الفصل السادس

الفلاح أمام المحاكم

لا يسعنا أن نختم هذا البحث بلا كلمة نقولها في كيفية معاملة الفلاح أمام القضاء؛ لأن أحكام المحاكم تؤثر تأثيرًا في حالة التقاضي من الوجهتين: الاقتصادية والاجتماعية على السواء.

فإذا كانت هذه الأحكام تراعي طبقات العمال الساذجين الجهلة الذين لا خبرة لهم بالإجراءات المعقدة التي فيها مجال غير محدود للملفقين والمقاضين الخربي الذمم، فإنها تشدد عزائم تلك الطبقات، وتؤثر تأثيرًا حسنًا في حالتهم الاقتصادية والاجتماعية.

أما إذا كان القاضي كثير التمسك بأهداب النصوص، آبيًا أن يعمل عمل القاضي الروماني المجتهد، متشبثًا بالمبنى دون المعنى، فعندئذٍ يقع السذج في حبائل المتمرسين بالإجراءات، فيتولاهم الوهن، ويضعف من جراء ذلك الإقبال الاقتصادي، ولقد تثور ثائرتهم إذ يرون أنهم استغلوا من أشخاص لا ذمام لهم، وأن القاضي شريك في هذا الاستغلال من حيث لا يدري، فيصبح الأمن مهددًا.

غير أننا نسارع بالقول: إن الفلاح اليوم متمتع أمام المحاكم بجميع الضمانات المطلوبة، وإن الأحكام المصرية بمعاونة القوانين الحديثة تحميه أحيانًا حماية تجاوز الحد، ولكن الأمر لم يكن كذلك فيما خلا من الزمن، وقبل الوصول إلى هذه الحالة المرضية ذاق الفلاح الأمرَّين من تجني القضاء، ولا غرو ففي كل بلاد عادمة النظام يفتات الأقوى على الأضعف الذي لا حول له، ولا يذود عنه أحد.

فلنلق نظرة إجمالية سريعة على الزمن الذي سبق إنشاء المحاكم المختلطة والأهلية، لنرى بعد ذلك ما جرى منذ إنشاء تلك المحاكم إلى الآن.

القسم الأول: المدة التي تقدمت إنشاء المحاكم المختلطة والأهلية

قبل إنشاء المحاكم المختلطة وتنظيم المحاكم الأهلية على النمط الحالي كانت حالة الفلاح من حيث التقاضي مجردة من كل ما يتمتع به المتقاضون من الضمانات في البلدان المتمدينة، لا نريد بذلك أن القوانين نفسها كانت مجحفة بحقوقه؛ لأن ما كان يسمى بالقوانين في ذلك العهد كان يتساوى أمامه جميع الأهلين اسمًا، أما في الواقع فالفلاح كان مغبونًا في حقوقه، يجد أبواب المحاكم موصدة في وجهه؛ فإن فتح بعضها له أُغلق على أثر رفعه دعواه وقبل أن يبت فيها، بحيث كان لا يستطيع البتة أن يصل إلى حل حاسم، ويصح القول: إن المحاكم الشرعية كانت التي يرفع أمره إليها دون سواها، ولكنها لم تكن ذات اتصال بمصالحه الجدية، وسنرى في الفقرتين التاليتين ما شأن الفلاح في منازعاته مع الوطنيين، ثم مع الأجانب.

فقرة أولى: المنازعات بين الوطنيين

إن المحاكم الأهلية التي كانت موجودة قبل إصلاح سنة ١٨٧٦ كانت تطبق في المواد المدنية قانونًا قديمًا يكاد يكون نسخة طبق الأصل من القانون العثماني، وكانت المحاكم مؤلفة من مجلس ابتدائي، ومجلس استئنافي، ومجلس أحكام هو عبارة عن مجلس نقض أو استئناف ثانٍ في جميع المواد.

ولم يكن سهلًا على الفلاح أن يستوفي المقاضاة في الدرجات الثلاث المذكورة، وكانت الصعوبات تصدمه عندما ينوي الدخول في الدعوى، على أن تلك الصعوبات كان يستطاع تذليلها إذا قام النزاع بين الأفراد، أما إذا وقع خلاف بينه وبين العمدة أو أحد موظفي الحكومة، فما كانت شكواه بجالبة له سوى الضرب بالسوط أو الحبس بضعة أسابيع، إذا لم تكن له وسيلة فعالة يلجأ إليها ضد الاستبداد الإداري.

