إلمامة بالنمل

«قبسنا هذا المقال النفيس من دائرة المعارف الفرنسية، ليكون مرجعًا للمدرس في تدريس قصة «أم مازن».

خواص النمل

النمل حشرات صغيرة من الفصيلة المجنحة، وهو اجتماعي، شديد الألفة بطبعه، ومتى استثنينا منه أنواعًا قليلة شاذة، رأينا سواده يخضع لهذا القانون العام، وتنطبق عليه هذه الصفات.

وتأتلف كل جماعة من النمل عادة من أنواع ثلاثة: النمل العامل، والذكور، والإناث المجنحة. تتلخص صفاته وخواصه العامة فيما يلي: وجسم مستطيل يتفاوت طولًا وقصرًا، ولون غامق يتألف من أصفر وأحمر وأسمر وأسود، أو مزيج من هذه الألوان كلها أو بعضها بنسب متفاوتة.

أما رأس النمل فهو يختلف تبعًا لاختلاف أنواعه وفصائله، وهو قطعة مفصلية، ذات فتحتين، إحداها: فتحة صغيرة، عند نقطة اتصال الرأس بالظهر، وتسمى: الفتحة الخلفية. والثانية من الأمام، وهي فم النملة، وبها فكان قويان، يتألف منهما — على الأغلب الأعم — شكل مثلث. وكلاهما محدد تشبه حافته الداخلية حد المنشار.

ولهذين الفكين — عند النمل — شأن أي شأن، فهما عظيما الخطر، لأنهما سلاحه القوي، وعتاده الثمين الذي يستعين به على العمل، فهو يستخدمه كما نستخدم المنشار والمقص والكماشة، لنزع الأشياء وتمزيقها، وكما نستخدم اليدين في حمل الأثقال وما إلى ذلك. وليس من عمل الفكين مضغ الأغذية، فإن النمل لا يتغذى بغير المواد السائلة أو شبه السائلة، وليس في قدرته أن يزدرد طعامه — كما نفعل — ولهذا نرى أن هذين الفكين يؤديان أعمالًا أخرى — كما أسلفنا — غير المضغ.

أجسام النمل

وعيون النمل منحنية، وقلَّما تكون مستديرة، أو منتظمة أي انتظام. وعيونه الملس على شكل مثلث عند الذكور والإناث. ويندر أن نراه عند العاملات التي لا تكاد ترى في رأسها — أحيانًا — غير واحدة في منتصف جبهتها.

أما قرونه الناتئة، فهي متحركة إلى انحناء، ترتكز على الحافة الداخلية لشرايين الجبهة.

ولا توجد الأجنحة إلا عند ذكور النمل وعذاراه. وبطنه منقسم إلى سبع حلقات للذكور، وست للإناث والعاملات. وتنتهي كل رجل من أرجل النمل بخمسة أجزاء، في آخر جزء منها إبرتان بسيطتان محددتان، يفصلهما شعر قصير كثيف. ويتميز النمل المجنح، الذكر عن الأنثى، ببطنه ذي السبعة مفاصل، ورأسه الصغير الكروي ذي العيون الملس. وللإناث أجنحة كذلك. ولكنها تزايلها بعد الإخصاب، سواء اجتثتها بنفسها، أو انتزعتها منها العاملات.

وتمتاز النمال العاملة بتجردها من الأجنحة، وتشرك الإناث في أن في طرف بطنها غدتين سميتين، تفرزان حمض النمليك. وبعضها مسلح بإبر ملس أو محددة، ينبعث منها السم في الجرح الذي تحدثه. وقلَّما توجد هذه الإبرة عند جمهرة كبيرة من النمال الأخرى. فإذا وجدت فهي بسيطة تافهة لا خطر لها، وإن كانت تنفث السم إلى مسافة بعينها، متى لمست النملة عدوها بطرف بطنها.

طوائف النمل

وفي كل وادٍ من وديان النمل نرى العاملات أكثر ما في الوادي عددًا، بالقياس إلى الذكور والإناث التي لا تلتقي معًا إلا في فترات بعينها من السنة، مع استثناء الإناث المخصبات من هذه القاعدة. وثمة فرق كبير بين النمال في أجسامهن. فقد يدق بعضها، ويصغر جسمه، ويتناهى رأسه في الضآلة بالقياس إلى جسمه، بينا يكبر جسم بعض النمال الأخرى، ويضخم رأسه، ليتناسب مع حجم جسمه.

