بين سعيد وإسطفانوس

وقفت دميانة تنظر إلى القوارب والحراقات الماخرات في النيل على عرضه وفيها الناس زرافات ووحدانًا وقد مدت عليها الموائد للطعام والشراب. وما من حراقة إلا وفيها أوعية الخمر وأطباق الفاكهة. وقد تزاحم الناس رجالًا ونساءً من أصحاب اللهو وأرباب الملاعب والمخنثين. وعلت ضوضاء المغنيين والمغنيات والراقصين والراقصات وقد خلع بعضهم العذار وفتكوا برقع الحياء. وكانوا يرتكبون في ذلك الاحتفال أنواع القصف ويجاهرون بالمنكرات حتى لَتثور الفتن ويقتل الناس ويباع من الخمر خاصة في ذلك اليوم بما ينيف عن مائة ألف درهم أو خمسة آلاف دينار. وقد ذكروا أن واحدًا باع في يوم واحد باثني عشر ألف درهم فضة من الخمر. وكان اعتماد فلاحي شبرا دائمًا في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في عيد الشهيد إذ يجتمع في ذلك الاحتفال عالم عظيم يملأ البر والبحر لا يحصيهم إلا خالقهم، بعضهم في القوارب والحراقات والبعض الآخر في الخيام.

وأخذ ربان الدهبية يُزاحم القوارب والحراقات والناس يوسعون لها؛ لأنها لصاحب الخراج حتى دنتْ من الشاطئ وقد مالت الشمس نحو الأصيل فتسارع البحارة إلى إنزال الركاب.

وتأهبت دميانة للنزول وإذا هي تسمع بعضهم يقول: «هذه سفينةُ الوالي انظروا انظروا. إنها سفينة ابن طولون؟»

فلما سمعت ذلك أجفلت، والتفتت فرأت بقرب الضفة الأخرى من النيل سفينة فخمة عرفت أنا هي التي يعنونها، لكنها لم تُشاهد عليها الراية، وتذكرت علاقة حبيبها سعيد بابن طولون، فقالت في نفسها: «لعله على ظهر هذه السفينة.» وأطالت النظر إليها؛ ترجو أن ترى ما يدلها على ذلك فلم تستطع تمييز شيء، ولكنها سمعت الناس يستغربون مجيء هذه السفينة وهم بين مصوب ومخطئ، ولم تنتبه دميانة إلا والعم زكريا يناديها لتنزل، فنزلت ووقفت تنظر إلى تلك السفينة فرأتها تقترب من الشاطئ ودهبية المارداني تتقهقر إلى الوراء لتخلي لها مكانًا لترسو — فرجح عندها أنها سفينة الوالي، ولكنها لم تشاهد علَمه عليها، واستطالت الوقوف فاستحيت ومشت نحو الكنيسة فمشى زكريا أمامها وهو يوسع لها الطريق بين الباعة وأهل الشعوذة والغوغاء، فقطعت مسافة طويلة بين الخيام وقد تصاعد الغبار وعلا الضجيج وهي مطرقة لا تلتفت يمينًا ولا شمالًا حتى وصلت إلى الكنيسة — وقد تزاحم الناس في صحنها وقل بينهم من جاء للزيارة أو للصلاة — فدخلت الكنيسة وما تنسمت رائحة البخور الممزوج بدخان الشموع حتى انتعشت وخشعت فاستفهمت عن الصلاة متى تكون، فقيل لها إنهم يبدءون بها نحو الغروب، ويتولى رياسة القداس أسقف الفسطاط — وكان من كبار الأساقفة — وقد عهد إليه أن يرأس القداس هناك لقُربه من شبرا ففرحت دميانة؛ لأن القداس سيكون فخمًا.