ولما كانت أكبر شكاوى الفلاح هي من حاكمية الأتراك المتغلغلين في جميع الوظائف الإدارية، ولهم ما لهم من حول وطول، لم يكن لذلك المسكين المزدرى أن يرجو إنصافًا من أولئك الظلمة العتاة الذين لم يتكلفوا قط احترام قانون ولا ناموس، وأرادوا بكل وسيلة جمع الثروات الطائلة في أقصر الأوقات.

فإذا تسنى للفلاح ولوج باب المحاكم صادفته من فوره موانع لا تقل عن تلك التي تغلب عليها قبل الدخول.

أما الإجراءات فلم يكن لها حد، وجميعها كتابية عبارة عن عرائض وردود، ثم عرائض وردود إلى ما لا نهاية له مما يتراشق به المتخاصمان، على أن كثرة هذه المخطوطات لم تفد شيئًا في جعل الأحكام أضبط وأدق؛ إذ القضاة الذين يصدرونها كانوا خالي الأذهان من المبادئ القانونية، وهم ضباط أتراك متقاعدون، يجهلون في الغالب اللغة العربية، ويعينون قضاة لضرورة إيجاد مناصب لهم في الحكومة.

ولقد عرضت طائفة من تلك الأحكام على المحاكم المختلطة فدهش قضاتها للمفارقات والأغاليط في تلك الأحكام، حتى إنهم كانوا يزجرون المحامين الذين يتلونها عليهم ظنًّا منهم أنهم لا يقرءونها على صحتها.

وهذا مثال صادق من تلك المحاكم العجيبة: قام نزاع بين «زيد» المدعي، و«عمرو» المدعى عليه في طلب مبلغ، فادعى عمرو أن «بكرًا» الذي لم يكن حاضرًا في الخصومة هو المدين بذلك المبلغ، فقضت المحكمة على بكر في غيبته بالدفع.

وأشد ما بلغت إليه الفوضى نجم من عدم الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية؛ فعند تنفيذ حكم كان المدير ينتحل لنفسه حق تعديل الحكم، وإذا خالف المدير القاضي في رأيه أبى التنفيذ، وعرض الأمر على وزير الداخلية، ومن هنا ينفتح باب جديد للإجراءات: مكاتبات بلا عدد بين الوزارات، تلك توافق وهذه تعارض، وفي هذه الأثناء يبقى الحكم معطلًا بين يدي ذلك التاعس الذي عانى ما عانى للحصول عليه.

فقرة ثانية: المنازعات بين الوطنيين والأجانب

إذا كان القضاء قد سار سير العرج بين الوطنيين؛ فإنه عند قيام النزاع بين الوطني والأجنبي يمشي مقعدًا لا حراك به؛ إذ الأجانب من جهة كان مرجعهم إلى قناصلهم، وهؤلاء يرون من الواجب حمايتهم في تلك الفوضى العامة حماية بولغ فيها، حتى جاوزت حد القصاص مهما عظم الذنب، وكان السلابون من كل صقع يستطيعون وراء هذه الدرع المنيعة أن ينهبوا الفلاح ما شاءوا، ولا يترددون في ذلك؛ لأنهم كانوا فوق القانون، وقضايا المصريين ضدهم تلقى في محفوظات القنصليات ولا يعبأ بها.

ومن جهة ثانية، كان القناصل ووكلاء القناصل في المدن، ولهم نفس الامتيازات الممنوحة للممثلين السياسيين ينتفعون انتفاعًا واسعًا بهذه الامتيازات، فيخضعون السلطات المحلية لأوامرهم ونواهيهم، وهي تلين في إطاعتها لهم بقدر ما تخشن وتتجبر مع الأهلين، وكانوا يطردون الفلاح من ملكه بالقوة، فلا يعرف بعد تجريده أين يولي وجهه.