وفي وادي النمل تختلف أعمال العاملات وأعباؤها، فيناط ببعضها بناء الغرف والأجحار، ويناط بالبعض الآخر تربية الديدان الصغيرة، وما إلى ذلك من الأعمال.

أما النمال الكبيرة الرأس، فإن لها قرونًا قوية، ومن سوادها يتألف جيش النمال الذي يحمي الوادي من غارة المعتدين. وقد أطلق على هذه الفئة من النمل اسم: الجنود. وهي تقوم بحروب وانتصارات رائعة على أعدائها، وتأتي بالأسرى إلى واديها فتستعبدها، وترهقها بكل ما تحتاج إليه في واديها من الأعمال.

ويختلف النظام الغذائي للنمل، سواء في ذلك الأطفال الناشئون والشيوخ الفانون، اختلافًا عظيمًا. ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا أفراد غاية في الندرة، لا تبالي أن تأكل ما تلقاه في طريقها من الأعشاب والمواد الحيوانية.

ومهما يكن من أمر، فإن فم النملة — بطبيعة تكوينه — لا يسمح لها أن تتغذى بغير الأطعمة السائلة — أو نصف السائلة — التي تلعقها، أو تمر عليها لسانها حتى تلينها، وثمة لا تستطيع أن تأكل الأطعمة الجامدة. وقصارى ما تفعله بها أن تمزقها بفكيها، ثم تمتص ما تحتويه — في أثنائها — من عصير.

أما أشهى غذاء تؤثره النمال، فهو أحشاء القنائص ذات العصير، واللحوم الطرية، ورحيق الأزهار، ولب الفواكه الناضجة المشققة، والمواد العسلية واللزجة، والأشربة، والسكر على اختلاف أنواعه، وما إلى ذلك من ألوان الأغذية.

مزايا النمل

ولقد لفتت مزايا النمل — منذ أقدم العصور — جميع الباحثين الذين عنوا بدراسة الحيوان والحشرات، واسترعت انتباههم، وآية ذلك ما ورد في الأقوال المأثورة عن الأنبياء والفلاسفة الأقدمين في العصور الغابرة السحيقة، فقد تجلى إعجابهم بمزايا النمل، وإكبارهم مواهبه وافتتانهم بمثابرته وجلده، وقدرته على العمل، وذكائه، وما ألهمه من تعرف بعضه بعضًا، وتبصره وبراعته في دقائق الهندسة، واضطلاعه بجلائل الأعمال.

وقد نوَّه «شيشرون» — في العام السادس بعد المائة قبل الميلاد — بهذه الميزات الباهرة، وسار على منهاجه كثير من العلماء، وأقنعتهم بهذه الحقائق بحوثهم الصادقة الموثوق بها، وتجاربهم التي أجروها في القرون المتعاقبة، حتى أصبحنا اليوم نؤمن بصدق هذه المزايا إيمانًا وثيقًا لا يتسرب إليه الشك، ونكبر ذكاء النملة وذاكرتها العجيبة. التي تهديها إلى تعرف بعضها بعضًا، وتبادل المراسلات فيما بينها، والتكاتف على أداء الواجبات والفروض المشتركة التي تضطلع بها جميعًا.

مساكن النمل

وتعيش أسراب النمل كلها — إذا استثنينا منها بعض شواذ نادرة — في مساكن مشتركة، يطلق عليها اسم: وادي النمل، وهي — على الأغلب الأعم — مؤلفة من طبقات عدة، ذات أروقة، وغرف للتهوية، وغرف للفقس وتربية البيض والعذارى، وفي بعض الأحايين ترى فيها مخازن للزاد.

وقد قرر أحد العلماء عام ١٨٨٥ في كتابه عن النمل، ما يلي:

إن فن النمال — في بناء مساكنها — يختلف باختلاف أجناسها، فإن لكل نوع بعينه طريقة بعينها، في بناء بيته وتنسيقه. وتستطيع العين المجردة دائمًا أن تميز النملة العاملة، التي تحفر الغرف والأروقة والمساكن. ومما يسترعي الانتباه: شخصية المهندس الذكي من النمال، وطرائقه في هندسة البيوت، وهي تخالف طرائق اليعاسيب والنحل في بناء خلاياها. فإن مهندسي النمل لا تعمل بالمثلث والبيكار، ولا تعنى بقياس الخطوط المستقيمة والزوايا. بل هي تعمد إلى مسايرة ميلها وإلهامها، والاستسلام لغريزتها وابتكارها. وهي ترتجل — من فورها — نظام البيت الذي تسكنه، وتنشئه مبتدعًا على غير نهج مرسوم، أو خطة بعينها، أو هندسة مقررة. وثمة نرى غرفها وأروقتها ودهاليزها وسراديبها كثيرة التنوع، مختلفة الأوضاع، متباينة الأشكال. ولكن مجموع البناء، على اختلاف طرائقه وخططه، مطبوع على الدقة والتناسق. وهو ينم — في كل أوضاعه — على عبقرية مبتكريه، وحذقهم في الهندسة، وتفننهم في أساليبها.

