّ على محمد.»

وتحت هذا الجامع صهريج ماء كبير كالصهاريج التي في قلعة جزيرة فرعون، وله باب في سقفه في صحن الجامع، وباب من الخارج في أسفل حائط الجامع الشرقي، يُنزل منه إلى الصهريج بسلم، ولهذا الباب سدٌّ من حجر نقش عليه هذه العبارة:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد، خلَّد الله ملك مولانا الناصر صلاح الدنيا والدين ملك الإسلام والمسلمين خليفة أمير المؤمنين. عمَّر هذا الصهريج والجامع الملك علي بن محمد بن الناصري العادل المظفر … الملك، وكان فراغه شهر شعبان سنة تسعين وخمسمائة ﻫ/١١٩٣م.

وأمَّا الجامع الثاني الصغير إلى الشمال منه فقد أدركه الخراب، ولم يبقَ منه إلَّا أساس محرابه، وقد قرأت على حجارته التي كانت مبعثرة بجانبه هذه الكتابة:

مما استعمله الملك الناصر صلاح الدنيا والدين الملك العادل سيف الدين، وتولَّى عمارته الأمير صلاح الدين عبد القادر، وكان فراغه في ذي القعة سنة ثمانٍ وتسعين وخمسمائة ﻫ/١٢٠١م.

ومات صلاح الدين ودفن في دمشق الشام سنة ٥٨٩ﻫ/١١٩٣م، ولكن ذكره لن يموت، وفي الشام ومصر والعراق عدة بيوت تنتسب إليه، ومنهم في مصر القاهرة محمد علي علوي بك، وهو ينتسب إلى الملك الأفضل أكبر أولاد صلاح الدين من جهة أبيه، وإلى النبي محمد من جهة أمه، وقد رأيت عمودي النسب اللذين يحفظهما من جهة أبيه وأمه، وأثبتُّ الأول منهما هنا، بل لو غاب عنا أصله لدلَّتنا عليه الأخلاق النبيلة التي انطبعت على جبينه وتجلَّت في أقواله وأفعاله. وأروع تلك الأخلاق: الشمم والمروءة والنجدة وعلو الهمة وسلامة القلب وشرف القصد والجرأة في الحق، ورأيت عنده فرمانًا سلطانيًّا بالتركية تاريخه ١٤ صفر سنة ١٣٢١ﻫ قال: «بهذا الفرمان أملك حصة في خدمة الحرم النبوي الشريف في المدينة قدرها نصف قيراط، ومرتبها في السنة من الوقف ست ليرات عثمانية يتناولها وكيلنا في المدينة الريس علي عبيد الويشي المؤذن بالحرم الشريف لأدائه الخدمة بالنيابة عنَّا، ونصف القيراط هذا أملك نصفه لأني من سلالة صلاح الدين الأيوبي، والنصف الآخر يملكه أكبر أولادي أحمد فؤاد؛ لأنه الوارث لوالدتي فاطمة التي هي من سلالة النبي ، ولقد كان عندي من آثار جدِّي صلاح الدين سيفه وسبحته، أمَّا السيف فقد استفزني عباس باشا الخديوي السابق وأنا صغير السن فأهديته إليه في ٢٥ يناير سنة ١٩٠١م، وأمَّا السبحة فقد أرسلتها هدية إلى مولاي عبد العزيز سلطان مراكش على يد وزيره المنبَّهي لما جاء إلى مصر سنة ١٩٠٦، ولكن هذا الوزير لم يوصلها إلى صاحبها، بل أهداها إلى الشريف عون الرفيق أمير مكة الأسبق رحمه الله.» ا.ﻫ.

قلت: ولمحمد علي علوي بك نجل يسمى باسمه له ملامح الرسم الذي قيل إنه رسم صلاح الدين كما ترى من مقابلة الرسمين هنا.

(٨) دولة المماليك البحرية (٦٤٨–٧٨٤ﻫ/١٢٥٠–١٣٨٢م)

وبعد الدولة الأيوبية قام على مصر دولة المماليك البحرية، وأعظم ملك قام فيها السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري (٦٥٨–٦٧٦ﻫ/١٢٦٠–١٢٧٧م)، وقد حارب الصليبيين نحو عشر سنوات من سنة ١٢٦١–١٢٧١، وكانوا قد عادوا إلى أيلة فاسترجعها منهم سنة ٦٦٥ﻫ/١٢٦٧م، وكانت طريق الحج المصري إلى هذا العهد تمر بعيذاب في الصحراء الشرقية، فلما فتح الملك الظاهر أيلة زار مكة بطريق السويس وأيلة سنة ٦٦٧ﻫ/١٢٢٩م، وصارت هذه الطريق طريق الحج المصري من ذلك الحين إلى سنة ١٨٨٤ إذ اتخذت طريق البحر إلى جدة كما مر.