وأحبت أن تغتنم فرصة الانتظار لمشاهدة التابوت الذي فيه أصبع الشهيد فقيل لها إنه موضوع في حجرة مقفلة بجانب الكنيسة، لا يخرجونه إلا في حينه. فاكتفت بالصلاة تشغل بها نفسها حتى يبدأ الأسقف قداسه. فتحولت إلى أيقونة ولادة السيد المسيح، وأخذت تصلي بحرارة تطلب ما تشعر بأنها في حاجة إليه، وهي لا تحتاج إلى شيء مثل حاجتها إلى التخلُّص من الشراك التي نصبت لها، فتوسلت إلى الله أن يُنقذها من إسطفانوس، فقد كان قلبها دليلها على أنه ليس النصيب الذي تريده.

•••

كانت دميانة تصلي وتتضرع، ولا يلتفت أحدٌ إليها لاشتغال كل بنفسه، والعم زكريا منتح مكانًا في الكنيسة يرى منه دميانة ويشاركها إحساسها، وفيما هي غارقة في تضرعاتها سمعت سعالًا أجفلها؛ لأنه وقع في أذنها وقوعًا نبه عواطفها ولفت قلبها، فالتفتت بغير قصد إلى جهة السعال فرأت سعيدًا مقبلًا نحوها فتسارعت دقات قلبها وتولتها الدهشة وتوهمت أنها في حلم؛ لأنها لم تكن تتوقع قدوم سعيد في تلك الساعة. فلما وقع نظرها عليه ابتسمت ووقفت لا تدري ماذا تفعل.

أما هو فمشى نحوها يبتسم ويقول: «أظنني أزعجتك يا دميانة سامحيني.»

قالت: «لم تزعجني يا سعيد، ولكنك أدهشتني بهذا اللقاء على غير انتظار لعلك أتيت لتحضر قداس الأسقف؟»

قال: «أي أسقف؟ كلا إنما جئت لأراك.»

قالت: «جئت لتراني؟ ومَن أنبأك أني هنا؟»

فتنهد وقال: «علمته من وقوف سفينة المارداني بقريتكم، ومن دعوة ذلك الشاب إياك لتحضروا الاحتفال بعيد الشهيد.»

فأدركت أن أبا الحسن أخبره بما حدث وعلمتْ أن سعيدًا لم يوافها إلى شبرا إلا غيرة عليها فانبسطت أسرَّة وجهها، وازداد ميلها إليه فقالت: «وكيف أنت؟ هل تنوي البقاء هنا إلى صباح الغد؟ وأين تقيم وكيف؟» وتلعثم لسانها من شدة الفرح.

فقال: «أتيت في سفينة الوالي أحمد بن طولون.»

قالت: «إن قلبي كان دليلي منذ رأيت تلك السفينة. وهل ابن طولون فيها؟»

فأطرق سعيد وسكت لحظة ثم قال لها همسًا: «هو فيها، لكنه لا يُريد الظهور للناس وقد أوصاني بأن أكتم مجيئه؛ لأنه جاء بناءً على ترغيبي؛ فقد كان دعاني في هذا الصباح ليكلمني بشأن العين والاحتفال بجر الماء إليها، فانتهزت هذه الفرصة المواتية وذكرت له الاحتفال بعيد الشهيد وما يجري فيه من الغرائب ورغبته في مشاهدته ليلًا، فرضي وأركبني معه على أن يشاهد ذلك سرًّا، فلما رست بنا السفينة استأذنتُهُ في زيارة الكنيسة ريثما يخيم الظلام ويبدأ الاحتفال، فجئت ومررت بالفسطاط الذي كنت أحسبك فيه، فرأيت أباك وصاحبه في زمرة من الشاربين والمغنيين وعلمت أنك أتيت الكنيسة فجئت.»