وإن دهشتك لتشتد، ويتعاظمك العجب، حين تنعم النظر في أساليب العاملات الصغيرات في بناء البيوت، واستعدادها الداخلي، وتنوع الطرق والمعدات التي تلجأ إليها؛ إذ تحفر أروقتها تحت الأرض، وتوصلها بسطحها عند فتحة تعينها، أو عدة فتحات. وقد تنتهز فرصة سانحة لبناء واديها تحت صخرة منبسطة تتحصن بها. وربما أنشأت على بيتها قبة أو تلة أو ربوة مكونة من مواد مختلفة، كالحشائش اليابسة وأعشاب النبات وسوقه، وما إلى ذلك.

ومن النمال ما يحفر الخشب، أو ينقشه، ويهيئ غرفه! بعد أن يصنع عجينة يستعملها في تنفيذ أغراضه، وربما عمدت النمال إلى اتخاذ بيتها بين الأخاديد أو الأعشاب المرتفعة، أو في ثنايا أوراق الشجر الكثيفة الملتفة، أو ثقوب الأشجار وفجواتها الطبيعية، وما إلى ذلك. وقد يصل ارتفاع التلال والكثبان التي تأوي إليها النمال، وتتخذ فيها بيوتها، إلى علو متر أو مترين، من القطر إلى القاعدة. وربما شيدت مرتفعات متماثلة — وإن لم تكن في مثل هذا العلو — على طول الطريق أو موازية لسياج طويل من الأعشاب. وقد تنشئ مساكنها في ثنايا الصخور المشقوقة وأسوار المنازل، وربما أنشأتها داخل البيوت، أو في ثقوب الخشب، أو في جذوع الأشجار القديمة.

تلاقح النمل

وفي زمن بعينه من كل عام — يختلف تبعًا لاختلاف أنواع النمل — يخرج الذكور من واديهم جماهير وطوائف، وتخرج الإناث متهيئات للإخصاب في ذلك الوقت. فيطير الذكور في أثرها، ويلتقي الفريقان في الجو، ويتم هذا التلاقح — عادة — في وقت حار.

ومتى كان الذكر أكبر من الأنثى بكثير، لجأ إلى الإخصاب في الهواء حيث تحمله الأنثى على ظهرها. فإذا تناسب جسمه وجسمها، فإنه يقبض عليها، وهي طائرة، ثم تتم عملية الإخصاب على الأرض. ولا تلبث عملية التلقيح — عادة — إلا بضع دقائق. ثم يأتي ذكر آخر فيلقح الأنثى نفسها مرة أخرى. ومهما يكن من أمر، فإن الذكور — بعد أن تتم تلقيح الإناث — تظل هائمة، تعتسف الطريق على غير هدى، وقد امتلأت نفسها يأسًا، وأحست — في أعماق نفسها — أنها قد أصبحت متبطلة، عديمة الجدوى. ثم لا تلبث أن يقتلها الغم والأسى، أو تلتهمها الطيور وسباع الحشرات!

أما الإناث فتهوي إلى الأرض — بعد أن تتم عملية الإخصاب — وتقطع أجنحتها الضعيفة، ثم تذهب النمال العاملة بحثًا عن هذه الإناث، فتجمعها ذاهبة بها إلى واديها الذي خرجت منه.

وإذا رأينا في عالم النحل ملكة واحدة مخصبة، فإننا نرى — على العكس من ذلك — في وادي النمل كثيرًا من الإناث المخصبات، في وقت واحد، ومكان واحد. وهي تعيش جميعًا على أتم وفاق وأسعد عيش، وتقوم العاملات بخدمتهن والعناية بأمرهن، من غير أن تميز واحدة منها على الأخرى. وتظل النملة — بعد عملية التلقيح — مخصبة طول حياتها، فلا تحتاج إلى تلقيح الذكور مرة أخرى. وتظل ثماني سنوات أو تسعًا وهي قادرة على البيض، دائبة على تنمية عدد المواليد في قرية النمل بلا انقطاع.

