مغامرة إبهام المهندس

من بين كلِّ القضايا التي قُدِّمَتْ لصديقي السيد شيرلوك هولمز خلال سنوات صداقتنا بحثًا عن حلول، ثَمَّةَ قضيَّتان فقط كنتُ أنا من لفتَ انتباهه إليهما: قضية إبهام السيد هاذرلي، وقضية جنون الكولونيل ووربرتن. من هاتَين القضيتَين، ربما تكون الثانية قد أتاحت لأي مُراقِبٍ مُبدع دقيق الملاحظة مجالًا أفضل لتوظيف مهاراته. أما القضية الأولى فقد كانت بدايتها شديدة الغرابة، وتفاصيلها شديدة الإثارة لدرجةٍ قد تجعلها الأجدَرَ بالتسجيل، حتى إن قَدَّمَتْ لصديقي هولمز فُرصًا أقل لتطبيق أساليب التفكير المنطقي الاستدلالي التي حقَّق بها مثل هذه النتائج الرائعة. لقد رُوِيَت القصة، حسبما أعتقِد، أكثر من مرَّة في الصحف، ولكن، مثلها مثل كل القصص الأخرى، كان وقْعُها عندما قُدِّمَت دَفْعةً واحدة في نصف عمود مطبوع أقلَّ بكثيرٍ من وقعِها حينما تتكشَّف الحقائق تدريجيًّا أمام عينيك ويزول الغموض شيئًا فشيئًا؛ حيث يُمهِّد كل اكتشافٍ جديد خطوة على الطريق نحو الحقيقة الكاملة. في ذلك الوقت كان للظروف وقْع شديد على نفسي، ولم يُسهِم كثيرًا انقضاء عامين في إضعاف تأثيرها عليَّ.

وقعَتِ الأحداث التي أنا بصدَدِ سردِها الآن بإيجازٍ في صيف عام ١٨٨٩، ليس بعد فترة طويلة من زواجي. كنتُ قد عدتُ للعمل المدَني بعد أن فارقتُ هولمز أخيرًا وهجرتُ الحياة معه في مسكنه في شارع بيكر، ولكنني كنتُ أزوره باستمرار، بل أُقنِعه أحيانًا بأن يتخلَّى عن عاداته البوهيمية إلى حدِّ قدومه لزيارتنا. زاد عملي باطِّراد، وبما أنَّني كنتُ أعيش على مسافةٍ ليست ببعيدة عن محطة بادينجتون، فقد كان يأتيني عدد قليل من المرضى من الموظفين. لم يَكِلَّ أحد هؤلاء المرضى، والذي كُنْتُ قد عالجتُه من مرضٍ طويلٍ ومؤلم، من نشر مناقِبي، ولا من السَّعي في إرسالي إلى كلِّ مريض قد يكون لذلك الشخص شيء من التأثير عليه.

في صباح أحد الأيام، قبل الساعة السابعة بقليل، استيقظتُ على صوت طرْقِ الخادمة على الباب لتُعلن قدوم رجُلَين قد أتَيا من بادينجتون وينتظران في غرفة الفحص. ارتديتُ ملابسي بسرعة وهُرِعت إلى الطابق السُّفلي، إذ كنتُ أعلم من واقِع التجربة أن الحالات التي تأتي من تلك المحطة نادرًا ما تكون بسيطة. عندما نزلت، خرج صديقي القديم، حارس القطارات، من الغرفة وأغلق الباب خلفه بإحكام.

همس وهو يُشير بإبهامه فوق كتفِه قائلًا: «لقد أتيتُ به إلى هنا؛ إنه على ما يُرام.»

«ما الأمر إذن؟» هكذا سألته؛ إذ كانت طريقته تُوحي بأنه يحتجِز مخلوقًا غريبًا في غرفتي.

همس قائلًا: «إنه مريض جديد، فكرت في أن أُحضِره إلى هنا بنفسي؛ وبذلك لن يتمكَّن من الهرَب. وها هو سليمٌ ومعافًى تمامًا. لا بدَّ أن أذهب الآن أيُّها الطبيب، فلديَّ عمل لأقوم به، مثلك تمامًا.» وذهب في الحال هذا المُرَوِّج الموثوق فيه دون حتى أن يمنحني الوقت لأشكُره.

دخلت غرفة الفحص ووجدتُ رجلًا يجلس بجانب الطاولة. كان يرتدي بذلةً بسيطة من صوف التويد ذي الألوان المُختلطة، وقُبَّعة من القماش الناعم كان قد وضعها فوق كُتبي، وكان ملفوفًا حول إحدى يدَيه منديلٌ ملطَّخٌ ببُقَعٍ من الدم. كان شابًّا، أكاد أجزِم أن عُمره لا يزيد على خمسٍ وعشرين سنة، ذا وجهٍ ذكوري قوي؛ ولكنه كان شديد الشحوب، وأعطاني إيحاءً بأنه يُعاني من اضطرابٍ شديد استنزف الشابُّ كلَّ قُواه الذهنية ليُسيطر عليه.

قال: «أنا آسف لإيقاظك في وقتٍ مُبكِّر كهذا أيها الطبيب، ولكنني تعرضتُ لحادثٍ خطير للغاية ليلًا. لقد جئتُ بالقطار هذا الصباح، وبعدما سألتُ في بادينجتون عن مكانٍ قد أجد فيه طبيبًا، تكرَّم أحد الرجال المُحترمين باصطحابي إلى هنا. لقد أعطيتُ الخادمة بطاقة، ولكنني أرى أنها قد تركتْها على الطاولة الجانبية.»

أخذتُ البطاقة وألقَيتُ عليها نظرة. كان مكتوبًا عليها: «السيد فيكتور هاذرلي، مهندس هيدروليكي، ١٦أ شارع فيكتوريا ستريت، الطابق الثالث.» كان هذا هو اسم زائري الصباحي ومِهنته وعنوانه. حدَّثتُه قائلًا وأنا أجلس على مقعد مكتبي: «أعتذِر إليك عن الوقت الذي انتظرتَني فيه. يبدو أنك قد عُدتَ لتوِّك من رحلة ليلية. أتفهَّم هذا. وهو في حدِّ ذاته أمر رتيب.»

ردَّ قائلًا: «أوه، لا يُمكنني وصفُ ليلتي، التي قضيتُها، بالرَّتابة.» ثم ضحك. ضحك ضحكًا شديدًا بنغمةٍ عالية رنَّانة وهو يُرجِع ظهره إلى الخلف ويهزُّ جانبَيه. أثارت هذه الضحكة حفيظةَ كلِّ غرائزي الطبية، فصحتُ قائلًا: «توقف! تمالك أعصابك!» ثم صبَبْتُ له بعض الماء من الإبريق.

ولكن مُحاولتي لتهدئتِه باءت بالفشل، فقد انفجر في واحدة من النوبات الهستيرية التي تصيب الأشخاص أصحاب الطبيعة النفسية القوية بعد مرورهم بأزمةٍ كبيرة وانتهائها. سرعان ما عاد لطبيعتِهِ مرة أخرى، وبدا كما كان؛ مُنهَكًا وشاحبًا للغاية.

شهق قائلًا: «لقد جعلتُ من نفسي أضحوكة.»

«على الإطلاق، اشرب هذا.» صببتُ بعض البراندي في الماء، فبدأتْ حُمرة الدماء تعود لوجنتَيه الشاحبتَين.

قال: «هذا أفضل! والآن أيها الطبيب، أتمنَّى أن تتكرَّم بالعناية بإبهامي، أو على الأرجح بالموضع الذي طالما كان فيه إبهامي.»

فكَّ المنديل من فوق الجُرْح ومدَّ يده. وعلى الرغم من قوَّةِ أعصابي، فقد أصابَني منظره بالقُشَعْريرة. كانت تُوجَد أربع أصابع بارزة وسطح أحمر إسفنجي بَشِع المنظر بدلًا من الإبهام، الذي يبدو أنه قد بُتِرَ أو اقتُطِعَ من جُذوره.

صحتُ قائلًا: «يا إلهي! هذا جُرح فظيع! لا بدَّ أنه نزَفَ الكثير من الدماء!»

«أجل، هذا صحيح. لقد فقدْتُ الوعي عندما قُطِعَ، وأعتقِد أنَّني ظللتُ فاقدًا الوعي لوقتٍ طويل. عندما أفقتُ وجدتُه لا يزال ينزف؛ لذا ربطتُ أطراف منديلي حول معصمي بإحكامٍ ثُمَّ استخدمتُ غُصَيْنًا كدعامة.»

«ممتاز! كان يجِب أن تصير جرَّاحًا.»

«إنها مسألة هيدروليكية كما ترى، وهو تخصُّصي.»

قلتُ وأنا أفحص الجُرح: «لقد أحدثتْ آلةٌ حادَّة وثقيلة للغاية هذا الجُرح.»