نعم، إنها كانت توجد مقاضاة بالطرق السياسية، ولكن لو قدر أن الفلاح كان يعرف ذلك؛ فماذا كان يجديه عرفانه؟ إذ المفاوضات السياسية مع ما هي عليه من البطء المحض لا تنتهي غالبًا في مثل هذه المسائل إلا بانتصار القنصل مؤيدًا أعظم تأييد من رئيسه ومن السلطات المحلية أيضًا، وقد يتهم الفلاح الشاكي بالافتراء فيعاقب عقابًا صارمًا يبغِّض إليه مثل هذا التظلم ثانيةً.

القسم الثانى: المدة التي أعقبت إنشاء المحاكم المختلطة وإصلاح المحاكم الأهلية

بإنشاء المحاكم المختلطة أصبحت المقاضاة ميسورة لمن يشاء بلا استثناء، وزال الاختلاط بين السلطتين القضائية والتنفيذية، ذلك الاختلاط الذي كان يجرد الأحكام من كل استقلال، ومن كل إنصاف، وأصبح الجميع سواء أمام القانون.

غير أن الفلاح الذي ألف الذل ولم يتعلم شيئًا مما له أو عليه، وكان لا يزال جاهلًا للنظام الجديد وفوائده، استمر في المدة الأولى ضحية لأبشع صنوف الاستباحة، بحيث إن أناسًا من المضاربين اغتنموا فرصة قيام تلك المحاكم للانتفاع من سلامة نية الفلاح وسذاجة فطرته، فتمادوا في ذلك تماديًا يمكن التأكيد معه أن بعضًا من صغار الملاك نزعت ملكيتهم قضائيًّا بدون أن يصل إليهم أي إعلان من المحكمة؛ إذ كان المحضر الحامل للإعلان يذكر فيه أنه سلَّمه للمدعى عليه مخاطبًا إياه شخصيًّا، وفي الحقيقة يسلم ذلك الإعلان إلى شريك سوءٍ للمدعي، والمدعي بعدئذٍ يستصدر حكمًا غيابيًّا يجهله غريمه فلا يعارض فيه، ثم يأخذ رهنًا قضائيًّا على أعيانه بدون أن يطلب قبل ذلك من رئيس المحكمة الاختصاص الذي يجب طلبه اليوم، وبذلك تتم المأساة، فلا يشعر المدعى عليه بنزع الملكية إلا وقد جُرِّد من أعيانه.

فلا مغالاة في قولنا: إن المحاكم المختلطة كانت في بدئها بين يدي السلابين أداة رائعة لجر المنافع كتلك الأسلحة التي خلقت في الأصل لحماية الإنسان؛ فأصبحت بين أيدي الجناة أكبر خطر على حياته.

ولكن لم يلبث المشرع أن أدرك تلك المعايب، فأخذ في إصلاحها، ولكن الوقت كان قد طال بها حتى أفسدت أخلاق الفلاح، وأفقدته سلامة النية والاستقامة الفطرية؛ إذ أصبح بباعث الدفاع عن النفس هو أيضًا كثير المنازعات والخصومات، سيئ المقاصد إلى النهاية.

منحت المحاكم المختلطة الفلاح في دعاويه جميع الضمانات القضائية المطلوبة، ولكنهُ لم يكن متيسرًا له دخول تلك المحاكم في منازعاته مع أبناء وطنه، بل كان في هذه الحالة يرفع أمره إلى المحاكم الأهلية التي بقيت على نمطها القديم المختل، فما عتم أن صدر الأمر العالي سنة ١٨٨٣ بتنظيم تلك المحاكم على النمط الذي تقتضيه المدنية العصرية. وقد أسلفنا بيان التقدم العظيم التي تقدمته تلك المحاكم في الفصل الثاني من الجزء الثاني من هذا الكتاب.

فاليوم يجد الفلاح قضاء عادلًا سواء لجأ إلى المختلط أم الأهلي، وصار القاضي يعتد بجهل الفلاح فلا يتشدد في بعض المواد بتطبيق النصوص عليه، كما أن القانون نفسه قد خصه بالعناية، فهذه الحماية المزدوجة مكفولة له؛ أولًا: في صيغ العقود التي بين فريقين، وأخصها عقود البيع، وثانيًا: في البيع الوفائي، وثالثًا: في الإثبات بطريق العقود العرفية، ورابعًا: في السندات التي تحت الإذن والكمبيالات، وخامسًا: في مادة التنازل.