فقالت: «إنها منة لا أستحقها. فأنت باق هنا إلى الصباح؟»

قال: «سأبقى في السفينة عن بعد. كيف أنت الآن؟»

فهاج سؤاله أشجانها فأطرقت وتنهدت، وأرسلت دمعتين رآهما سعيد تنحدران على خديها، فأحس بهما كأنهما جذوتان وقعتا على قلبه فقال: «ماذا أرى؟ ما بالك؟ ما الذي يخيفك يا دميانة؟» وأدرك سبب بكائها فاستأنف الكلام قائلًا: «لا تخشي أحدًا إذا كنت شجاعة كما أعهدك، إن ذلك الغلام سيرجع القهقرى كما رجعت سفينته أمام سفينتي الليلة، إنه لا يستطيع أن يلثم موضعًا وطأته قدمي.» قال ذلك وبانت عليه أمارات الأريحية والأنفة.

فأعجبت به ولكنها كانت تخاف أباها، فانقبضت نفسها وتجلدت، فقالت: «أَراجع أنت إلى السفينة الآن؟»

قال: «لا بد من ذهابي قبل الغروب إلا إذا أمرتني بالبقاء لأمر تخافينه، فلا أبالي رضي الوالي أم غضب.»

قالت: «أما بقاؤك معي فغاية مرادي.» وتوردتْ وجنتاها وأتمت الحديث قائلة: «ولكنني لا أريد أن تغضب ابن طولون وهو الذي قدمك ورفع منزلتك ولكنني …» وسكتت.

قال: «لن يطول افتراقُنا؛ فإننا عما قليل نحتفل بجر مياه العين، وبعد ذلك نجتمع ويكون اجتماعُنا دائمًا — إن شاء الله — هذا إذا كنت تريدين.»

فتنهدت وقالت وهي تخفض صوتها لئلا يسمعها أحد: «تسألني إذا كنت أريد؟ هذا أمر لا أجيب عنه سل قلبك يدلك عليه ولكن ماذا أفعل؟» وشرقت بدموعها.

فأدرك غرضها، فقال «فهمت. أما هذا المغرور الذي يتطاول إليك فإنه لن يحصل منك على قلامة ظفر، ومهما يكن من طُول باعه عند صاحب الخراج فإن صاحب مصر أطول باعًا وأرفع مقامًا.» وحانت منها التفاتةٌ فرأت العم زكريا مسرعًا نحوها يقول: «إن الرجل آتٍ.» قالت: «أي رجل؟»

قال همسًا: «إسطفانوس.»

فلما سمعت اسمه تراجعت وامتقع لونُها، ونظرت فرأت إسطفانوس داخلًا يتمايل ويزيح الناس بيده ويمشي مختالًا، فبغتت حتى كاد الدم يجمد في عروقها.

ولحظ سعيد اضطرابها فهبت فيه الحمية وعزم على التفاني في الدفاع عنها. فتقدم حتى وقف بحيث يعترض إسطفانوس إذا اتجه نحو دميانة، وقد كاد الشرر يتطاير من عينيه. ووصل إسطفانوس يترنح من السكر، فلما وقع نظره على سعيد ثاب إلى رشده وتبخر سكره وثارت الغيرة فيه وأخذته العزة بمنصب أبيه بعد أن رأى الناس يوسعون له ويحترمونه، فأشار إلى سعيد أن يفسح له طريقه فلم يجبه فمد يده وهَمَّ بأن يزيحه من الطريق وهو يخاطب العم زكريا وينهره ويقول: «ما هذا الوقوف هنا إلى هذه الساعة؟ إن مولاك ينتظركما وقد غربت الشمس.»

فلما رأى سعيدٌ يد إسطفانوس ممدودةً إليه دفعها عنه بعنف فتقهقر إسطفانوس حتى كاد يقع على الأرض وكبر ذلك عليه في مشهد من الناس، فعاد إليه وقد شرع يده كأنه يهدده وقال: «ما هذه القحة؟ أنا لا أخاطبك. امش في سبيلك.»

فدفع سعيد يد إسطفانوس عنه وقال: «امش أنت. عد إلى مكانك حتى تنتهي من سكرك.»