ردَّ قائلًا: «إنه شيء يُشبِهُ الساطور.»

«حادثٌ حسبما أعتقِد. أليس كذلك؟»

«لا، مُطلقًا.»

«ماذا! هجومٌ دامٍ إذن؟»

«شديد الدموية بالفعل.»

«إنك تُرعِبني.»

أزلتُ الدماء من فوق الجرح ونظَّفتُه ووضعتُ عليه شاشًا ثم غطَّيته أخيرًا بقِطعة من القُطن وضمَّادةٍ مُطهِّرة بالفينول. كان مُستلقيًا دون أن يَرمُش له جفن، ولكنه كان يَعَضُّ على شفتَيه ألمًا بين وقتٍ وآخَر.

سألته عندما انتهيت: «كيف تشعُر؟»

«ممتاز! بعد البراندي والضمادَّات أشعُر كأنني إنسان جديد! لقد كنتُ واهنًا للغاية، ولكنني تعرَّضتُ للكثير من الصعاب.»

«ربما من الأفضل ألا تتحدَّث عن الأمر؛ فمن الواضح أنه يُتعِب أعصابك.»

«أوه لا! ليس الآن. يجِب أن أُبلغ الشرطة بحكايتي، ولكن لا أخفيك سرًّا، لولا هذا الجرح الذي يُمثِّل دليلًا مُقنعًا كنت سأندهش إن صدَّقوا روايتي؛ فهي شديدة الغرابة وليس لديَّ الكثير من الأدلَّة لتدعمها. وحتى إن صدقوني، فالقرائن التي يُمكنني أن أقدِّمها لهم غامضة للغاية، حتى إنَّ تطبيق العدالة سيصير أمرًا محلَّ شك.»

صحت قائلًا: «ها! إن كان الأمر له طابع المشكلة وترغب في حلِّها، فأنصحك بشدَّة بأن تأتي لزيارة صديقي السيد شيرلوك هولمز قبل أن تتوجَّه إلى الشرطة.»

ردَّ زائري قائلًا: «أوه، لقد سمعتُ عن هذا الرجل، وسأكون سعيدًا للغاية إن قبل تولِّي الأمر، رغم أنه يجِب أيضًا أن ألجأ إلى الشرطة الرسمية. هل يُمكنك أن تُخبرني نُبْذة عنه؟»

«سأفعل ما هو أفضل، سأصطحبك إليه بنفسي.»

«سأكون في غاية الامتنان لك.»

«سنطلب عربة أجرة ونذهب سويًّا؛ سنصل في الوقت المناسب تمامًا لتناول وجبة إفطار خفيفة معه. هل أنت قادر على ذلك؟»

«أجل؛ لن أشعُر بالراحة حتى أقُصَّ حكايتي.»

«سيطلُب خادمي عربة أجرة إذن، وسأكون معك بعد لحظة.» هُرِعت إلى الطابق العلويِّ وشرحت الأمر بإيجاز لزوجتي، وفي غضون خمس دقائق كنتُ داخل عربة أجرة يجرُّها حصان مع رفيقي الجديد في طريقنا إلى شارع بيكر.

كما توقعت، كان شيرلوك هولمز يجلس مُسترخيًا في غرفة جلوسه يقرأ عمود مشكلات القرَّاء بجريدة ذا تايمز وهو يرتدي روبه ويُدخِّن غليونه الروتيني قبل الإفطار، وهو غليون يتكوَّن من بواقي تبغ اليوم السابق الذي يُجفِّفه ويجمعه بحرصٍ ويضعه في ركنٍ على رفِّ الموقد. استقبَلَنا بأسلوبه الهادئ اللطيف، وطلب إعداد شرائح من لحم الخنزير والبيض، وشاركنا تناول تلك الوجبة الدسمة. بعد انتهائنا من الإفطار، هيَّأ لرفيقنا الجديد جِلْسةً مُريحة على الأريكة، واضعًا وسادة تحت رأسه وكأسًا من البراندي والماء في مُتناول يدِه.

قال شيرلوك: «من السهل رؤية أن التَّجْرِبة التي مررْتَ بها لم تكن عاديَّة يا سيد هاذرلي. أرجوك استلقِ هناك واعتبِر نفسك في بيتك تمامًا. أخبرنا بقدْر ما تستطيع، ولكن توقَّف عندما تشعُر بالتعب، وحافظ على قوتك باحتساء القليل من هذا المُنَبِّه.»

ردَّ مريضي قائلًا: «أشكرك، ولكنني أشعُر كأنَّني إنسان جديد منذ أن ضمَّد الطبيب جُرحي، وأعتقد أن إفطارك قد أتمَّ شفائي. سآخُذ من وقتك الثمين أقلَّ قسطٍ ممكن؛ لذا سأبدأ على الفور بسرْد تَجْرِبتي الغريبة.»

جلس هولمز في مقعده الكبير وقد ارتسم على وجهه ذلك التعبير المُرهَق الناعِس الذي يُخفي طبيعته المُتحمِّسة المُتَّقِدة، بينما جلستُ أمامه، واستمعنا بإنصاتٍ إلى القصة الغريبة التي سرد لنا زائرنا تفاصيلها.

استهل قصته قائلًا: «لا بدَّ أن تعرفوا أنَّني يتيم وعَزَب أعيش وحدي في مسكنٍ مُستأجَر في لندن. أعمل مهندسًا هيدروليكيًّا، وقد اكتسبتُ خبرةً كبيرة في هذا المجال خلال السنوات السبع التي كنتُ أعمل فيها تحت التدريب في شركة فينر آند ماثيسُن المعروفة في جرينيتش. بعد أن أتممتُ فترة عملي تحت التدريب منذ عامين. وبعدما ورثتُ قدرًا لا بأس به من المال بعد وفاة أبي المسكين، قررتُ أن أبدأ عملي الخاصَّ واستأجرتُ شقةً مكتبية في شارع فيكتوريا ستريت.

أعتقد أن الجميع يجدون انطلاقتهم الأولى المُستقلَّة في عالم الأعمال تجربة بائسة. بالنسبة إليَّ كانت بائسة بصورةٍ غير عادية؛ فخلال عامين لم أستقبل إلا ثلاث استشارات ومشروعًا واحدًا صغيرًا، وهذا هو كلُّ ما جلبتْهُ لي مِهنتي. بلَغَ إجمالي إيراداتي ٢٧ جنيهًا إسترلينيًّا و١٠ شلنات. كنتُ أظلُّ مُنتظرًا في مقرِّي الصغير يوميًّا من التاسعة صباحًا إلى الرابعة مساءً، وأخيرًا بدأ القُنُوط يستولي على قلبي، وصرتُ أعتقد أنه لم يكن يجدُر بي أن أبدأ عملي الخاص من الأساس.

لكن أمس بينما كنتُ أفكِّر في مُغادَرة المكتب، دخل مُساعدي ليُخبرني أن ثَمَّ رجلًا ينتظرني ويرغب في رؤيتي ليُناقِش مسألة عمل، وقدَّم لي بطاقةً منقوشًا عليها اسم «الكولونيل ليساندر ستارك». دخل في عقِب مساعدي مباشرة الكولونيل نفسه؛ كان رجلًا طوله فوق المتوسط، ولكنه شديد النحافة. لا أعتقد أنني قد رأيتُ رجلًا بمِثل هذه النحافة مُطلقًا من قبل. بدا وجهه وكأنه اختُزِل في أنفٍ وذقن، وكان جلد وجنتَيه مشدودًا للغاية على عظامه البارزة. وعلى الرغم من ذلك، فقد بدا أن هذا النُّحول هو طبيعته الأصلية، وليس بسبب مرضٍ ما، إذ كان لامع العينَين، رشيقَ الخُطى، واثِق السَّمت. كان يرتدي ملابس بسيطة، ولكنه حسَن الهندام، وكان عمره — في تقديري — أقرب إلى الأربعين من الثلاثين.

بادَرَني بشيءٍ من اللهجة الألمانية قائلًا: «هل أنت السيد هاذرلي؟ لقد رُشِّحتَ لي يا سيد هاذرلي، ليس فقط لكونك بارعًا في مِهنتك، بل كتومًا وحافظًا للسِّرِّ أيضًا.»

كأيِّ شابٍّ في موقفٍ مُشابِهٍ انحنيتُ شاكرًا وأنا أشعُر بالإطراء لِما قاله. وسألته: «هل لي أن أسأل مَن الذي وصفَني بهذه الصِّفات الحميدة؟»

فردَّ قائلًا: «حسنًا، ربما من الأفضل ألَّا أُخبرك بذلك حاليًّا. لقد عرفتُ من المصدر نفسه أنك يتيم وعَزَب، وأنك تُقيم وحدَك في لندن.»