فلننظر بإيجاز في كلٍّ من هذه المسائل الخمس.

فقرة أولى: صيغ العقود بين فريقين أو أكثر

لما كان قبول المتعاقدين هو أساس كل العقود قضت المادة ٣٠١ من القانون المدني المختلط التي تقابلها المادة ١٥٨٣ من القانون المدني الإفرنسي بأن البيع لا يتم إلا بإيجاب وقبول من البائع والشاري.

ولما كان العرف قد جرى عندنا على أن مبايعات القرويين غالبًا بعقود عرفية موقع عليها من البائع وحده بدون توقيع المشتري بالقبول، فتسجل تلك العقود على ما فيها من نقص في الصيغة القانونية، وكان قضاة المحاكم المختلطة متشبعين بالمبادئ القانونية الغربية، لبثوا زمنًا لا يعتبرون العقود الخالية من قبول المشتري كعرض إيجابي من البائع، وعلى ذلك تمشى قضاة محكمة الاستئناف المختلطة إلى شهر يناير سنة ١٨٩٦.١

هذه الأحكام أوقعت الاضطراب في ملكية الفلاح؛ إذ بموجبها ألغيت جميع المبيعات بالعقود العرفية من حيث إنها كانت كلها كما ذكرنا فاقدة لموافقة المشتري، فبالنظر إلى هذه الحالة عادت محكمة الاستئناف المختلطة فوفقت بين قراراتها وبين عادات الأهالي، بتعديلها قراراتها السابقة، وقبولها في مواجهة الغير تسجيل العقود التي لم يحرر فيها قبول المشتري.

وقد أوجبت هذه الأحكام أن يكون قبول المشتري ناتجًا حتى في مواجهة الغير من نفس التسجيل، ومن انتقال الملكية إلى اسمه، ومن دفعه الضرائب،٢ وهذه أُولى المساعدات التي تمتع بها الفلاح بفضل تطبيق القانون تطبيقًا أقرب إلى العدالة منه إلى النص بدقته.

فقرة ثانية: البيع الوفائي

هذا البيع شائع في الريف كطريقة لحبس العين على سداد الدين؛ فإن الفلاح يميل جدًّا إلى الاحتفاظ بأرضه، ومن أجل ذلك كانت الغاروقي التي يشترط فيها أن يتسلم صاحب الدين فعلًا العين غير موافقة له.

أما الرهن العقاري فالفلاح لا يرغب فيه لكثرة نفقاته؛ إذ هو يقتضي تحرير عقد رسمي أمام قلم كتاب إحدى المحاكم المختلطة بالإسكندرية أو القاهرة أو المنصورة، ومن ثم يتعين على المستدين السفر وتوكيل محام، والغياب عن مزارعه زمنًا إلى أن يوقع عقد الرهن الذي تبلغ مصاريفه ٪، ما عدا أتعاب المحامي ومصاريف أخرى إضافية يبلغ مجموعها قدرًا لا يستهان به؛ لذلك لم تكن طريقة التأمين هذه مرغوبًا فيها إلا عند عقد السلفات الكبيرة.
وقد سبق القول: إن البنك العقاري المصري لا يقرض مبالغ تقل عن مائة جنيه. وهذا قدر يجاوز في العادة حاجات صغار المقترضين، فلا يستطيعون الحصول على تلك الحاجات إلا من المرابين طلاب الفوائد الفادحة، من أجل ذلك يؤثر الفلاح طريقة البيع الوفائي ابتغاء المال، وهو يأمل دوامًا دفع ما عليه في حينه، فيترك المداين له العين المبيعة بتأجيره إياها تأجيرًا صوريًّا. وهذه طريقة بسيطة مرضية للفريقين، إلا أن المدة القصوى التي يجيزها الشارع المصري في البيع الوفائي هي سنتان. جاء في المادة «٤٢٦» من القانون المدني المختلط ما نصه:

لا يجوز للبائع أن يشترط مدة أطول من سنتين من تاريخ البيع لاسترداد العين المبيعة، وإذا اشترط ميعادًا أطول ردَّ إلى سنتين.