واشتهر من ملوك هذه الدولة: السلطان منصور قلاوون (٦٧٨–٦٨٩ﻫ/١٢٧٩– ١٢٩٠م)، وكان من آثاره في سيناء أنه مهَّد نقب العقبة في درب الحج المصري، كما مر، والملك الناصر محمد بن قلاوون (٦٩٣–٧٤١ﻫ/١٢٩٣–١٣٤٠م)، وقد حج إلى مكة على درب الحج المصري على السويس وأيلة سنة ٧١٩ﻫ/١٣١٩م.

(٩) دولة المماليك الشراكسة ٧٨٤–٩٢٢ﻫ/١٣٨٢–١٥١٦م

ثم قامت دولة المماليك الشراكسة، فكان أشهرها السلطان قانصوه الغوري ٩٠٦–٩٢٢ﻫ/١٥٠١–١٦١٦م، وهو أكثر سلاطين مصر المسلمين آثارًا في سيناء، فإنه بنى القلاع على درب الحج المصري، ومنها قلعة نخل وقلعة العقبة، ومهَّد دبَّة البغلة ونقب العقبة كما مر في باب الجغرافية.

(١٠) الدولة العثمانية ٩٢٣–١٢١٣ﻫ/١٥١٧–١٧٩٨م

ثم كان الفتح العثماني لمصر على يد السلطان سليم الفاتح (٩١٨–٩٢٦ﻫ/١٥١٢–١٥٢٠م)، وذلك أنه قام بينه وبين السلطان قانصوه الغوري صاحب مصر خلاف أدَّى إلى الحرب، وكان قانصوه الغوري قد زحف بجيوشه من مصر فالتقى السلطان سليم في مرج دابق قرب حلب سنة ١٥١٦م فقُتل في الواقعة وانهزم جيشه، وسار السلطان سليم فافتتح غزة والعريش وقَطْيَة، ثم تقدم إلى الصالحية فالقاهرة ففتحها عنوة وقبض على الملك الأشرف طومان باي آخر سلاطين المماليك على مصر وشنقه على باب زويلة سنة ١٥١٧م، ومن ذلك الحين بقيت مصر تحت سلطة الأتراك أو سيادتهم إلى أن قامت الحرب الحاضرة سنة ١٩١٤ فخرجت من سيادتهم كما سيجيء.

وقد كان للسلطان سليم شأن مع رهبان طور سيناء، والمشهور أنه هو باني قلعة الطور التي خربت من أساسها ولم يبقَ من آثارهم إلَّا سجل «الأم» كما مر.

وقد قدَّمنا أن السلطان سليمان (٩٢٦–٩٧٤ﻫ/١٥٢٠–١٥٦٦م) هو باني قلعة العريش ومرمم قلعة نِخِل، وأن السلطان مرادًا الثالث (٩٨٢–١٠٠٣ﻫ/١٥٧٤–١٥٩٤م) رمَّم قلعة نخل ووسعها ورمم قلعة العقبة، وأن السلطان أحمد الثالث ابن السلطان محمد الرابع رمم قلعة نخل سنة ١١١٧ﻫ/١٧٠٥م.

(١١) الاحتلال الفرنساوي لمصر سنة  ١٢١٣– ١٢١٦ﻫ/١٨٩٨–١٨٠١م

fig102
شكل ١-٤: نابوليون بونابارت الكبير.
fig103
شكل ١-٥: اللورد نلسون الشهير.