أجبتُه قائلًا: «هذا صحيح تمامًا، ولكن عذرًا، أنا لا أعلم ما هي صِلة كلِّ هذا بمُؤهِّلاتي المِهنيَّة. كنتَ ترغبُ في التحدُّث معي بخصوص مسألةٍ تتعلَّق بالعمل كما أفهم. صحيح؟»

«بلا شك، ولكنك ستجِد أن كلَّ ما أقوله وثيق الصِّلة بصُلب الموضوع. لديَّ عمل لأوكله إليك، ولكنَّ السِّرِّيَّة التَّامَّة ضروريَّة جدًّا؛ السِّرِّيَّة التَّامَّة، كما تفهم. وبالطبع نحن نتوقَّع توافُر ذلك في رجلٍ يعيش وحده مُقارنة بمن يعيش في كنَفِ عائلته.»

أجبتُه قائلًا: «إذا قطعتُ وعدًا بأن أحفظ سرًّا، فاطمئنَّ تمامًا أنَّني سأحفظه.»

كان ينظر إليَّ بحدَّة شديدة وأنا أتحدَّث، وبدا لي أنَّني لم أُشاهِد هذا القدْر من التشكُّك والتساؤل في عَين أيِّ شخصٍ من قبل.

ردَّ أخيرًا: «هل تعِدُني إذن؟»

«أجل، أعِدُك.»

«تعِدُني بالسِّرِّيَّة التَّامَّة والمُطلَقة قبل المهمَّة وأثناءها وبعد الانتهاء منها، وبألا تذكُر الأمر لا من قريب ولا من بعيد لا كتابة ولا شفاهة؟»

«لقد قطعتُ عهدًا لك بذلك بالفعل.»

ردَّ قائلًا: «جيد جدًّا.» ثم نهض فجأة وانطلق كالبرْق عبر الغُرفة وفتح الباب على مصراعيه. كان الممرُّ بالخارج خاليًا.

قال وهو يَدْلُف داخلًا مرة أخرى: «كل شيء على ما يُرام. أعلم أن المُوظَّفين يتملَّكهم الفضول أحيانًا لمعرفة شئون رؤسائهم، ولكن الآن يُمكننا التحدُّث بأمان.» سحب مقعده بالقُرب منِّي جدًّا وبدأ يُحدِّق فيَّ مجدَّدًا بالنظرة الفاحِصة المُتسائلة نفسها.

بدأ شعور بالنفور وشيء من الخوف يتنامى داخلي بسبب السلوكيَّات الغريبة لهذا الرجل النحيل، وحتى خَوفي من خسارة عميل لم يمنَعْني من التعبير عن نفادِ صبري.

فقلت: «أخبِرْني بما تُريد يا سيدي من فضلك؛ إن وقتي ثمين.» ليُسامحني الرَّبُّ على هذه العبارة الأخيرة، ولكنَّني قلتُها دون تفكير.

سألني قائلًا: «هل يُناسِبك خمسون جنيهًا للعمل في الليلة؟»

«يُناسِبني جدًّا.»

«أقول إن المبلغ هو لقاء العمل في ليلةٍ واحدة، ولكنه، بتعبيرٍ أدقَّ، سيكون لقاء العمل في ساعةٍ واحدة. أحتاج ببساطةٍ إلى مشورتك بشأن ماكينة دمغ هيدروليكيَّة قد أصابها عطل. إذا وضعْتَ يدك على المُشكلة، فسيُمكننا أن نُصلِحها بأنفسنا، فما رأيك في مثل هذه المهمَّة؟»

«يبدو أنه عمل سهل والأجر لقاءه سخيٌّ.»

«بالضبط. نرغب في أن تأتي الليلة مُستقلًّا آخر قطار.»

«إلى أين؟»

«إلى آيفورد في بيركشير. إنه مكان صغير بالقُرب من حدود أكسفوردشير، وعلى بُعد سبعة أميال من ريدينج. ينطلِق قطار من بادينجتون سيوصلك إلى هناك في حوالي الحادية عشرة والربع.»

«جيد جدًّا.»

«سآتي في عربة لاستقبالك.»

«إذن، هل يعني هذا أنَّنا سنقطع مسافةً كبيرة لنصِل؟»

«أجل، يقع مكاننا الصغير في منطقة ريفية بعيدة إلى حدٍّ ما. إنه على بُعد سبعة أميال من محطة آيفورد.»

«إذن لن نصِل هناك قبل مُنتصف الليل. أعتقِد أنه لن تكون هناك فرصة للعودة بالقطار. سأكون مُجبرًا على قضاء الليلة هناك.»

«أجل، يُمكِننا أن نُدبِّر لك فراشًا للنوم بكلِّ سهولة.»

«هذا غريب جدًّا. ألا يُمكنني أن آتي في وقتٍ أكثر مُلاءمة؟»

«لقد رأيْنا أنه من الأفضل أن تأتي في ساعةٍ مُتأخِّرة. ولكي نُعوِّضك عن أيِّ مصاعِب، سندفع لشابٍّ غير معروف مثلك هذا الأجر الذي يُمكننا دفعه لاستشارة كبار الخُبراء في مِهنتك. ولكن بالطبع إذا كنتَ ترغبُ في الانسحاب من هذه المهمَّة، فهناك مُتَّسع من الوقت لذلك.»

فكرتُ في الخمسين جنيهًا وكم ستكون مُفيدة جدًّا لي، فقلت له: «لا، إطلاقًا، سأكون في غاية السعادة أن أُوفِّق أموري طبقًا لرغباتك. ولكنني أودُّ أن أفهم بصورةٍ أوضح، ما الذي تُريدُني أن أفعله.»

«بالتأكيد. من الطبيعيِّ تمامًا أن يُثير فضولَك طلبُنا بالتعهُّد بالسِّرِّيَّة. لا رغبة لديَّ في أن أفرض عليك أيَّ شيءٍ دون أن تكون كلُّ الأمور واضحةً أمامك. أعتقد أننا في أمانٍ تامٍّ من مُسترِقي السمع. صحيح؟»

«أجل، في أمانٍ تام.»

«حسنًا، الموضوع كما يلي؛ أنت تدري على الأرجح أن مادة تُراب القصَّار مُنتَجٌ قيِّم، وأنه غير موجود إلَّا في مكانٍ واحدٍ أو اثنين فقط في إنجلترا. أليس كذلك؟»

«لقد سمعتُ بالأمر.»

«اشتريتُ مكانًا صغيرًا منذ وقتٍ قصير؛ مكانًا صغيرًا جدًّا، على بُعد عشرة أميال من ريدينج. كنتُ محظوظًا بما يكفي لأكتشف وجود مخزونٍ من تُراب القصَّار في أحد حقولي. ولكن بعدما فحصته، وجدتُ أنَّ كمية هذا المخزون كانت قليلةً نسبيًّا، وأنها قد اتَّصلتْ بكمِّيَّتَين أُخريَين كبيرتين جدًّا إلى اليمين واليسار، لكن كلتيهما كانتا تقعان في أرض جيراني. هؤلاء الجيران الطيبون جاهلون تمامًا بأن أرضهم تحتوي على مثل هذا المخزون الذي يُضاهي في قيمته منجمًا للذهب. كنتُ بطبيعة الحال مُهتمًّا بأن أشتري أرضهم قبل أن يكتشفوا قيمتها الحقيقية، ولكن للأسف لم يكن لديَّ ما يكفي من رأس المال لشرائها. عندما أطلعتُ القليل من أصدقائي على السِّرِّ، اقترحوا أن نستخرج مخزوننا الضئيل في هدوءٍ وسرِّيَّة ونبيعه لنحصُل على المال الذي سيُمكِّننا من شراء الحقول المُجاوِرة. وهذا هو ما ظللْنا نفعله لبعض الوقت، وأقمْنا مكبسًا هيدروليكيًّا ليُساعدنا في هذه العملية. هذا المكبس، كما سبق أن شرحتُ لك، قد تعطَّل عن العمل، ونرغب في استشارتك بشأن هذا، ولكننا نُحافظ على سرِّنا بحرصٍ شديد، ومن ثَمَّ، لو علِم أحد بقدوم مهندسين هيدروليكيِّين إلى منزلنا الصغير، فسيُثير الأمر الشكوك على الفور، ولو خرجتِ الحقيقة إلى النور، فستكون تلك هي نهاية أيِّ أملٍ لنا في الحصول على هذه الحقول وتنفيذ ما قد خططنا له. لذلك جعلتك تقطع وعدًا لي بأنك لن تُخبر أي شخصٍ بذهابك إلى آيفورد الليلة. هل كلُّ شيءٍ واضح الآن؟»

فأجبته قائلًا: «أفهمك تمامًا. النقطة الوحيدة التي لم أتمكَّن من فهمها بالكامل هي جدوى استخدام مكبس هيدروليكي في استخراج تُراب القصَّار الذي، كما أفهم، يُمكِن استخراجه كما يُستخرَج الحصى من حفرة.»

