مقدمة

ظهر هذا الكتاب في اللغة الفرنسوية سنة ١٩٠١، وهو الأول والأوحد من نوعه إلى اليوم، فحسن رأي أهل الوقت في تلك الباكورة التي أتحف بها النبوغ مصر العزيزة، وقد نشرت عنها في العدد الرابع من المجلة المصرية لعامها الثاني فصلًا تحت عنوان «كتاب مفيد»، قلت في استهلاله ما يأتي:

فرغت الساعة من قراءة كتاب لصديقي يوسف أفندي نحاس، نجل المرحوم فتح الله بك نحاس، عنوانه «الفلاح المصري وحالتاه الاقتصادية والاجتماعية»، وهو كتاب قدَّمهُ لعمدة مدرسة الحقوق العليا بباريس طلبًا للقب دكتور في علم الحقوق، فنال بكتابه ما ناله بامتحانه قبلًا من علائم الرضى وكلم الاستحسان التي قلما ينالها أقرانه. وهكذا كلما سمحت الأيام لشرقي مجتهد رأينا ذكاءه يتألق كالصبح، وسمعنا دوي الثناء عليه يجتاز البحار، ويطرق آذان شبابنا كأنهُ صوت منبه يقول لهم: «حي على الفلاح».

لم يبلغ صديقي إلى الآن الخامسة والعشرين من العمر فيما أعلم، ولكن كتابه كتاب كهل عرف وخبر، وهو فصيح الإنشاء، حسن التقسيم والتبويب، واضح المعاني، رمى به إلى غرض شريف: «ترقية الفلاح المصري».

وبعد تلخيص الفصول وتعريب الخاتمة بتمامها كتبت في نهاية ذلك التقريظ الكلمة التالية:

ونحن نكتفي بما تقدم في الدلالة على فائدة الكتاب، وفضل واضعه، ونسأل الله أن يكثر أمثاله في شباننا، فإنه قد جمع بين العلم والعمل.

ظهر ذلك الكتاب أيام كانت الحركة السياسية بمصر هامدة، والحركة الاجتماعية متلاشية إلا بقية من فضائل قديمة، تتنازعها عوامل الترف والحضارة الجديدة لتدفع بها إلى وهدة الفساد والتلاشي، والحركة الاقتصادية لا وجود لها بالمرة، حتى لو أشار إليها كاتب لبدا للناس فضوليًّا يتطالُّ إلى ما لا يعنيه، كأَن مرافق البلد كانت وقفًا على الحكومة من جانب، وعلى الأجانب دون سواهم من الجانب الآخر.

أما الفلاح فقلَّ من كان ينظر إليه إلا وهو يستشرف وجه مصلحة، أو يتنور بارقة أمل في انتفاع، فتأتى من ذلك أن كتاب يوسف نحاس بك لم يكد ينتشر في مصر حتى وقع من نفوس المفكرين الذين يقرءون اللغة الفرنسوية موقع الحادث الجلل، فأما أهل المطامع فتبينوا منهُ خطرًا على مستقبلهم، وأما الوطنيون الحقيقيون فقد لمحوا منه على ضوء البيان الشائق صورة مصرهم العزيزة يوم تستيقظ من رقدتها، وتتبين ما لها وما عليها، وتصبح بما تأخذه عن أبنائها المثقفين البررة، أمثال هذا المؤلف، من المبادئ الاقتصادية الصحيحة حُرَّة مستقلة، يأمن فلاحها في سربه وفي أهله، وتتمشى جماهيرها النامية بفضل الخصب الزراعي والنجاح الصناعي نحو الغايات البعيدة من التقدمين المعنوي والحسي.

كان عجبًا للذين طالعوا هذا الكتاب في حينه أن يجدوا مصريًّا يجيد اللسان الفرنسوي تلك الإجادة التي جاوزت الظنون، وشرح صدورهم منهُ أنه بتعمقه في البحث، وتبحره في معرفة العلم الذي حمل أعلى شهاداته، وإحاطته بأطرافه، ووقوفه على خفي أسراره، وموالاته التنقيب في كل مطلب قد أعاد إلى مصر صحيفة صادقة، ماثلة لديها من صحف ماضيها المجهول بين أهلها كل الجهل، ولا سيما ماضيها القريب في القرن المنصرم، أعاد تلك الصحيفة وأحكم بيان وقائعها، وتبسط في شرح الأسباب والنتائج، وأبدى من الآلام والآمال ما استَشفَّتْ منه النفوس آيات نفس كبيرة، متجهة بكل قواها إلى إنهاض البلد، مشفقة كل الإشفاق على ذلك الفلاح الذي هو أتعس الأهلين مع كونه أنفعهم وأكبرهم عددًا، مستكشفة من خلال الغيب تلك العلل الاجتماعية القديمة التي جنت عليه بين أمثاله أفظع الجنايات، مسترشدة بكل ما كتب عنه في كل لسان عربي أو أعجمي، لتلتمس له الخير من مظنَّات الإصلاح المختلفة.

•••

ذلك هو الكتاب الذي أقدمهُ اليوم عربيًّا مبينًا للأمة المصرية التي لم تفز إلى الساعة بمثاله، على تبدلها من حالة بحالة، وازدياد حاجتها إلى أمثاله.

أُقدِّمهُ لا باعتباره كتابًا منقطعًا كما كان في بدء أمره، بل باعتباره جزءًا أول من أجزاء تالية يتألف من مجموعها الصنيع الجليل الذي خدم به يوسف بك نحاس أمته في مدى الربع المنقضي من هذا العصر.