ثم كان الاحتلال الفرنساوي لمصر على يد نابوليون بونابرت الشهير سنة ١٧٩٨، وكان من آثاره في سيناء أنه أقرَّ امتيازات الدير، ورمم قائده كليبر سور الدير كما مر، وكان له مع الأتراك والإنكليز شأن في قلعة العريش ومصر، وتفصيل ذلك: أنه لما قام بونابرت في فرنسا كانت مصر تتعثر بيد المماليك تحت سلطة الأتراك، وكان العداء مستحكمًا بين فرنسا وإنكلترا، فخطر لبونابرت احتلال مصر طمعًا بثروتها وأملًا بعرقلة تجارة الإنكليز في الهند، فسار إليها بجيش مؤلف من نحو ٤٠ ألف مقاتل و١٢٢ رجلًا من العلماء وأرباب الفنون، تقله ٧٠٠ سفينة وتصحبه عمارة بحرية مؤلفة من نحو ١٠٠ مركب حربي كبير وصغير، أكبرها مركب «الشرق» بقيادة الأميرال بُرويس، فنزل الإسكندرية في ٢ يوليو سنة ١٧٩٨ وافتتحها عنوة، ثم تقدم إلى مصر القاهرة فالتقاه مراد بك بنحو ٦٠٠٠٠ مقاتل عند إمبابة قرب الأهرام في ٢١ يوليو، فصف جنوده للقتال وخطب بهم قائلًا جملته المأثورة: «أيها الجند، إن أربعين قرنًا تنظر إليكم اليوم من أعلى هذه الأهرام.» ثم أمرهم بالهجوم فأوقعوا بعساكر مراد بك موقعة هائلة كان النصر فيها لهم، وملك بونابرت مصر.

على أن دخول بونابرت مصر أثار عليه الأتراك والإنكليز معًا، فاتحدوا على إخراجه منها؛ فأرسل الإنكليز إلى مصر عمارة معقودة اللواء للأميرال نلسن، فأدرك العمارة الفرنساوية في أبي قير في أول أغسطس فدمَّرها كلها تقريبًا وقتل أميرالها بُرويس، وبذلك قطع على الفرنساويين المواصلة مع أوروبا وترك للإنكليز السيادة المطلقة في البحر، فأخذوا يجهزون جيشًا لإنزاله مصر، وأصدر السلطان سليم الثالث منشورًا أعلن فيه الحرب على الفرنساويين، وشرع يحشد جيشًا كبيرًا في رودس وآخر في دمشق الشام لإجلاء بونابرت عن مصر، وأمر أحمد باشا الجزَّار والي عكا فأنفذ جيشًا احتل العريش، فبعث إليه بونابرت أن يخلي المدينة؛ لأنها ضمن حدود مصر فأبى.

وكان نابليون عالمًا بما يعدُّه الأتراك والإنكليز من الجيوش لمقاومته، فرأى ألَّا بد له لقمعهم وتثبيت قدمه في الشرق من فتح سوريا، فأعدَّ لذلك حملة مؤلفة من ١٣ ألف مقاتل من المشاة والطوبجية، وقد عهد في قيادة القاهرة والإسكندرية والصعيد إلى ثلاثة من قواده وحصَّن رشيد ودمياط، وفي ١ فبراير سنة ١٧٩٩ أمر الجنرال كليبر والجنرال رينير فسارا في مقدمة الجيش إلى العريش، وأرسل المثقلات وأدوات الحصار سرًّا في البحر، وفي ١٠ فبراير سار برًّا ببقية الجند وأخذ العريش في ١٩ فبراير سنة ١٧٩٩.

(١١-١) فتح نابليون العريش

وجاء في تاريخ الجبرتي من حوادث سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة (١٧٩٨م) «أن بونابرت سر عسكر الفرنساوية استولى على مدينة العريش في توجهه إلى الشام، وكان فيها جملة من المماليك ونحو ألف عسكري من المغاربة والأرنئوط، فحضر إليه الفرنسيس الذين كانوا في المقدمة في آخر شعبان (٥ فبراير ١٧٩٩م) وأحاطوا بالقلعة ووقع القتال بين الفريقين، واستمر من بالقلعة يدافعون عن أنفسهم إلى أن حضر بونابرت بجيوشه بعد أيام؛ فاشتد الحصار، فأرسل من بالعريش إلى غزة يستنصرون بهم، فأرسلوا لهم نحو السبعمائة عسكري وعليهم قاسم بك أمير البحرين، فلم يتمكنوا من الوصول إلى القلعة لتحلق الفرنساوية بها وإحاطتهم حولها، فنزلوا قريبًا من القلعة، فكبسهم عسكر الفرنسيس بالليل، فاستشهد قاسم بك وجماعته وانهزم الباقون، ولم يزل أهل القلعة يحاربون إلى أن فرغ منهم البارود والذخيرة، فطلبوا عند ذلك الأمان فأمنوهم، وذلك بعد حصار أربعة عشر يومًا، فلما نزلوا على أمانهم أرسلوا المماليك والكشاف إلى مصر مع الوصية بهم وتخلية سبيلهم، فحضروا مصر في الخامس والعشرين من رمضان (٢ مارس سنة ١٧٩٩) وأخذوا سلاحهم وخلَّوا سبيلهم، وأمَّا باقي العسكر الذين كانوا بقلعة العريش فبعضهم انضاف إلى الفرنساوية فأعطوهم جامكية وعلوفة وجعلوهم بالقلعة مع عسكرهم، والبعض لم يرضوا بذلك فأخذوا سلاحهم وأطلقوهم» … «ثم سار بونابرت إلى الشام قصد فتحها، فأخذ غزة بلا قتال، ثم أخذ يافا، وتقدم إلى عكا فحاصرها، وكان الإنكليز قد حضروا لنجدة الترك (بعمارة حربية يقودها السر سدني سمث)، فاضطر نابليون أن يرفع الحصار عن عكا ويرجع إلى مصر، وفي ٢ يونيو وصل الفرنساويون العريش، فأمر نابليون بتحصينها، وكان ماؤها كثير العلق فقاسى الفرنساويون كثيرًا منها، واستمروا راجعين إلى مصر فوصلوها (٢١ مايو) بعد أن قاسوا المشاق بها من حرِّ الصحراء وفتك الطاعون.» ا.ﻫ.