ردَّ بلا مُبالاة قائلًا: «أوه! لنا طريقتُنا الخاصة؛ إذ إننا نضغط التربة حتى تتشكَّل على هيئة قوالب من الطوب بحيث يُمكننا نقلُها دون أن تنكشِف حقيقتُها. ولكن هذه مجرَّد تفاصيل لا تهمُّ. إنني ائتمنتُك على سرِّي الآن يا سيد هاذرلي، ولقد أثبتُّ لك مدى ثِقتي فيك.» نهض وهو يستكمِل حديثه قائلًا: «سأنتظرك إذن في آيفورد في الحادية عشرة والربع.»

«سأكون هناك بالتأكيد.»

«أذكِّرك ألا تنبس ببنت شفةٍ عن الأمر أمام أي مخلوق.» رمَقَني بنظرةٍ مُتشكِّكة طويلة وأخيرة، ثم صافَحَني ضاغطًا على يدي بقبضةٍ باردة رطبة، وخرج مُسرعًا من الغرفة.

حسنًا، عندما أعدتُ التفكير في الأمر بهدوء، ذُهِلتُ كثيرًا، كما قد تعتقدان، لهذه المهمة المفاجئة التي ائتُمِنتُ عليها. فمن ناحيةٍ كنت مسرورًا بالطبع لأن الأجر كان يفوق، عشر مرَّات على الأقل، ما كنتُ سأطلبه لو كان لي أن أُحدِّد سعرًا لخدماتي، وكان من المُحتمَل أن تجلُب لي هذه المهمَّة مهامَّ أخرى. ولكن من ناحيةٍ أخرى، ترك وجه عميلي وسلوكه انطباعًا سيِّئًا في نفسي، ولم أقتنِع أنَّ شرحه لمسألة تُراب القصَّار كان كافيًا لتفسير ضرورة قدومي في مُنتصف الليل، إلى جانب قلقه الشديد من أن أُخبِر أي شخصٍ عن مهمَّتي. ومع ذلك، فقد طرحتُ كلَّ مخاوفي جانبًا، وتناولتُ عشاءً دسمًا، وذهبتُ إلى بادينجتون، وبدأتُ رحلتي ملتزمًا تمامًا بتحذيره من أن أُخبر أحدًا عن الأمر.

في ريدينج، كان عليَّ أن أُغيِّر ليس فقط عربتي، بل المحطة أيضًا. وعلى الرغم من ذلك، وصلتُ في الوقت المناسب واستقللتُ آخِر قطارٍ مُتَّجهٍ إلى آيفورد، ووصلتُ المحطة الصغيرة ذات الإضاءة الخافتة بعد الحادية عشرة. كنتُ أنا الراكب الوحيد الذي نزل في تلك المحطة، وخلا رصيف المحطة إلا من حَمَّالٍ واحدٍ ناعسٍ يُمسك بفانوس. ولكن بينما كنتُ أعبر البوابة الصغيرة وجدتُ رفيقي الذي تعرَّفتُ عليه صباحًا ينتظرني في الظلام في الجهة المُقابِلة. أمسكَ بذراعي دون أن ينطق كلمةً واحدة وأسرع بي نحو العربة التي كان بابها مفتوحًا بالفعل. أغلق النوافذ الموجودة على الجانبَين، ودقَّ على الجُزء الخشبي من العربة، فانطلقْنا بأقصى سُرعة مُمكنة للفرَس.»

قاطَعَه هولمز قائلًا: «فرس واحد؟»

«أجل، واحد فقط.»

«هل لاحظتَ لونَه؟»

«أجل، لقد رأيتُه من خلال الأضواء الجانبية بينما كنتُ أستقلُّ العربة؛ كان كستنائيًّا.»

«هل كان يبدو مُتعبًا أم نشيطًا؟»

«أوه، لقد كان نشيطًا ولامعًا.»

«أشكرك، أعتذِر عن مُقاطعتك. استكملْ روايةَ قصتك المُثيرة أرجوك.»

«انطلقْنا في رحلتنا التي استغرقتْ ما لا يقلُّ عن ساعة. كان الكولونيل ليساندر ستارك قد قال إنَّ وِجهتنا على بُعد سبعة أميالٍ فقط، ولكن نظرًا إلى المُعدَّل الذي كنَّا نسير به والوقت الذي استغرقْناه أعتقد أنها كانت تبعُد — بالتأكيد — حوالي اثني عشر ميلًا. كان يجلس بجانبي في صمتٍ تامٍّ طوال الوقت، وقد لاحظتُ أكثر من مرةٍ عندما كنتُ أسترِق النَّظر ناحيته أنه كان ينظُر إليَّ بتركيزٍ وحِدَّة شديدَين. بدا أن الطُّرق الريفية ليست بحالةٍ جيدة في ذلك الجزء من العالم؛ إذ إنَّنا كنَّا نتمايل ونهتزُّ بشدة. حاولتُ أن أنظر من النوافذ لأرى شيئًا يُميِّز موقعنا، ولكنها كانت مصنوعة من الزجاج المُسنفر، فلم أستطع تمييز أيِّ شيءٍ عدا الومضات الساطعة لأضواءٍ عابرة. كنتُ أغامر بين حينٍ وآخر بإطلاق بعض التعليقات لكسْر رتابة الرحلة، ولكن ردود الكولونيل كانت شديدة الاقتضاب، وسرعان ما ذَوِيَ الحديث تمامًا. ولكن أخيرًا، تبدَّلت الاهتزازات الحادَّة للطريق بالتمايُل السَّلِس لمَجَاز زَلَطِي، إلى أن توقَّفَتِ العربة. نهض الكولونيل ليساندر ستارك خارجًا من العربة، وبينما كنتُ أتبعُه، جذَبَني بسرعةٍ نحو رُوَاق كان أمامنا مُباشرة، وكأنَّنا قد خرجْنا من العربة وخطَوْنا داخل الرُّوَاق مُباشرة، حتى إنني فشِلتُ في أن ألتقط نظرةً خاطفة على الجزء الأمامي من المنزل. وبمجرَّد أن تجاوزتُ عتبة الباب، أُغلِقَ الباب خلفي بعُنف، وبالكاد سمعتُ قعقعةَ العجلات بينما كانت العربة تنطلِق بعيدًا.

كان الظلام حالكًا داخل المنزل، وراح الكولونيل يتحسَّس خطواته بحثًا عن أعواد الثقاب وهو يغمغم بكلمات. فجأة، انفتح باب في نهاية الجهة الأخرى من الممرِّ وانبثقت منه حزمة طويلة من الضوء الذهبي في اتِّجاهنا. اتَّسعت حزمة الضوء أكثر، ثم ظهرت امرأة تحمِل مصباحًا في يدها، كانت تُمسك به فوق رأسها، وكانت تمدُّ وجهها للأمام وتُمعِن النظر فينا. كان بإمكاني ملاحظة أنها كانت جميلة، وعرفتُ من لمَعان ردائها الداكن الذي انعكس الضوء عليه أنه كان مصنوعًا من خامة فاخرة. قالت بضعَ كلماتٍ بلغةٍ أجنبية ونبرة تُوحي بأنها تطرح سؤالًا، وعندما أجاب رفيقي في فظاظةٍ بكلمة واحدة جفلت بشدَّة حتى كاد المصباح يسقط من يدها. مشى الكولونيل ستارك نحوَها، وهمس بشيءٍ في أُذنها، ثم دفعها نحو الغرفة التي كانت قد خرجتْ منها، وسار نحوي مرةً أخرى وهو يحمِل المصباح في يده.

قال لي وهو يفتح بابًا آخَر على مصراعيه: «هلَّا تكرَّمتَ بالانتظار في هذه الغرفة لبضع دقائق؟» كانت غرفةً صغيرة هادئة ذات أثاثٍ بسيط، وطاولة مُستديرة في منتصفها مُبعثَر عليها العديد من الكتب الألمانية. وضع كولونيل ستارك المصباح فوق آلة هارمونيوم بجانب الباب، وقال: «لن أُبقيك مُنتظرًا طويلًا.» ثم اختفى في الظلام.