أما بيض النمل فهو يماثل — عند وضعه — حبوبًا طويلة بيضًا، أو صفرًا، أو غامقة اللون، ومتى وضعته الإناث المخصبات جاءت العاملات فجمعته ورتبته أكوامًا صغيرة. ولا تفتأ تلعقه، حتى يكبر حجم البيض — بفضل عنايتها — ويشف لونه، ثم يفقس، فتخرج من كل بيضة دودة. وهذه الديدان مختلفة الأشكال تبعًا لأنواعها. ولكنها — على تباين أجناسها — عمي بيض، في جسم كل منها اثنا عشر حزًّا، تبدو للفاحص المتأمل، ورأسها أصغر من جسمها بكثير، وهو مائل إلى الأمام.

أما قسمها الأعلى، فهو ضيق مقوس ينتهي بطرف دقيق. وأما أسفل جسمها، فهو مستدير منتفخ قليلًا. وليس في استطاعة هذه الديدان أن تتغذى إلا إذا تعهدتها العاملات بالغذاء، ونفثت في أفواهها عصيرًا مغذيًا مما تدخره في بيوتها لهذه الذراري الناشئة.

ولا تقتصر العاملات على هذا القدر من العناية، بل تزيد عليها، فتعنى بتنظيف هذه الديدان، ونقلها من مكان إلى آخر في أرجاء الوادي، في الأوقات المختلفة من النهار، لتقيها غوائل البرد والرطوبة، وتعرضها لأشعة الشمس الحارة التي تكسب أجسادها الحياة والقوة.

ومتى اجتازت الديدان دور النمو، استحالت إلى عذارى. ولن تتم هذا الدور قبل أن تنقضي عليها فترة تتفاوت بين شهر وتسعة أشهر. فإذا تم نماؤها ظهر جسمها عاريًا، أو ملفوفًا في قشرة حريرية. تحوي — في أثنائها — تلك الحشرات كاملة.

جماعات النمل

وجماعات النمل — في أغلب حالاتها — جماعات بسيطة مؤلفة من أفراد متماثلين. وربما رأيت أفرادًا من النمل متبطلين لا صناعة لهم، ولا عمل يشغلهم، وليس في قدرتهم أن يسهموا — مع أبناء جنسهم — في الاضطلاع بعبء من الأعباء، فهم لا يكلفون أنفسهم عناء البناء أو تعهد الديدان بالتربية. وقد يشتد بهم العجز والقصور، حتى يعجزوا عن تغذية أنفسهم. وثمة نشأت حاجتهم إلى مساعدات وخادمات يقمن بأداء الأعمال المنزلية في وادي النمل ومساكنه. وقد حفزتهم هذه الحاجة الشديدة الملحة إلى الإغارة، لجلب الأسرى واستعباد الأرقاء. وهي لا تألو — في سبيل ذلك — جهدًا، وتعنف وتشتد في تحقيق رغباتها. فتستولي على العذارى، وتغير على الديدان التي لم تخرج بعد من غلافها، فتنقلها إلى مساكنها. ولا يلبث النمل الصغير أن يخرج من قشوره، ثم يصبح طوع إرادة سادته المغيرين، ويلبي أوامرهم ورغباتهم بلا تردد، من غير أن يعرف أنه قد قسم له أن يكون فريسة اعتداء الجائرين، وجشع المستبدين.

وهذه الطائفة من الجماعات النملية الغريبة، يروي لنا التاريخ عنها غرائب خطيرة، ويحدثنا عن عجائب البيوغرافية النملية التي تبده الباحثين الذين يطلقون عليها «جماعات النمل المختلطة». وإنما أسموها كذلك، لأنها مؤلفة من الرؤساء وأتباعهم من الأرقاء المستعبدين، حيث يعيشون في واديهم على أتم وفاق.

وترى في ذلك الوادي — عادة — نملة أو جمهرة من النمال المخصبات. وإلى جانبهن العاملات، فإذا حان فصل النتاج رأيت النمال المخصبة من الجنسين كليهما.