ولم يكادوا يستريحون من مشاقِّ هذه الحملة حتى وصل مصر الجيش الذي أعده السلطان في رودس، وكان يبلغ نحو ١٨٠٠٠ مقاتل، فنزلوا في أبي قير بقيادة مصطفى باشا، وقامت على حمايتهم في البحر العمارة الإنكليزية بقيادة السر سدني سمث، وكانت هناك حامية فرنساوية فهزموها، فأسرع بونابرت إليهم بنحو ٦٠٠٠ مقاتل، واشتد القتال بينه وبينهم، ففاز نابليون وأخذ مصطفى باشا أسيرًا (٢٥ يوليو)، وكان بين المقاتلين في صفوف العثمانيين «محمد علي» الذي كان له الشأن الأكبر في تاريخ مصر الحديث.

وحدث في فرنسا إذ ذاك ما استوجب رجوع نابليون إليها، فبرح مصر سرًّا في ٢٣ أغسطس سنة ١٧٩٩ وأناب عنه في مصر الجنرال كليبر، ولم يكن من رأي هذا القائد الحكيم احتلال مصر احتلالًا دائمًا لعدة أسباب: (١) اختلاف هوائها عن هواء بلاده. (٢) اختلاف أهلها عن أهله في العادات والأخلاق. (٣) نفرة الأهلين من الفرنساويين بسبب الاختلاف الديني. (٤) لأن الفرنساويين في احتلالهم مصر كان لا بد لهم من محاربة دولتين عظيمتين وهما إنكلترا وتركيا.

هذا ولم يكن لدى كليبر إذ ذاك من الجنود والذخائر ما يكفيه للقيام بما يستوجبه احتلال مصر والدفاع عنها زمنًا طويلًا، ولم تكن هناك عمارة تعزز مركزه بحرًا أو تمدُّه بنجدة عند الحاجة، وكان الجيش الفرنساوي قد نقص عدده، والجيش العظيم الذي كان يعدُّه السلطان في دمشق الشام قد زحف قاصدًا مصر بقيادة الصدر الأعظم يوسف باشا وقد وصل يافا؛ لذلك عقد كليبر النية على إخلاء القطر المصري بأول فرصة، فأخذ يفاوض السر سدني سمث أميرال العمارة الإنكليزية في الإسكندرية والصدر الأعظم يوسف باشا في أمر وفاق يوقفون فيه هذه الحرب؛ فانتهت المفاوضة بمؤتمر عُقد في العريش مؤلف من الصدر الأعظم من العثمانيين والجنرال ديزه والموسيو بوسيلك من الفرنساويين، وأقرُّوا على معاهدة صلح أُمضيت في ٣ ديسمبر سنة ١٧٩٩.

(١١-٢) استرجاع العريش

لكن هذه المعاهدة لم تطل مدتها، فإن العثمانيين خرقوها وهاجموا العريش وأخذوها عنوة في ٣٠ ديسمبر ١٧٩٩، قال الجبرتي: «وفي شهر رجب سنة ١٢١٤ﻫ وصل الوزير الأعظم يوسف باشا وصحبته نصوح باشا إلى العريش وحاصروها، وبعد قليل استولوا عليها في تاسع عشر الشهر، وقتلوا من بها من الفرنساوية، واستحوزوا على ما كان فيها من الذخيرة والجبة خانة وآلات الحرب، وصعد مصطفى باشا الذي باشر الاستيلاء على القلعة مع جملة من العسكر وبعض الأجناد المصرية إلى داخل القلعة، فاتفق أن وقعت نار على مكان بجبخانة البارود المخزون هناك؛ فاشتعلت وطارت القلعة بما فيها واحترقوا وماتوا، وفيهم الباشا المذكور، ومات كثير ممن كان خارجًا عنها وبقربها بما نزل عليهم من النار والأحجار.» ا.ﻫ.