ألقيتُ نظرةً سريعة على الكتب المُلقاة على الطاولة. وعلى الرغم من جهلي باللغة الألمانية، استطعتُ أن أُميِّز أنَّ اثنين منها كانا دراساتٍ حول العلم، أما الكتب الأخرى فقد كانت مُجلَّدات شِعريَّة. سرتُ بعد ذلك نحو النافذة آمِلًا أن ألمح شيئًا من الريف، ولكنَّني وجدتُ عليها شُبَّاكًا من البلُّوط مُغلقًا بإحكام شديد. كان منزلًا مُدهِش الهدوء؛ كان كلُّ شيءٍ غارقًا في سكون تامٍّ لا يقطعُه إلا دقَّاتٌ عالية صادِرة من ساعةٍ قديمة في مكانٍ ما في المَمر. بدأ شعور غامض بعدَم الارتياح يتملَّكني؛ مَن هؤلاء الألمان؟ وماذا يفعلون وهم يعيشون في هذا المكان الغريب النائي؟ أين يقع هذا المكان أصلًا؟ لقد كنتُ على بُعد عشرة أميال تقريبًا من آيفورد. هذا هو كل ما كنتُ أعرفه، ولكنني لم أكن أعلم ما إن كان يقَع شمالًا أم جنوبًا؛ شرقًا أم غربًا. لكن مدينة ريدينج، وربما مُدن كبيرة أخرى، كانت تقع ضِمن ذلك النطاق؛ لذا فقد لا يكون المكان نائيًا تمامًا على أيِّ حال. ومع ذلك، فقد كان الهدوء المُطبِق يؤكِّد بما لا يدع مجالًا للشكِّ أننا كنَّا في الريف. ذرَعتُ الغرفة ذَهابًا وإيابًا وأنا أُدندِن لحنًا بصوتٍ خفيض حتى أُحافظ على معنوياتي وأفكر في أنني بصدَد الحصول على الخمسين جنيهًا كاملة.

فجأة، وبدون أي صوتٍ مُسبق وسط هذا الصمت المُطبِق، انفتح باب غرفتي ببطء. أطلَّت المرأة من الجزء المفتوح من الباب غارقةً في ظلام الردهة خلفها، والضوء الأصفر المُنبعِث من مصباحي يُضيء وجهها الجميل المُتلهِّف. أدركتُ في نظرةٍ خاطفة أنها كانت خائفة بشدَّة، وسَرَتْ رعدةٌ في جسدي عند رؤيتها على تلك الحال. رَفَعَت إصبعًا واحدةً مُرتعِشة لتُحذِّرني بأن أبقى صامتًا، وهمستْ إليَّ ببعض الكلمات الإنجليزية الركيكة وعيناها تنظُران سريعًا إلى الظلام خلفها كعينَي فرسٍ وجِلة.

قالت وهي تحاول جاهدة، كما بدا لي، أن تتحدَّث بهدوء: «سأذهب، سأذهب. يجِب ألَّا أبقى هنا. لا فائدة من وجودك هنا.»

فأجبتُ قائلًا: «ولكنني لم أُنجز بعدُ ما جئتُ من أجله يا سيِّدتي. لا يُمكنني أن أذهب بأيِّ حالٍ من الأحوال قبل أن أرى الماكينة.»

أردفتْ قائلة: «لا يستحقُّ الأمر أن تُضيِّع وقتك في الانتظار. يُمكنك أن تمرَّ عبر الباب؛ لن يعترِضك أحد.» وعندما وجدَتْني أبتسِم وأهزُّ رأسي، تخلَّت عن هدوئها وتقدَّمت خطوةً إلى الأمام وهي تفرك يديها، وهمستْ قائلة: «بحقِّ الرب! اذهبْ من هنا قبل أن يفوت الأوان!»

لكنني عنيد نسبيًّا بطبيعتي، وأُصبِح أكثرَ استعدادًا للانخِراط في أمرٍ ما حين تبرُز لي الصعاب دونه. فكرتُ في الخمسين جُنيهًا وفي رحلتي المُرهِقة وفي الليلة المُزعِجة التي ما زالتْ أمامي كما يبدو. هل سيضيع كلُّ هذا هباءً؟ لِمَ يتوجَّب عليَّ أن أنسلَّ خلسةً قبل إتمام مهمَّتي وقبل أن أحصل على أجري المُستحَق؟ لربَّما تكون هذه المرأة مهووسة. على الرغم من أن أسلوبها قد أفزَعَني أكثر مِمَّا أُحِبُّ أن أعترِف، فقد هززتُ رأسي في إصرارٍ وثبات، وأعلنتُ عن نِيَّتي في البقاء. كانت على وشْكِ أن تُجدِّد توسُّلاتها، عندما سمِعْنا صوتَ صَفْق أحد الأبواب في الأعلى، تلاه صوتُ عدَّةِ خطواتٍ على السُّلَّم. أنصَتَت المرأة للحظة، ثم استسلمتْ بإيماءةٍ يائسة واختفتْ فجأةً وبهدوءٍ كما أتت.

كان القادمان الجديدان هما الكولونيل ليساندر ستارك ورجلًا قصيرًا سمينًا ذا لحيةٍ تُشبِه فراء حيوان الشنشيلة، وتنبُت من تجاعيد لُغْده، وقد قدَّمه لي على أنه السيد فيرجسون.

قال الكولونيل: «هذا هو سكرتيري ومدير أعمالي. بالمُناسبة، أظنُّ أنني قد أبقيتُ هذا الباب مُغلقًا للتَّو. أخشى أن تكون قد شعرتَ بتيَّار هواءٍ ضايقك.»

فأجبتُ قائلًا: «على العكس؛ أنا من فتحتُ الباب، إذ إنَّني شعرتُ بأن الغرفة خانِقة قليلًا.»

رمقَني بإحدى نظراته المُتشكِّكة وقال: «ربما من الأفضل أن نشرع في العمل إذن. سأصحبُك أنا والسيد فيرجسون إلى الأعلى لترى الماكينة.»

«أعتقد أنه من الأفضل ارتداء قُبَّعَتي.»

«أوه لا، إنها في المنزل.»

«ماذا؟ هل تحفُر بحثًا عن تُراب القصَّار في المنزل؟»

«لا لا، إننا نضغطه هنا فقط، ولكن لا عليك بذلك. كل ما نُريده منك هو أن تفحص الماكينة وتُخبِرنا بما أصابها.»

صعدنا السلم سويًّا، يتقدَّمُنا الكولونيل وهو يحمِل المصباح ويتبعُه مدير أعماله السمين، ثم أنا في المؤخرة. كان ذلك المنزل القديم كالمتاهة يمتلئ بالممرَّات والأروقة والسلالم الضيقة المُلتوية والأبواب الصغيرة المُنخفضة التي كانت عتباتها مُجوَّفة بفعل الأجيال التي وَطِئَتها. لم يكن هناك سجَّاد ولا أي إشارات تدلُّ على وجود أثاث فوق الطابق الأرضي، بينما كان الجصُّ مُقشَّرًا من الجُدران التي كانت تخترِقها الرطوبة، مُخلِّفةً بُقعًا خضراء غير صحية. حاولتُ بقدر الإمكان أن أتظاهر بعدم القلق، لكنني لم أنسَ تحذيرات السيدة على الرغم من أنَّني قد تجاهلتُها، وأبقيتُ عينَيَّ يَقظتَين مُتابعًا رفيقَي. كان يبدو أن فيرجسون رجل كئيب صَموت، ولكنني تبيَّنتُ من الكلام القليل الذي قاله أنه كان على الأقلِّ إنجليزيًّا مِثلي.

توقَّف الكولونيل ليساندر ستارك أخيرًا أمام بابٍ مُنخفِضٍ وفتَحَه. خلْفَ الباب كانت غرفة صغيرة مُربعة، بالكاد يتمكَّن ثلاثتُنا من دخولها في وقتٍ واحد. ظلَّ فيرجسون بالخارج، بينما قادَني الكولونيل إلى داخل الغرفة.

بادَرَني قائلًا: «إنَّنا الآن داخل المكبس الهيدروليكي في الواقع، وسيكون أمرًا غير سارٍّ لنا تمامًا لو أقدم أيُّ شخصٍ على تشغيله. إنَّ سقف هذه الغرفة الصغيرة هو في الحقيقة نهاية المكبس الهابط الذي يهوي على هذه الأرضية المعدنية بقوَّة أطنانٍ كثيرة. تُوجَد أعمدة جانبية صغيرة من الماء بالخارج تستقبِل القوة وتَنْقُلُها وتُضاعِفها بالطريقة المألوفة بالنسبة إليك. تعمل الماكينة بسرعة كافية، ولكن حركتها مُتصلِّبة بعض الشيء، كما أنها فقدَتْ قليلًا من قُوَّتها. تَفَضَّل بفحصها وأخبرْنا كيف يُمكِننا إصلاحها.»