على أن المقترض قلما يقدر في مدة قصيرة كهذه على إيفاء السلفة، فيسقط حقه في الاشتراك وتبقى العين ملكًا للدائن.

لا جرم أن الفلاح حين يأخذ بهذه الطريقة للحصول على النقود لا ينوي أن يبيع أرضه حقيقة، ويريد أن يحتفظ بها لنفسه زمنًا تحت الرجوع في الصفقة إذا ندم عليها، ولكنه لاحتياجه إلى المال يجعل لمقرضه سلطانًا لتجريده من أرضه إذا مضت السنتان ولم يسدد ما عليه. وإن ما وصفناه من تواكل الفلاح وعدم تبصره بالعواقب وعدم مبالاته بالمواعيد يريك كيف يسهل بهذا الشرط الخطر تعرضه لفقدان ملكه.

فالبيع الوفائي على هذه الصورة ليس إلا رهنًا حيازيًّا مستترًا، وهذا ما تستكشفه المحاكم كلما جلت لها وقائع الدعوى نيات المتعاقدين الحقيقية؛ لذلك وجد المشرع ضرورة التمييز بين البيع الوفائي الصوري الذي يقوض دعائم الملكية الصغيرة، وبين البيع الوفائي الحقيقي، وأن يجبر القاضي على الأخذ بهذا التمييز لمنعه من تطبيق النص بدقته فيما يخالف مصلحة الفلاح.

فالمادة «٤٢١» من القانون المدني المختلط التي تقابلها المادة «٣٣٨» من القانون المدني الأهلي فرَّقت بين بيعين وفائيين: ما يرمي به إلى حبس العين رهنًا على وفاء دين، وما يحصل به البيع فعلًا مع حفظ حق الرجعة للمشتري إذا أسف على الصفقة.

يلاحظ هنا أن القانون أخطأ الصواب بتسميته بيعًا وفائيًّا ذلك العقد الذي يراد به حبس العين فحسب؛ إذ ليس لهذا العقد من البيع الوفائي إلا صورته الظاهرة، وأما في الباطن فهو رهن حيازة تنطبق عليه القواعد الخاصة بالحيازة المنصوص عليها في المادة «٤٢٢» من القانون المدني المختلط، و«٣٣٩» من المدني الأهلي، وقد جاء في المادة «٤٢٣» من القانون المدني المختلط: «في الحالة الثانية تطبق في البيع الوفائي القواعد الآتية: إذا وجد شك اعتبر العقد رهن حيازة، وذلك إن كان الثمن قد دفع فورًا أو حصلت مقاصَّته بدين سابق، أو اشترط رده مع فوائده، أو إذا بقي الشيء المبيع في حيازة البائع لأي سبب كان، وبخلاف ذلك يعتبر العقد حقيقيًّا، وكل إثبات لما ينافي البيع يقبل بلا التفات إلى اشتراطات العقد.»

فالمشرع المصري إنما أراد القول بأنه فيما يتعلق بالبيع الوفائي يجب الرجوع إلى نية المتعاقدين لا إلى ألفاظ العقد. وهذا هو المبدأ العام الذي يشمل تفسير العقود كافة؛ فالنص الآنف لم يكن إذن ضروريًّا كل الضرورة، ولا يئول وجوده إلا بشدة رغبة المشرع في منح الفلاح حماية خاصة.

ولختام هذا البحث نضيف: إن الأحكام المختصة قد قررت أنه في حالة الريب يعتبر البيع الوفائي رهن حيازة، وعلى هذا فالحيازة على سبيل الرهن هي الأصل المفهوم من صفقات البيع الوفائي، وعلى المشتري إقامة الدليل لإثبات أن البيع كان حقيقيًّا.