ولما اتصل خبر سقوط العريش بالجنرال كليبر استشاط غضبًا، ولكنه كان عالمًا بعجزه، فعاد إلى المفاوضة بشأن الصلح، وعُقِد مؤتمر ثانٍ في العريش في ٢٤ يناير سنة ١٨٠٠ ممن عقدوا المؤتمر الأول وعثماني آخر، وأقروا على معاهدة عرفت «بمعاهدة العريش» مآلها أن يخرج الجيش الفرنساوي حرًّا من مصر، وأن تُقِلَّه المراكب الإنكليزية على نفقتها إلى فرنسا دون أن ينزع منه سلاحه، ولكن إنكلترا أبت الموافقة على هذه المعاهدة وطلبت من كليبر التسليم والجلاء بلا شرط، فعدَّ طلبها هذا إهانة، وكان يوسف باشا قد وصل بجيشه الكبير (نحو ٧٠ ألفًا) إلى المطرية، ولم يكن مع كليبر من الجنود إلا ١٠ آلاف، فهاجمه في ٢٠ مارس سنة ١٨٠٠ وهزمه شر انهزام.

وفي ١٤ يونيو سنة ١٨٠٠ هجم على كليبر وهو يتمشى في القاهرة شرير مأجور يدعى سليمان الحلبي، وطعنه بخنجر طعنات قضت عليه حالًا، فخلفه الجنرال «مينو».

fig104
شكل ١-٦: محمد علي باشا الكبير.

وفي ٨ مارس سنة ١٨٠١ أنزل الإنكليز إلى البر في أبي قير جيشًا (نحو ١٤ ألفًا) بقيادة السر رَلف أبركرومبي على رغم حامية الإسكندرية، وانتهى الخبر إلى «مينو» فترك في القاهرة ٥٠٠٠ مقاتل بقيادة «بليارد» وسار لملاقاة الإنكليز، فقابلهم قرب الإسكندرية في ٢١ مارس فغلب وانهزم إلى الإسكندرية، وجرح القائد الإنكليزي أبركرومبي في هذه المعركة ومات لثمانية أيام من نصره، فخلفه على الجيش الإنكليزي الجنرال هتشنسون، وقد أمكن تركيا في هذه الأثناء أن تمده بنجدة جديدة ضاعفت قوته فأرسل ١٢٠٠٠ مقاتل ففتح رشيد (١٩ أبريل) وزحف بجيشه على القاهرة، ثم لحق به يوسف باشا الصدر الأعظم بعد أن فتح دمياط، فاجتمع الجيشان تحت أسوار القاهرة فقاومهما «بليارد» حينًا ثم اضطر إلى مفاوضتهما في الصلح على شروط معاهدة العريش، وسلم القاهرة في ٢٦ يونيو سنة ١٨٠١، وفي ٧ أغسطس نقلته المراكب الإنكليزية هو وعساكره إلى فرنسا.

ولما علم «مينو» بتسليم «بليارد» اغتمَّ جدًّا وصمم على الدفاع حتى النفس الأخير.

وكان الإنكليز قد أرسلوا نجدة من الهند ٦٤٠٠ مقاتل من الإنكليز والهنود بقيادة الجنرال بيرد، فأتت بطريق القصير وقنا ووصلت القاهرة في ١٠ أغسطس، فسار هتشنسون بجيوشه إلى الإسكندرية وحصرها برًّا وبحرًا من كل الجهات، فاضطر «مينو» إلى التسليم في ٢ سبتمبر بالشروط التي سلَّم بها «بليارد»، وتم جلاء الفرنساويين عن مصر في منتصف أكتوبر سنة ١٨٠١، وقد فقدوا عمارتهم وفوق العشرة آلاف من جندهم.

وهكذا عادت مصر إلى تركيا بمعونة إنكلترا، ولكن ما ولَّى الإنكليز ظهورهم مصر حتى وقع نزاع شديد على السلطة فيها بين الألبانيين والمماليك، فتغلب حزب الألبانيين واختار المصريون «محمد علي باشا» حاكمًا عليهم، فثبتُّه الباب العالي، فكان رأس الأسرة المحمدية العلوية الكريمة التي ما زالت حاكمة في مصر وسيناء إلى هذا العهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