أما النمال التابعة المستعبدة، فليست على الحقيقة — إلا عاملات، لا هم لها إلا خدمة النوع، والتفاني في أداء ما تحتمه المصلحة، وتوجيه نشاطها ومهارتها إلى خير هذه المستعمرة، وخدمة الجماعات النملية، دون أن يكون لها، في ذلك كله أي نفع ذاتي تصيبه من هذه الجماعة.

وللنمل صلات وثيقة ببعض الحشرات. سواء منها ما يعيش في واديه، وما يذهب النمل للبحث عنه في خارج الوادي، ولعل أحب تلك الحشرات الخارجية إلى نفسه، هي البراغيث، التي يمتص النمل من أجسادها سائلًا سكريًّا، يرى فيه أشهى طعام يحبه ويؤثره على كل غذاء!

آراء بعض الباحثين

ويقول بعض الباحثين الثقات: إن النمل لا يخزن مؤونة له، وإنه يهلك في أوقات البرد القارس أو ينتفخ، ويقرر آخرون من الحكماء عكس هذا، وقد وصفوا هذه الحشرة — منذ أقدم العصور السحيقة — بأنها رمز التبصر، ومثال الادخار. وفي هذا الكلام تناقض في ظاهره، وإن كان من السهل على الباحث أن يوفق بين هذه النقائض، ويوائم بينها، لاختلاف أنواع النمل وأجناسه، فإن ما يصدق على فئة بعينها من النمل، لا يصدق على غيرها من الأنواع. فليس من سبيل إلى الشك في أن نمال المناطق القطبية والمناطق المعتدلة، تخالف نمال المناطق الحارة أشد الاختلاف.

وإن الباحث المتأمل في طبائع النمل ليجد — على الحقيقة — أنواعًا منه تسمى: «النمال الحاصدة». وهي قادرة على تحمل البرد القارس، والسعي إلى رزقها، وجلب مؤونتها في الشتاء، كما يرى ذلك في جنوب أوربا. فإن هناك نوعين، يكدسان في نهاية الوادي ما يدخرانه من الزاد، في غرف خاصة، تحوي من الحبوب والغلال والنباتات شيئًا كثيرًا. وربما وجد فيها كثير من جني الحقول والحدائق، لتكون زادًا للنمل عند الحاجة.

النمل والحرارة

وقد كتب أحد العلماء أن أول ما يمتاز به النمل — من الوجهة الجغرافية — اتساع مساكنه، وتعدد جماعاته، وتنوع فرقه. وأن النمل يكثر تبعًا لاشتداد الحرارة. فكلما دنوت من خط الاستواء، رأيت ازدياد أنواعه، حتى لتبلغ في المنطقة الحارة أقصى حد. ولا تكاد تصل إلى الدرجة الخامسة والستين من خطوط العرض، حتى تختفي أنواع النمال قاطبة.

وقد اهتدى الباحثون إلى نحو ألفي نوع من النمال منها زهاء مائة وعشرين تقريبًا، وتعيش في أوربا.

أما أقدم نوع عرف من النمال، فهو النملة الشقراء، وهي لا تكاد تعرف موطنًا لها إلا في الغابات الكبيرة. وهذه النملة جريئة مشاكسة، ميالة بطبعها إلى الخصومة واللدد، مغرمة بالعداء والحرب. وهي تقذف بسمها إلى مسافة بعيدة، تبلغ ستين سنتيمترًا ارتفاعًا.

وثمة نوع آخر غريب منها، يستولي على وديان النمل، بعد أن يطرد ساكنيها. وهناك نمال أخرى تعيش في جوف الأرض، ولا يكاد يعرف عن طبائعها شيء.

وهناك نوع من النمال، يعيش في إفريقية الاستوائية الغربية (سيراليون والكاب وما يجاورهما من الأصقاع). وهي عمْيٌ تتحاشى ضوء النهار، وتكثر من الرحلات، ولا تتخذ لها مقامًا ثابتًا، وكلما نزلت مكانًا، أو حلت محلة، حفرت لها موئلًا تحت الأرض بسرعة نادرة. وهي لا تمشي إلا في الأيام الغائمة، التي لا تطلع فيها شمس، أو في الأمسيات والليالي. وتؤلف، في أثناء سيرها، كتائب هائلة، ولا يصدها عن غايتها أي حائل، ولا تثنيها أي عقبة.

وهذه النمال هي مصدر من مصادر الرعب الذي يستولي على زنوج إفريقية من سكان تلك القرى. فإنها تضطرهم في أكثر الأحايين إلى مغادرة أكواخهم حين تغير عليهم. ولا يزالون يرقبون ابتعاد كتائبها بفارغ الصبر.