أخذتُ منه المصباح وفحصتُ الماكينة بدقَّةٍ شديدة؛ كانت ضخمة بحقٍّ وقادِرة على بذْل ضغطٍ هائل. لكنَّني عندما ألقيتُ نظرةً من الخارج وضغطتُ على الروافع التي تتحكَّم فيها إلى أسفل، علمتُ على الفور، من صوتِ الحفيف، بوجود تسرُّبٍ طفيف، وهو ما تسبَّب في ارتجاع المياه من خلال إحدى الأسطوانات الجانبية. بعد الفحص تبيَّن أن واحدًا من الأربطة المطاطية الموجودة حول رأس عمود التَّوجيه قد تقلَّص حجمه بحيث إنه لم يعُدْ يملأ التجويف الذي يدور حوله. كان هذا هو السبب الواضح لفقدان الطاقة، وهو ما أوضحتُه لرفيقَيَّ اللَّذَين كانا يُتابِعان مُلاحظاتي بحرصٍ شديد ويسألان العديد من الأسئلة العملية حول كيفية الشروع في إصلاح العُطل. بعدما شرحتُ لهما الأمر بوضوحٍ عدتُ إلى الغرفة الرئيسية للماكينة وألقيتُ عليها نظرةً فاحِصة لأُشبِع فضولي الشخصي. من نظرةٍ واحدة، كان من الجَليِّ أن قصة تُراب القصَّار هذه ما كانت إلا محضَ كذِب؛ إذ إنه من السخيف الافتِراض أن مُحرِّكًا بهذه القوة قد صُمِّمَ لتنفيذ مثل هذا الغرَض التافِه. كانت الجُدران مصنوعة من الخشب، أما الأرضية فكانت مكوَّنة من حوضٍ حديدي كبير، وعندما أقدمتُ على فحصه، رأيتُ سطحه مُغطًّى تمامًا بقِشرةٍ من الرواسب المعدنية. كنتُ قد انحنيتُ وبدأتُ أَكْشِط هذه القشرة لأرى ما هي بالضبط عندما سمعتُ صيحةَ تعجُّبٍ هامسةً بالألمانية ورأيتُ وجه الكولونيل الهزيل ينظر إلى الأسفل نحوي.

سألني قائلًا: «ما الذي تفعله عندك؟»

شعرتُ بالغضب من أنني قد خُدعتُ بمثل هذه القصة المُحكَمة التي أخبرَني بها. رددتُ قائلًا: «كنتُ أبدي إعجابي بتُراب القصَّار الخاص بك؛ أعتقد أنني سأكون أقدْرَ على تقديم النُّصح فيما يخصُّ ماكينتك لو عرفتُ الغرض الذي تُستخدَم فيه بالضبط.»

بمجرَّد التلفُّظ بتلك الكلمات شعرتُ بالندم على تسرُّعي في الحديث. اكتسى وجهه الصرامةَ والجمود، ولمعتْ عيناه الرماديَّتان بنظرة تهديد.

وقال: «حسنًا، ستعرِف كلَّ شيء عن الماكينة.» تراجَعَ خطوةً إلى الوراء وصَفَق الباب الصغير، وأدار المفتاح في القُفل. هُرِعتُ نحو الباب ورحتُ أجذب المِقبض، ولكنه كان مُوصدًا تمامًا ولم يُؤَثِّر فيه لا الرَّكلُ ولا الدفع. صحتُ قائلًا: «النجدة! النجدة! يا كولونيل! أخرجوني!»

وفجأةً سمعتُ صوتًا مَزَّق الصمتَ وألقى الرُّعبَ في قلبي؛ كان صوتَ قعقعة الروافع وحفيف الأسطوانة المُسرِّبة. لقد أدار المُحرِّك. كان المصباح لا يزال موجودًا على الأرض في المكان الذي كنتُ قد وضعتُه فيه عندما كنتُ أفحص الحوض. عرفتُ من ضوئه أن السقف الأسود كان ينحدِر نحوي ببطءٍ وهو يهتز، ولكن بقوة كفيلة بأن تسحقَني وتُحوِّلَني إلى عجينةٍ عديمة الشكل في دقيقةٍ واحدة، وهو ما كنتُ أعلمه جيدًا بحُكم معرفتي التامَّة بهذه الأمور. ألقيتُ بنفسي على الباب وأنا أصرُخ، وحاولتُ سحْبَ القُفْل بأظافري. توسَّلتُ إلى الكولونيل ليُخرجني، ولكن صرخاتي تلاشتْ وسط صوت قعقعة الرافعات التي لا تعرِف الرحمة. كان السقف على ارتفاع قدمٍ أو اثنتين فقط فوق رأسي، وعندما رفعتُ يدي استطعتُ أن أتحسَّس سطحه الصُّلب الخشِن. ثم تبادَرَ إلى ذهني فجأةً أن ألَمَ موتي سيعتمِد اعتمادًا كبيرًا على الوضْع الذي سأواجهه فيه؛ فإذا استلقَيتُ على وجهي، سيهبِط الثقلُ على عمودي الفقري، وارتعشتُ خوفًا لمُجرَّد التفكير في صوت تكسُّره المُروِّع. ربما سيكون الأمر أسهل لو استلقيتُ على ظهري، ولكن هل كانت لديَّ الجُرأة لأستلقي وأنظر إلى أعلى نحوَ ذلك الظلِّ الأسود القاتل وهو يَهوي عليَّ مُرتجًّا؟ كنتُ بالفعل غير قادرٍ على الوقوف مُنتصبًا حين لمحتُ شيئًا أضاء نُور الأمل مرَّةً أخرى في قلبي.

سبقَ أن قلتُ إنه على الرغم من أنَّ الأرضية والسقف كانا مصنوعين من الحديد، فإن الجُدران كانت مصنوعة من الخشب. ألقيتُ نظرةً سريعة أخيرة حولي، فرأيتُ خطًّا رفيعًا من الضوء الأصفر ينسلُّ من بين لوحَين من الألواح الخشبية، وظلَّ يتَّسع أكثر فأكثر بينما كانت لوحة صغيرة تُدْفَع إلى الخلف. لوهلة، كنتُ بالكاد أُصدِّق أنَّ ثَمَّ بابًا يُنْجِيني من الموت فعلًا. في اللحظة التالية ألقيتُ بنفسي عبر الفتحة، ورقدتُ في حالة شِبه إغماء على الجانب المُقابل. أُغلِقَت اللوحة مرة أخرى خلفي، ولكنني علمتُ من صوت تهشُّم المصباح ثُمَّ اصطكاك اللَّوحين المعدنيين بعد ثوانٍ لاحِقة أنني قد نجوتُ بأعجوبة.

أعادني جذْبٌ شديد حول معصمي إلى الوعي، ووجدتُ نفسي مُلقًى على أرضٍ حجرية في مَمرٍّ ضيِّق بينما انحنتْ فوقي امرأةٌ كانت تُحاول سحْبي بيدِها اليُسرى بينما تحمِل شمعةً في يدِها اليُمنى. كانت السيدة الطيِّبة نفسها التي رفضْتُ تحذيرها بكلِّ حماقة.

صرختْ لاهثة: «هيا! هيا! سيكونون هنا في لحظة؛ سيكتشِفون أنك لستَ موجودًا هناك. أوه، لا تُضيِّع الوقت الثمين للغاية، هيا!»

هذه المرة على الأقل، لم أزدرِ نصيحتها. وقفتُ على قدمَيَّ مُترنِّحًا وركضتُ معها عبر الممرِّ وهبوطًا على سُلَّمٍ مُتعرِّج قاد إلى ممرٍّ آخرَ عريض، وبمجرَّد وصولنا هناك، سمِعْنا صوت أقدامٍ تركض وصراخَ صوتَين، أحدهما يردُّ من الطابق الذي كنا فيه على الآخر الموجود بالطابق الذي أسفَلَنا. توقَّفتْ مُرشدتي ونظرَتْ حولها في حيرة وكأنها لم تعُد تدري ما الذي يتوجَّب فعله، ثم دفعت بابًا يقود إلى غُرفة نوم بدا القمر من نافذتها لامعًا.

وقالت: «إنها فرصتك الوحيدة. إنه مُرتفع، ولكنك قد تتمكَّن من القفز.»

بزغ ضوء من نهاية الممر بينما كانت تتحدَّث، ورأيتُ هيئة الكولونيل ليساندر ستارك النحيلة وهو يندفع إلى الأمام بسرعة مُمسكًا بمصباحٍ في يدٍ وبسلاح يُشبِه ساطور الجزَّار في اليد الأخرى. هُرِعتُ عبرَ غرفة النوم وفتحتُ النافذة ونظرتُ إلى الخارج. كم بدتِ الحديقةُ هادئة وجميلة ورائقة للنفس في ضوء القمر، ولا يُمكن أن تكون بعيدةً عن النافذة بأكثر من ثلاثين قدمًا. تسللتُ إلى الخارج مُتسلِّقًا حافةَ النافذة، ولكنني ترددتُ في القفز حتى أسمع ما سيدور بين مُنقِذتي والهمجيِّ الذي كان يُطاردني، وقد عزمتُ، إذا تعرَّضتِ السيدة للإيذاء، على أن أعود لمساعدتها مهما كانت المخاطر. بمُجرَّد أن مرَّتِ الخاطرة بفكري وصل الكولونيل بالفِعل عند الباب واندفع نحوي؛ لكنها طوَّقتْه بذِراعَيها وحاولتْ أن تمنعه من الوصول إليَّ.