فأكبر إسطفانوس هذه الإهانة، ومد يده إلى جانبه كأنه يحاول أن يستلَّ خنجرًا، فابتدره سعيد بلطمة على خده، فدار على نفسه وقلب على ظهره، وكان لوقوعه صوتٌ لفت أنظار الجمهور. فارتبكتْ دميانة وخافت الفتنة، وأمسكت سعيدًا بيده وتوسلت إليه أن يتركه ويمضي لسبيله خوفًا من الفضيحة، فقال: «لا خوف عليك ليس للأمر علاقة بك.» وتقدم إسطفانوس وهو يتحفز للقيام وهَمَّ بأنْ يركل بقدمه فتهافت الناس ومنهم من يُريد الدفاع عن إسطفانوس لوجاهته عندهم وهم لا يعرفون سعيدًا، وأراد بعضهم أن يرده فصاح سعيد: «ارجعوا، والله لولا حرمة هذا المعبد لأَرَقْتُ دماءكم على بلاطه.»

فتراجعوا وعمدوا إلى اللين وكان إسطفانوس قد نهض ورجع إلى رشده وأدرك عجزه عن مناوأة سعيد، فلجأ إلى الحيلة، فتحول من غضب إلى عتاب، وقال لسعيد: «إني لم أكلمك فلماذا تعتدي عليَّ. إن أبا هذه الفتاة استبطأ غيابها، فكلفني أن أدعوها فكأنك ظننتني أريد بها سوءًا، فأخذتك الغيرة عليها لأنك جار أبيها — على ما أذكر — فتعرضت لي؟».

فلما رأى سعيد جُبنه واحتياله ازداد احتقارًا له، فقال: «مهما يكن السبب فمثلك لا يليق أن يأتي لهذه المهمة وهو يترنح من السكر، فإذا كان أبو الفتاة يطلبها فليأت هو ليأخذها وأنا واقف هنا في خدمتها حتى يصل.»

فضحك إسطفانوس جبنًا ورياءً وقال: «كأنك لم تصدق قولي. اسأل العم زكريا؛ فإنه يعرفني. ثم إني لم أخاطب السيدة نفسها وإنما خاطبت خادمها.»

فتقدم العم زكريا لفض المشكلة بالحُسنى، فخاطب سعيدًا قائلًا: «أشكرك يا مولاي. والمعلم إسطفانوس يشكرك أيضًا على غيرتك وتفضلك، ولعلك تعرف علاقته بسيدي، فإننا جميعًا في ضيافته اليوم.» ثم وجه خطابه إلى إسطفانوس قائلًا: «وأظنك يا مولاي تعلم أن المهندس سعيدًا من أبناء طائفتنا وهو جارنا في المنزل وعزيز على سيدي ولم يتصد لك إلا لأمر أنت …»

فقطع إسطفانوس كلامه وعمد إلى المداجاة والملاينة قائلًا: «قد علمت أنه من طائفتنا وإن كان مقيمًا مع أبي الحسن. ولكنه لم يمهلني حتى أُفهمه مرادي، فنحن إذن أصدقاء.» وضحك.

فأتم العم زكريا كلامه: «وأما سيدتي دميانة فإنها ستبقى هنا لحضور قداس الأسقف الليلة، وأنا معها ولا خوف عليها.»

فقال: «إذا كان الأمر كذلك فقد انقضت مهمتي، وها أنا ذا راجع لأخبر صديقي المعلم مرقس بذلك.» والتفت إلى سعيد، وقال: «أنا ذاهبٌ يا صاحبي، فهل باق أنت هنا؟»

فاستغرب سعيد ما رآه من جبنه وذُله وصغر نفسه، وأجابه بلا اكتراث: «نعم أنا باق.»

فخرج إسطفانوس ولسانه يقول: «أستودعك الله.» وقلبه يضمر الحقد وتدبير الأذى لسعيد.