فقرة ثالثة: الإثبات بالعقود العرفية

منح المشرع المصري العقود العرفية نفس القوة التدليلية التي منحها إياها المشرعون الأوروبيون، ولكن الفلاح الذي سواده الأعظم أميٌّ لا يستطيع التوقيع على عقوده إلا بختمه الموسوم باسمه، ومن هنا تقوم مصاعب جمة دون الإثبات، فإن اعترف حامل الختم بأنهُ هو الذي وقع به على العقد جاء اعترافه دليلًا عليه، وإن أنكر زاعمًا أن الختم كان قد فقد منه حينًا ثم وجد، أو أنه وقع على العقد بلا علم منهُ، فما هي بالنسبة إليه قيمة عقد بُصم بختمه في أحوال كهذه؟ أيطعن بالتزوير أم ماذا يصنع؟

جميع الأدلة التي في وسعه تنحصر في الإنكار دون سواه، هو لم يضع ختمه، وهذا كل دفاعه، أيقيم الدليل على ذلك؟ كلا، فما عليه بل على المدعي إقامة الدليل.

وما هو نوع الدليل الذي تثبت به مثل هذه الواقعة؟ أشفوي هو أم كتابي؟

تلك الصعوبات متعددة تتعذر في فرنسا؛ لمنعها استعمال الختم، ولتحتيم مشرعها بأن كافة المعاملات التي قيمتها ١٥٠ فرنكًا فما فوق لا يمكن إثباتها إلا بالعقود الرسمية أو العرفية الموقع عليها بالإمضاء (راجع المادة ١٣٤١ من القانون الفرنسي).

ومن حيث إن التوقيع لا يمكن صدوره إذا كان صادقًا إلا ممن هو منسوب إليه، فهو يقوم دليلًا لا ريب فيه على صاحبه، خلافًا للختم الذي يقدر كل حامل له أن يبصم به، فهل يتعين أن يمنح نفس قوة الإثبات التي للخط والإمضاء؟

لم يفصل المشرع المصري فصلًا باتًّا في هذه المسألة، ولكن يؤخذ من المادة «٢٩٢» من القانون المدني المختلط — وتقابلها المادة ٢٢٧ من المدني الأهلي — أنها لا تعتد إلا بالخط والإمضاء كالقانون الفرنسوي، وهذا نص ما جاء فيها: المحررات غير الرسمية تكون حجة على المتعاقدين بها ما لم يحصل إنكار الكتابة أو الإمضاء.

إلا أن المادة «٢٩٠» من قانون المرافعات المختلط — ويقابلها المادة ٢٥١ من قانون المرافعات الأهلي — قد عادلت بين الختم والإمضاء من حيث الإثبات. وهذا نصها:

يجوز لمن بيده سند غير رسمي أن يكلف من عليه ذلك السند بالحضور أمام المحكمة ولو لم يحل ميعاده لأجل اعترافه بأن هذا السند بخطه أو إمضائه أو ختمه، ويكون ذلك التكليف بصفة دعوى أصلية على حسب الأصول المعتادة فيها.

ومن هذه المعادلة تنتج الصعوبة التي أومأنا إليها في جانب إنكار المدين أنه هو الذي بصم بختمه على العقد المستدل به ضده.

في بادئ الأمر كانت قرارات محكمة الاستئناف المختلط تأبى على الختم غير المصحوب بالإمضاء قوة الدليل التام، وقد قضى فيها أن الصك العرفي المبصوم بختم المدين، والذي شهد به شاهد واحد لم يكن دليله كافيًا، ويحتاج إلى الاستيفاء باليمين٣ المتممة، وأن السند المبصوم بختم المدين وختمي شاهدين يقوم دليلًا في القضاء؛ حيث لا توجد أدلة مقنعة بإثبات النقيض.٤

وللوقوف على الروح المستمدة منها هذه الأحكام نلاحظ أنها روح الشرع الإسلامي الذي يأخذ بالشهادة دون سواها، ومحكمة الاستئناف المختلطة بإيجابها تأييد شاهدين لصحة الاستدلال بالختم دون الخط تعترف ضمنًا بأنه وحده لا يكفي دليلًا.

هذه النظرية موافقة لعادات البلاد غير أن لها شائبة، وهي أنها تجعل الدليل بشهادة الشهود لا حد له.

أما الأحكام الآن فمترددة في هذا الموضوع أو غير باتة، ولقد فُصل أولًا فيما يتعلق بإنكار وضع الختم، وبمعرفة على من يجب إثبات صحة العقد بأن من ينكر بصمه بختمه لا يحتاج إلى الطعن بالتزوير في العقد المتمسك به ضده؛ وذلك لأن الأوراق لا تكون حجة إلى أن يطعن فيها بالتزوير إلا إذا كان وجودها المادي غير متنازع فيه، وثانيًا: بأن على المدعي إثبات صحة العقد الذي يتمسك به.