كان من حسن الطالع أن يوسف بك نحاسًا لم يقف بعزيمته عند إنشاء ذلك الكتاب، بل تبين منذ الساعة الأولى افتقار القوم إلى من يطلعهم على مبادئ علم الاقتصاد، ويتعهد أذهانهم في هذا الباب بالهداية والإرشاد، فاختط لنفسه القيام بهذه المهمة مؤثرًا أن يقرن تعليمه بالعمل، وأن ينتهز لإفاداته فرص الوقائع، فإن الحوادث تعطي العظات أضعاف قيمتها في النفوس متى صحبتها وعززتها.

ومضى على بركات الله في المنهاج الذي ارتسمه، مقتنعًا أن أفضل خدمة يتسنى بها إحياء آمال الأمة في حاضرها، وإعادتها إلى المجد الذي عرفته في غابرها هي الخدمة الاقتصادية من جميع وجوهها، ملتزمًا تلك الخدمة في حدود واسعة قد تتناول آنًا بعد آن السياسة والاجتماع، ولكن عن عُرْض، مواصلًا عناءه كلما دعا داعي النصيحة لتنبيه الأذهان، أو داعي الواجب إلى الاستصراخ لدرء خطر، أو داعي التفدية إلى مناوأة حكومة عاتية للحيلولة دون أمر قد تكون فيه التهلكة لمرافق الجمهور، مداولًا في كتابته بين العربية حين يوجه الكلام إلى الأهلين، وبين الفرنسوية حين يفيد مصرَ أن تعلم عنها أوروبا شأنًا ذا بال، إلى ما يشاء الله من مباحث متعددة الأقواس، متحدة الهدف، لم يفتأ يرمي إليها ساعيًا أو كاتبًا على ما سيأتي بيانه بالتفصيل في الأجزاء التالية.

نشر يوسف بك نحاس ما نشر من رسائل وتقارير وفصول ومقالات في مختلف المجلات والصحف والأسفار، ولا محرك له إلا طاهر الشعور، وصادق الوطنية، يهيب بهِ ذلك الحب الخالص للبلاد، فيلبي مسرعًا غير متردد ولا متلكئ، ينبري للمضمار لا عن حالة طارئة أحدثتها مصلحة، أو أوجدتها هَبَّة عامة جرى في مجراها؛ بل عن إحساس متأصل في نفسه، وغيرة مستكنة بين جوانحه منذ نعومة الأظفار.

وإن الدليل على ما أذكر لقائم كل يوم بمرأى من الجمهور ومسمع، غير أنه قد بدا لي بحق أن المعاصرين إذا كانوا يعرفون هذا الدليل فقد يجهله من يأتي بعد؛ ذلك أن يوسف بك نحاسًا أنفق من قواه الكبيرة في سبيل الخدمة التي حرر لها تلك القوى ما أنفق لا يتوخى إلا تحقيق القصد بعد القصد لمنفعة الأمة، ولا يعنى بخلود اسمه، أو بالتماس شيء خاص بجانب الشيء العام، وقد كان به أمثل أن يهمل هذا الشيء الخاص، ولكنني أنا الصديق القديم له، الواقف وقوفًا مستمرًّا على ما يضمر وما يظهر، المجاهد بجانبه في بضعة الأعوام الأخيرة، وأيُّ جهاد، قد رأيت من الغبن أن لا تجمع تلك الآثار فيتبين المطالعون منها ما كان له من الحصة الكبرى في تشييد البنيان الاقتصادي المصري في العقدين الأخيرين من السنين، ويعلمون من جهة أخرى كيف يستطيع إنسان وقد صحت عزيمته، وسلمت في أي أمر عقيدته، أن يوالي ما تولاه من العمل، بلا سأم ولا ملل، إلى أن يعلم قومه ما يجب أن يعلموا، وينهض بهم ما شاء استعدادهم أن ينهضوا، ويدفع عنهم كوارث لم يمرَّ بالظن أنها تدفع، ويستحق في غير موقفٍ عرفان الجميل من أمة بأسرها حين تنصف صنيعه، ولا تتجاهل نتائجه العظيمة.

أزمعت تحقيق ما نويت من جمع تلك المتفرقات، ولم يكن بالسهل إقناع صاحبي، ولا باليسير ما جرى بيني وبينه من الحوار، حتى أقرَّني على ما أردت، والاقتناع عنده بآرائي أقل من الرغبة في إرضائي، على أن أكبر ما توخيته — والله يشهد — من تقييد تلك الأوابد في مدونة تشملها هو: أن أقيِّض لأهل التحقيق وطلاب التجدُّد في هذا القطر الوقوف على العناصر الأولية التي تكونت منها حالته الاقتصادية الراهنة؛ إذ لا مندوحة لكل معقب على ما سلف أن يحيط بجملته وتفصيله ليجاريه، أو يحاذيه، أو ينقح منه، أو يزيد عليه، وبهذا تتكامل عظائم الأعمال.

ذكرت الأوابد، وليس ما أعني أن يوسف بك نحاسًا كتب تلك الرسائل والفصول والمقالات في أشتات من الأغراض، بل غرضه ما زال من بدء أَمره واحدًا؛ هو إصلاح الحالة الاقتصادية العامة، وإنما الشتات كان في المواضع التي نشرت فيها مقاطر قلمه متفرقات في الزمان والمكان، وإن اتحدت في القصد على الدوام.

فالآثار الصادرة عن ذلك الفكر الذكي والقلب الكبير تملأ روعتها العين، وتملك رقتها السمع، بين ما كتب منها في لغة الضاد بالأصل، وما رُد إليها بالنقل، هي الطُّرَف النفيسة التي تصدر مذ اليوم ممثلة بالطبع في سلسلة درية؛ أول حلقاتها الذهبية هذا الكتاب.

مصر في ٢٠ فبراير سنة ١٩٢٦
خليل مطران

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