صرختْ بالإنجليزية قائلة: «فريتز! فريتز! تذكَّر الوعد الذي قطعتَهُ بعدَ آخِر مرة؛ لقد قلتَ إن الأمر لن يحدُث مرة أخرى. سيُكتَم الأمر! أوه، سيُكتم الأمر!»

صاح الرجل وهو يُحاول الإفلات منها: «أنتِ مجنونة يا إليز! ستكونين سبب هلاكنا، لقد رأى أكثر من اللازم. قلتُ لكِ دعيني أمُر!» دفعها إلى أحد الجوانب بعُنف، وهُرِع إلى النافذة وجرحَني بسلاحه الثقيل. كنتُ قد ألقيتُ بنفسي من النافذة وتدلَّيتُ مُمسكًا بحافتها بكلتا يدَيَّ حين هوت ضربَتُه. شعرتُ بألمٍ ضعيفٍ وتراختْ قبضتي فسقطتُ في الحديقة بالأسفل.

كنتُ فَزِعًا من هول السقوط، ولكنني لم أُصَب بسوء، فاستجمعتُ قواي وهُرِعتُ راكضًا عبر الشُّجيرات بأسرع ما يُمكنني؛ إذ إنني كنتُ أعلم أنَّني لا زلتُ في دائرة الخطر. ولكن فجأة بينما كنتُ أركض شعرتُ بإعياءٍ ودوارٍ شديدَين. نظرتُ سريعًا إلى يدي التي كانت تنبض ألمًا، ورأيتُ حينئذٍ للمرة الأولى أن إبهامي قد قُطِع، وأن الدماء كانت تنزفُ من الجُرح. حاولتُ أن أربط منديلي حول الجُرح، ولكنني سمعتُ طنينًا مُفاجئًا في أذني، ثم فقدتُ الوعيَ فورًا بين شُجيرات الورود.

لا أعلم كم لبثتُ فاقدًا الوعي. لا بدَّ أنها كانت فترةً طويلةً جدًّا لأن القمر كان قد انحدر وبدأ ضوء الصباح المُشرِق في البزوغ حين أفَقْتُ. كانت ملابسي كلها مُبلَّلة بالندى، وكان كُم معطفي غارقًا بدماء جرح إبهامي المقطوع. استدعى الألم الحادُّ في طرْفةِ عينٍ كلَّ تفاصيل مُغامَرتي تلك الليلة، فانتفضتُ واقفًا وأنا أشعُر بأنني ربما ما زلتُ في غير مأمَنٍ ممَّن يُطاردونني. ولكن ما أثار دهشتي أنه عندما نظرتُ حولي، لم أرَ لا منزلًا ولا حديقة. كنتُ مُستلقيًا في زاوية من سياج الشجيرات القريب من الطريق السريع يليه في موضع مُنخفض قليلًا مبنًى طويل، تأكدتُ عند اقترابي منه أنه محطة القطار نفسها التي وصلتُ إليها في الليلة السابقة. لولا جُرح يدي الفظيع، لقلتُ إن كلَّ ما ألمَّ بي في تلك الساعات المُروِّعة ما هو إلا حلم مشئوم.

دخلت المحطة وأنا أُعاني دَوارًا جُزئيًّا، وسألتُ عن القطار الصباحي. عرفتُ أن قطارًا سينطلق إلى ريدينج في غضون أقلَّ من ساعة. وجدتُ الحمَّال نفسه الذي رأيتُه عند وصولي أمس يعمل في هذه المناوبة أيضًا. استفسرتُ منه عمَّا إذا كان قد سمع عن كولونيل يدعي ليساندر ستارك؛ كان الاسم غريبًا عليه. فسألتُه إن كان قد لاحظ عربةً تنتظرني ليلة أمس، فكان جوابه نفيًا. ثم سألتُه هل يُوجَد مركز شرطة في أيِّ مكانٍ قريب، وأخبَرَني أنه يُوجَد واحد على بُعد ثلاثة أميال.

كانت المسافة بعيدةً جدًّا لأقطعها وأنا في هذه الحالة من الوَهَن والمرَض. قررتُ أن أنتظِر حتى أعود إلى البلدة لأحكي قصَّتي إلى الشرطة. عندما وصلتُ كانت الساعة بعد السادسة بقليل، فذهبتُ لأُضمِّد جُرحي أولًا، وبعد ذلك تكرَّم الطبيب وصحِبَني إلى هنا. ها أنا أضع القضية بين يدَيك، وسأُنفِّذ ما ستنصح به بحذافيره.»

جلس كِلانا في صمتٍ لبعض الوقت بعد الاستماع لهذه الرواية العجيبة، ثم أنزل شيرلوك هولمز من فوق الرفِّ واحدًا من السجلَّات الثقيلة المُعتادة التي كان يحتفِظ فيها بقصاصاتِه.

ثم قال: «إليك هذا الإعلان الذي سيُثير اهتمامك. لقد نُشِرَ في جميع الصحف منذ حوالي سنةٍ مضت. استمِعْ إلى هذا: «فُقِدَ في اليوم التاسع من الشهر الحالي السيد جيرمايا هيلينج البالغ من العمر ستةً وعشرين عامًا، ويعمل مهندسًا هيدروليكيًّا. غادر مسكنه في الساعة العاشرة مساءً، ولم يُعرَف عنه شيء منذ ذلك الحين. كان يرتدي … إلخ … إلخ.» ها! يوضح ذلك آخر مرة احتاج فيها الكولونيل لإصلاح ماكينته، كما أعتقد.»

صاح مريضي: «يا إلهي! إذن ذلك يُفسِّر ما قالته الفتاة.»

«بلا شك. من الواضح تمامًا أن الكولونيل كان رجلًا باردًا يائسًا وعازمًا عزمًا مُطلقًا على ألَّا يقِف أي شيء في طريق لعبته الدنيئة، تمامًا كالقراصنة القُساة الذين لا يتركون أي أحياء على السفينة التي يستولون عليها. حسنًا، كل لحظة الآن ثمينة؛ لذا إذا كنت قادرًا فسنذهب إلى شرطة سكوتلانديارد حالًا كخطوة أولية قبل الذهاب إلى آيفورد.»

بعد حوالي ثلاث ساعات أو نحو ذلك، كان ثلاثتُنا على متن القطار سويًّا مُتوجِّهين من ريدينج إلى قرية بيركشير الصغيرة. كان الموجودون هم شيرلوك هولمز والمهندس الهيدروليكي والمُفتِّش برادستريت من سكوتلانديارد ورجل يرتدي ملابس عادية وأنا. كان برادستريت قد بسط خريطة تفصيلية للمقاطعة على المقعد وجلس منشغلًا برسم دائرة بفرجاره مركزها هو قرية آيفورد.

ثم قال: «ها نحن ذا! لقد رسمتُ هذه الدائرة بحيث يبعُد نصف قطرها مسافة عشرة أميال من القرية. لا بدَّ أن المكان الذي نُريده سيكون في نقطةٍ ما بالقُرب من ذلك الخط. لقد قلتَ عشرة أميال على ما أعتقد يا سيدي؟»

«استغرقتِ المسافة بالعربة ساعة كاملة.»

«وهل تعتقد أنهم قد أعادوك كلَّ هذه المسافة عندما كنتَ غائبًا عن الوعي؟»

«لا بدَّ أنهم قد فعلوا ذلك. لديَّ ذكرى مشوشة أيضًا أنني قد حُمِلتُ ونُقِلتُ إلى مكان ما.»

فتحدَّثتُ قائلًا: «ما لا أفهمه هو لماذا لم يقتلوك عندما وجدوك غائبًا عن الوعي في الحديقة؟ ربما أَلانَتْ توسُّلات المرأة قلب ذلك الرجل الشرير.»

«أعتقد أن هذا أمر مُستبعد، فأنا لم أرَ وجهًا عديم الرحمة كهذا في حياتي.»

قال برادستريت: «أوه، سنكتشف كل ذلك قريبًا. حسنًا، لقد رسمتُ دائرتي، ولا أتمنَّى إلا أن أعرف في أي نقطة يُمكننا العثور على من نبحث عنهم.»

قال هولمز بهدوء: «أعتقد أنني أستطيع أن أضع إصبعي على تلك النقطة.»

صاح المفتش برادستريت قائلًا: «حقًّا، الآن! لقد كَوَّنت رأيك بالفعل! هيا، الآن، لنرى من سيتَّفِق معك في الرأي. أقول إنها في الجنوب، إذ يكون الريف هناك مهجورًا أكثر.»