إلا أن جميع المحاكم لم تأخذ بهذين المبدأين طِرادًا، وبعضها أوجب الطعن بالتزوير فألقى حمل الإثبات على عاتق المدعى عليه.

أما الطريقة المعتدلة لإثبات واقعة وضع الختم، فيلوح لنا أنه إذا لم توجد مستندات كتابية، ففيما عدا اليمين لا يتسنى إلا الإثبات بأقوال الشهود، وهو إثبات خطر ومملوء بالريب، على أن قبول الإثبات بالشهود لم يُجزه الشارع المصري فيما يجاوز ١٠٠٠ قرش «٢٦٠ فرنكًا»، اللهم إلا إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة.

ولما كان لا بد من الاعتراف بصحة الصك ليكون فيه بدء دليل، فالصك الذي ينكر المدين بصمه بختمه لا يمكن أن يتكون منهُ بدء الإثبات الكتابي الذي يجيز سماع الشهود.

وأخيرًا إذا قدر أن المدين يعترف بأنه بصم بختمه على الصك المختلف فيه لم يكن الإثبات كاملًا؛ لأن ذلك المدين الأمي لم يستطع معرفة فحوى الصك الذي ختمه، بل إنه فعله بسلامة نية وهو يجهل حتمًا مضمونه، ويحتمل أن يكون قد غُش أو تلي عليه غير ما في العقد، فكيف يثبت ذلك؟ وبأي حق يحتج عليه بعقد لم يكن في وسعه التثبت من مضمونه تمامًا؟ اللهم إلا إذا فرض في الشخص المتعاقد معه الصدق وحسن القصد اللذان يتوافران في كاتب عقود نزيه.

من كل ذلك يتضح أن الطريقة المتبعة هي بذاتها فاسدة، والواجب فيما يختص بالأميين أن لا يقبل في الإثبات ضدهم إلا العقود الرسمية، والفلاح الذي يلتزم بمجرد وضع ختمه على ورقة لا يعرف فحواها هو برغم الحماية التي تخصه بها المحاكم عرضة دوامًا لأن يتغفله كل ذي ضمير خرب يتعمد الاحتيال عليه، والانتفاع بجهله وسلامة نيته.

فقرة رابعة: الكمبيالات والسندات تحت الإذن

لم يفرق القانون التجاري المختلط بادئ بدء بين السند تحت الإذن والكمبيالة الموقع عليهما من الزارع، وبين الموقع عليهما من غير الزارع، وإن المادتين «١١٤» و«١٩٦» من القانون التجاري المختلط لم تكونا تستثنيان إلا الصكوك التي يمضيها النساء والبنات من غير التاجرات، فكانت هذه الصكوك وحدها غير معتبرة تجارية، بل تعهدات مدنية.

وكان الفلاح، مع عدم تمرنه بالأشغال، ملزمًا تجاريًّا بالسندات التي يوقعها، يتعرض للإجراءات السريعة في المحاكم التجارية والتنفيذ العاجل للأحكام الابتدائية الصادرة ضده، ومحرومًا المهلة التي يجوز للمحاكم المدنية أن تمنحه إياها، وملزمًا بدفع الفوائد التجارية وهي أعلى من الفوائد في المواد المدنية.

لكن هذه الشدة قد زالت بالأمر العالي الصادر في ٥ ديسمبر سنة ١٨٨٦، الذي جعل الزراع الذين لا يحترفون حرفة أخرى فيما يختص بالسندات التي يوقعونها في حكم النساء والبنات غير التاجرات، وقرر أن تلك السندات لا تعتبر تجارية.

ومنذ صدور هذا الأمر العالي أصبحت جميع الصكوك، سواء أكانت سندات تحت الإذن أم كمبيالات، الموقع عليها من الفلاحين صكوكًا مدنية محضة، والمحاكم المدنية هي التي تنظر فيها وتمنح الفلاح الآجال إذا رأت مسوغًا لذلك، والفلاح غير معرض للتنفيذ المعجل، ولا متحمل الفوائد التجارية.