وظل هذا واقفًا حتى خرج إسطفانوس ثم هز رأسه والتفت إلى دميانة وقال: «إنه لخلق غريب هذا هو منافسي فيك، وكنت أود البقاء في خدمتك إلى آخر الليل لولا اضطراري إلى العودة للسفينة، وقد غابت الشمس وأخاف أن يغضب الوالي وأنت لا ترضين أن يغضب.»

فوقعت دميانة في حيرة وقد زاد احتقارها إسطفانوس واحترامها سعيدًا، وقالت: «لا أريد أن يغضب الوالي، سرْ في حراسة الله.»

فأدرك مِن لحن صوتها أنها لم تقل كل ما في خاطرها، فنظر إليها وعيناه تتكلمان وهي تجيبه بعينيها، وكلاهما يحاذر أن يلحظ الناس حاله. ولولا اشتغال الجميع بشئونهم لم تُتح لهما فرصة للكلام. فلما رأته دميانة ينظر في عينيها أدركت أنه يستفهمها عن مرادها، فقالت ثانية: «سرْ في حراسة المولى ورعاية السيد المسيح.»

قال: «فهمت ذلك من قبل ولكنني أحسبك تضمرين شيئًا آخر.»

قالت: «لا أضمر شيئًا سوى أني …» ففهم مرادها، وقال: «ولا تبالي شيئًا، فما هي إلا بضعة أيام حتى يخلو لنا الجو، فإني عندما انتهي من جر الماء أفوز برضاء الوالي، فلا يبقى لصاحبنا هذا جسارةٌ للكلام معك، ويظهر أنه لم يعد يجسر على ذلك منذ الآن ألم تري جبنه وخوفه؟ اطمئني لا تخافي. أستودعك الله.» ومد يده وودعها وخرج.

أما دميانة فوقفت بعد خُرُوج سعيد جامدة، وقد ندمت على مجيئها إلى الكنيسة؛ لعلمها بأخلاق إسطفانوس. وأدرك العم زكريا قلقَها فأخذ يخفف عنها ويحقر أمر إسطفانوس في عينيها ويهون عليها غضبه وأنه لا يستطيع أمرًا. ثم علت الضوضاء في الكنيسة وتصاعدت رائحةُ البخور وتعالت أصوات الترتيل وصلصلة المباخر، فتوجهت الأنظارُ نحو الأسقف داخلًا بأثوابه الكهنوتية تتلألأ وبين يديه الشماسة بالشموع والمباخر، فاشتغلت بسماع القداس عن هواجسها إذ كانت تجد في سماعه لذةً عظيمة.

قضت في الصلاة وسماع القداس برهة وهي تفهم كل ما يقال لأن الصلاة كانت لا تزال كلها بالقبطية وهي تفهمها جيدًا. وكان الظلام قد أسدل نقابه، فازدادتْ أنوار الشموع ظهورًا وكثر الزحام حتى تضايقتْ دميانة في موقفها. ولحظ العم زكريا ذلك فاستمهلها وذهب إلى شماس يعرفه، واستأذنه في كرسي ترتاح عليه بحيث تسمع الصلاة بعيدًا عن الضوضاء. فأجاب الشماس طلبه ودعاها إلى كرسي بجانب الهيكل بعيد عن الناس. فجلست عليه ووقف العم زكريا بين الحضور وهو يراعيها وينتظر إشارتها.