وهناك أنواع أخرى من النمال المنتشرة في جميع أنحاء العالم لا سيما في «فلوريدا» و«كلورادو» و«تكساس» و«المكسيك الجديدة» التي استرعت نظر «دارون» للمرة الأولى، في عام ١٨٦١، إذ نشر عنها أحد العلماء ملاحظاته العجيبة، ثم توالى الباحثون في درسها بعد ذلك.

وهذه الحشرات عجيبة حقًّا، فهي تستطيع أن تزرع الأرض، وتبذر البذور وتحصد الزرع، وتزيل من حقلها كل نبات آخر، يعوق نمو تلك البذور.

نمال البرازيل

وهناك نمال مفترسة شتى، كثيرة الأنواع، تكثر في «البرازيل» و«جوانة» وجميع أرجاء «أمريكا الوسطى»، وهي رحالة، بأوسع ما تعنيه هذه الكلمة. فهي لا تقر في مكان بعينه. وهي دائبة السفر من جهة إلى أخرى، فإذا مشت صارت صفوفًا متراصة. وربما أوفدت من كتائبها فرقة كشافة لتستطلع الأرجاء المجاورة، وتجوس خلالها وتفتش كل ثغرة فيها، وكل ورقة ساقطة، وكل عود من الحشائش. فإذا تم لها ما تريد، بدأت الغارة شاملة عامة، واقتحمت كتائب النمال كل ما يصادفها في طريقها، ومزقت ما يعترضها في سبيلها من الحشرات والعناكب والديدان، وربما فتكت أيضًا بصغار الثعابين.

فإذا اعترضها في طريقها منزل مأهول، اقتحمته كتيبة منها، فشردت سكانه كل مشرد، ولم يروا أمامهم إلا الفرار من هذا العدو الباطش المدمر.

ومهما تحدثه هذه النمال القوية المتوحشة من أضرار، فإن ما ينجم عن إغارتها من الفوائد، يُنسي السكان كل ما تكبدوه من خسائر وأضرار، فهي تفتك بالعقارب، والعناكب، والبعوض، والثعابين، والفأر، وما إلى ذلك من الحشرات الضارة، فتطهر المكان الذي تحل فيه تطهيرًا. ولهذا يزعمون أن الأهلين — في بعض هذه الأقاليم — يرقبون إغارة هذه النمال عليهم بفارغ الصبر. ويعدون مقدمها — على ما فيه من أضرار — نعمة وبركة، وخيرًا عميمًا.

نمل العسل

وهناك نوع من النمال يعرف في بلاد «المكسيك» باسم: نمل العسل، وهو يعيش في وديانه: جماعات مؤلفة من الذكور والإناث والعاملات والعاملين. وبعضه يشبه — في مظهره — النمل العادي، والبعض الآخر يخالفه، لانتفاخ بطنه انتفاخًا شديدًا، وإنما كان كذلك لإفراطه في الغذاء.

أما لون بطنه فهو شفاف عنبري، وهذا النوع بطيء الحركة، لا يكاد يتحرك من مكانه. فهو يظل جامدًا ملتصقًا بعضه ببعض تحت الأرض. وفي بطون هذه النمال شراب سكري، غير مبلور، يماثل طعمه العطري طعم عسل النحل، ويقبل الهنود المكسيك على هذا الشراب السكري، في شراهة عجيبة، ويتحلبونه في أفواههم، كأشهى غذاء، ويمزجون به بعض أطعمتهم لتكون من أفخر أنواع الحلوى.

محفوظات

النَّمْلَة

لَوْحٌ مُخْتارٌ مِنْ كِتابِ «نَهْجِ البلاغَةِ»

انْظُرُوا إِلَى اَلنَّمْلَةِ — فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ اَلْبَصَرِ — كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا، وَصُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا: تَنْقُلُ اَلْحَبَّةَ إِلَى مَسْكَنِهَا وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا.

تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، مَكْفُولَةٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا (طَاقَتِهَا وَكِفَايَتِهَا).

وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا، فِي عُلْوِهَا وَسُفْلِهَا وَفِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا (أَطْرَافِ الْأَضْلَاعِ الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى الْبَطْنِ)، وَمَا فِي اَلرَّأْسِ: مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا. لَقَضَيْتَ — مِنْ خَلْقِهَا — عَجَبًا، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