على أنه فيما يختص بتلك الفوائد لم يتمتع بنفس الميزات التي له في المواد المدنية الأخرى؛ إذ الفوائد تسري عليه رغم أن الصك غير تجاري لا من يوم إعلانه بالدعوى، بل من تاريخ البروتستو، عملًا بالمادة ١٩٤ من القانون التجاري المختلط.

وعلى كل حال، فالصكوك الموقع عليها من الفلاح تتمشى عليها أحكام السندات تحت الإذن، إلا من حيث اعتبارها غير تجارية؛ وذلك لأن تلك الصكوك تنقل من يد ليد أخرى بمجرد التحويل، ولا يجوز للمدين أن يحتج ضد حاملها بالدفوع التي كان يسعه أن يحتج بها ضد المحرر لأمره في الأصل، مثل: المقاصة، أو سداد قيمة الصك٥ إلخ.

فقرة خامسة: التنازل

اتباعًا لأحكام الشريعة الغراء لا يجوز للدائن أن يحول دينه إلا بموافقة المدين، حتى لا يرغمه على معاملة شخص قد يكون أشد عليه منه.

فتطبيقًا لهذا المبدأ، نص القانون المدني الأهلي في المادة «٣٤٩» على أن ملكية الدين أو الحق المتنازل عنه لا تنتقل، والبيع لا يصح إلا بموافقة المدين، وكان القانون المدني المختلط قد حاد عن هذه القاعدة زمنًا، وكانت المادة «٤٣٦» منه تنص بأن ملكية الدين المتنازل عنه تنتقل بالنسبة للغير بإعلان المدين بالتنازل، فقبول المدين لم يكن إذن ضروريًّا، وكان المدين المصري مُجبرًا على قبول التنازل الذي يكون في الغالب للأجانب، فيعلن أمام المحاكم المختلطة التي قد يبعد مركزها عن محل إقامته بعدًا كبيرًا، مع أنه لولا هذا التنازل لاضطر الدائن الأصلي إلى إعلانه أمام المحاكم الأهلية التي بجواره.

ثم جاء الأمر العالي الصادر في ٢٦ مارس سنة ١٩٠٠ فعدَّل المادة «٤٣٦» من القانون المدني المختلط، وعاد بها إلى نص القانون المدني الأهلي، وإلى مبادئ الشريعة الغراء، حيث جاء في التعديل ما نصه: «ومع ذلك فالتعهدات المدنية بين الوطنيين لا تنتقل بالتنازل إلا بموافقة المدين، ولا تثبت هذه الموافقة إلا بالكتابة أو اليمين.»

وفي هذا التعديل حماية للفلاح وإجحاف بمصلحة الدائن الذي أصبح لا يستطيع التصرف في دينه إذا أبى المدين عليه ذلك.

١  راجع قرارات ١٢ فبراير سنة ١٨٩٠، و٤ فبراير سنة ١٨٩١، و٢٣ يناير سنة ١٨٩٦ الواردة في نشرة التشريع والأحكام المصرية لمصدريها لبسوهن ودي رنسيس وشراباتي. القرار الأول في الجزء الثاني ص٣٧٣، والقرار الثاني في الجزء ٣ ص١٩٤، والقرار الثالث في الجزء ٨ ص٩٩.
٢  راجع قرار محكمة الاستئناف في ٣٠ يناير سنة ١٨٩٦، مجموعة تشريع الأحكام، ج٨، ص٣، وقرار ٢٤ فبراير سنة ١٨٩٧، ج٩، ص٣٠٥، وقرار ٢١ أغسطس سنة ١٨٩٧، ج٩، ص٣١٠.
٣  قرار ١٤ يونيو سنة ١٨٧٦ في نشرة التشريع والأحكام، ج١، ص١١٥.
٤  قرار ١٤ يونيو سنة ١٨٨٦ في النشرة الآنف ذكرها، ج١، ص١١٥، ونمرة ١١٦.
٥  راجع قرار محكمة الاستئناف في ١٩ ديسمبر سنة ١٨٩٥، نشرة التشريع والأحكام، جزء ٨، ص٤٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