فقال مريضي: «وأنا أقول إنها في الشرق.»

بينما أشار الرجل ذو الملابس العادية قائلًا: «أقول إنها في الغرب؛ يُوجَد هناك العديد من القرى الصغيرة الهادئة.»

وقلت أنا: «وأنا أقول إنها في الشَّمال؛ لأنه لا تُوجَد تلال هناك، وقد قال صديقنا إنه لم يلاحِظ أن العربة قد اعتلَتْ أيَّ تل.»

صاح المفتش ضاحكًا: «بربِّكم، يا له من تنوُّع كبير في الآراء. لقد ذكَرْنا كلَّ نقاط البوصلة. لِمَن سنصوِّت إذن؟»

«كلكم مُخطئون.»

«ولكن لا يُمكن أن يكون جميعنا مُخطئًا.»

«أوه، أجل يُمكن. هذه هي نقطتي.» وضع إصبعه على مركز الدائرة، وقال: «هذا هو المكان الذي سنجدُهم فيه.»

شهق هاذرلي قائلًا: «ولكن ماذا عن الرحلة التي قطعنا فيها اثني عشر ميلًا؟»

«ستة أميال ذهابًا، وستة إيابًا؛ هكذا بمنتهى البساطة. لقد قلتَ بنفسك إن الحصان كان نشيطًا ولامعًا عندما ركبتَ العربة؛ فكيف يُمكن أن يكون على هذه الحال إن كان قد قطع اثني عشر ميلًا على طُرُقٍ وعرة؟»

علَّق برادستريت مُتأمِّلًا: «بالفعل، إنها خدعة مُحتمَلة بما يكفي. بالطبع لا يُمكن أن يكون هناك أدنى شكٍّ في طبيعة هذه العصابة.»

قال هولمز: «لا، إطلاقًا؛ إنهم مزوِّرو عُملات يعملون على نطاقٍ واسع، وقد استخدموا الماكينة لتشكيل مادَّة الملغم التي حلت محل الفضة.»

قال المفتِّش: «كنَّا نعرِف منذ بعض الوقت بوجود عصابة ماكرة تُمارس نشاطها. كانوا يصنعون الآلاف من عُملة نِصف الكراون المُزوَّرة، وقد نجحْنا في تتبُّعِهم حتى ريدينج، ولكنَّنا لم نستطع مُلاحقتَهم إلى أبعد من ذلك؛ إذ أخفَوا آثارهم بطريقةٍ تنمُّ عن حِنكتِهم البالغة. ولكن الآن بفضل هذا الحظِّ السعيد، أعتقد أننا قد تمكنَّا منهم.»

ولكن المفتش كان مُخطئًا، فهؤلاء المجرمون لم يكن من المُقدَّر لهم أن يقعوا في يد العدالة. عند وصولنا إلى محطة آيفورد، رأيْنا عمودًا هائلًا من الدُّخان يتصاعَد من خلف مجموعةٍ صغيرة من الأشجار في الجوار، ويحوم في السماء فوق المشهد كريشة نعامٍ عملاقة.

سأل برادستريت بينما بدأ القطار في التحرُّك مرة أخرى قائلًا: «أهذا منزل يحترِق؟»

رد ناظر المحطة قائلًا: «أجل يا سيدي!»

«متى اندلع الحريق؟»

«اندلع أثناء الليل كما سمعتُ يا سيدي، ولكنه ازداد سُوءًا حتى نشبت النيران في المكان بأكمله.»

«منزل من هذا؟»

«منزل الدكتور بيكر.»

اندفع المهندس قائلًا: «أخبرْني، هل الدكتور بيكر رجل ألماني شديد النحافة ذو أنفٍ طويل حاد؟»

ضحك ناظر المحطة بحرارة وقال: «لا يا سيدي، الدكتور بيكر رجل إنجليزي، ولا يمتلك أي رجل في الأبرشية كلها صديريًّا أفضل بطانة من الصديري الذي يرتديه. ولكن يُوجَد رجل أجنبي يُقيم معه، وهو مريض كما فهمت، ويبدو هزيلًا حتى إنَّ تناوُلَ القليل من لحم بقَر بيركشير الشهي لن يُضيره.»

قبل أن ينتهي ناظر المحطة من كلامه، هُرِعنا جميعًا نحو النيران. كان الطريق يعلو تلَّةً منخفضة، وكان أمامنا مبنًى ضخمٌ مُمتدٌّ مَطليٌّ بالكلس يلفظ النيران من كل شقوقه ونوافذه، بينما كان في الحديقة أمامه ثلاث سيارات إطفاء تُكافح للسيطرة على ألْسِنة اللهب دون جدوى.

صرخ هاذرلي بانفعال شديد قائلًا: «إنه هو! ها هو المَجَاز الزلطي، وها هي شُجيرات الورود حيث كنتُ مُستلقيًا. تلك النافذة الثانية هي النافذة التي قفزتُ منها.»

قال هولمز: «حسنًا، لقد انتقمتَ منهم على الأقل. مِمَّا لا شكَّ فيه أن مِصباحك الزَّيتيَّ هو الذي أضرم النيران في الجدران الخشبية عندما سُحِقَ في المكبس، ولكنهم بلا شك كانوا مُنشغِلين بمُطاردتك بحيث لم يُلاحظوا الأمر وقتَ حدوثه. والآن أبقِ عينَيك مفتوحتَين ودقِّق النظر في هذا الحشد بحثًا عن أصدقائك من ليلة أمس، وإن كنتُ أخشى كثيرًا أنهم الآن على بُعد مائة ميل كاملةٍ مِنَّا.»

تحقَّقتْ مخاوِف هولمز فعلًا، فمنذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا لم يُعرَف أي شيء عن المرأة الجميلة أو الرجل الألماني الشرير أو الرجل الإنجليزي الكئيب. رأى أحد الفلاحين في وقتٍ مُبكِّر من صباح ذلك اليوم عربةً بها العديد من الأشخاص وبعض الصناديق الشديدة الضخامة تنطلِق سريعًا نحو ريدينج، إلا أن آثار الهاربين قد اختفتْ كلها، وحتى براعة هولمز فشِلتْ في اكتشاف أدنى دليلٍ على مكان وجودهم.

كانت الترتيبات الغريبة التي وجدَها رجال الإطفاء داخل المنزل قد أثارت قلقهم الشديد، الذي تصاعد عندما اكتشفوا على حافة نافذةٍ بالطابق الثاني إبهامًا بشريًّا قد مُزِّق حديثًا. أما مجهوداتهم فآتتْ ثمارها أخيرًا قُرب مغيب الشمس ونجحوا في إخماد النيران، ولكن بعد أن انهار السقف وتحوَّل المكان بأكمله إلى حُطام تامٍّ حتى إنه لم يَبقَ أيُّ أثرٍ من المكبس الذي كلَّفَ صديقنا التعيس كثيرًا، اللهم إلا بعض الأسطوانات المُلتوية والأنابيب الحديديَّة. عُثِرَ على كُتلٍ ضخمة من النيكل والقصدير مُخزَّنة في مبنى خارجي، ولكن لم يُعثَر على أيِّ عُملات، وهو ما يُفسِّر وجود الصناديق الضخمة التي أُشِير إليها سلفًا.

كان من المُمكن أن تبقى الطريقة التي نُقِلَ بها المهندس الهيدروليكي من الحديقة إلى المكان الذي استعاد فيه وعيه لغزًا للأبد، لولا آثار الأقدام التي طُبعَت على الطين الرطب وكشفت بوضوح تامٍّ حقيقة ما حدث. من الواضح أن شخصَين قد حمَلاه، كان لأحدهما قدمان بالِغتا الصِّغَر بصورةٍ مُلفتة، وللآخَر قدمان شديدتا الضخامة على نحوٍ غير معهود. عمومًا، من المُرجَّح أن الرجل الإنجليزي الصامت كان أقلَّ جُرأةً أو إجرامًا من رفيقه، فساعد المرأة على حمْل المهندس فاقد الوعي بعيدًا عن طريق الخطر.

بينما اتَّخذْنا مقاعدنا لنعود أدراجنا إلى لندن، قال المهندس آسفًا: «حسنًا، لقد كانت مهمَّةً مروِّعة بالنسبة إليَّ! لقد فقدتُ إبهامي وأَجْري البالِغ خمسين جنيهًا. وماذا كسبتُ إذن؟»

ردَّ هولمز ضاحكًا: «الخبرة. ربما تكون ذات قيمة غير مُباشِرة، كما تعلم؛ ليس عليك إلا أن تصوغها في كلماتٍ حتى ينال عملك الخاصُّ شُهرةً باعتباره شركة من الطراز الأول لبقِيَّة حياتك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