فلما جلست هناك أشرفت على الجماهير وأكثرهم من أهل القرى والعمال بين مصغ للقداس ومشتغل بالحديث. وفيهم النساء والأطفال والضوضاء غالبة لشدة الزحام. ومع تلذُّذها بما تسمعه من التراتيل الروحية فإن صورة سعيد لا تزال تعترض تصوراتها فإذا تذكرت ما دار بينهما اختلجَ قلبها وإذا تذكرت إسطفانوس انقبضتْ نفسها، وفيما هي في ذلك رأت الجماهير يتفرقون وقد فتحوا في وسطهم طريقًا دخله جماعةٌ يحملون تابوتًا عليه رسوم كنائسية. حتى إذا توسطوا الكنيسة وضعوه على منضدة قائمة هناك، وخشع الناس لرؤيته ودنا الأسقفُ منه بالمباخر، وأخذ يتلو الصلوات والأدعية ويتضرع إلى الله أن يقبل احتفالهم ويبارك النيل إذا ألقوا التابوت فيه والناس على دعائه.

•••

فرغ الأسقف من الصلاة، وأخذ الناس ينفضون ويخرجون فنظرت دميانة إلى العم زكريا في المكان الذي عهدته فيه، فلم تجده فارتبكت في أمرها، وأجالت نظرها في الجمع لعلها تجده بينهم، فلم يقع بصرُها عليه، فازدادت قلقًا إذ خافت أن يخرجَ الناس كلهم ولا تراه. لكنها ما عتمت أن رأتْه داخلًا مسرعًا، فسري عنها ولما دنا منها سألته عن سبب غيابه فقال: «فكرت فيما نعملُهُ بعد انقضاء القداس، وأنا أعلم أنك لا تحبين الذهاب إلى فسطاط إسطفانوس، فذهبت إلى أبيك واستأذنته في أن نعود للمبيت في الدهبية.»

ففرحت لهذه الفكرة وقالت: «وهل أذن لك في ذلك؟»

قال: «نعم هيا بنا إذا شئت.»

فنهضت ومشت في أثره حتى خرجت من الكنيسة، فرأت ما أدهشها من الأنوار الكثيرة في الخيام على الضفتين وفي الجزر وفيها المصابيح والمشاعل وقد تزاحم الناس وعلت ضوضاؤهم بين غناء ونداء وعربدة وقهقهة. ولفت نظرها ما شاهدته هناك من الأنوار السابحة في النيل على الحراقات، فإنها كانت كثيرةً وفي كل حراقة جماعة يشربون ويعربدون ويصيحون، وقد اختلط حابلُهُم بنابلهم رجالًا ونساءً.

فأضاء العم زكريا مصباحه ومشى بين يدي دميانة في طريق قليل الزحام بعيد عن الشاطئ حتى إذا قابل الدهبية تحول نحوها ودميانة تقتفي أثره وعيناها شائعتان في عرض النيل تتفرس السفن لعلها تميز سفينة ابن طولون فلم تجدها وما زال العم زكريا حتى صعد بها إلى دهبيتهم وما دخلت غرفتها وبدلت ثيابها وجلست للاستراحة حتى جاءها العم زكريا بطعام تناولت بعضه وهي لا تشعر بالنعاس فصعت إلى مجلسها في أعلى السفينة وأعادت نظرها إلى الحراقات والسفن وهي تبحث عن سفينة ابن طولون وتظهر أنها تتفرج على الحراقات، فتحققت غياب السفينة. وكانت قد ضاقت بما تسمعه من ألوان العربدة في السفن حولها فأوت إلى فراشها.

وأفاقت في فجر اليوم التالي على صُراخ الناس عند خروج الأسقف والكهنة بالتابوت. وكانوا قد حملوه على قارب وعليه الأزهار والرياحين وقد أخذ الكهنة في الترتيل والأدعية، والقارب يخترق النيل حتى إذا وقف في مكان يعرفونه أنزلوا التابوت في الماء ثم أعادوه، وأخذت جماهيرُ الناس تتفرق برًّا وبحرًا.

ولم تشرق الشمسُ حتى رأتْ أباها عائدًا مع إسطفانوس في حالةٍ تشمئزُّ منها النفس من السكر، وهما يحاولان إخفاء حالهما حياءً من دميانة، وهي تتجاهل ما تراه وتتشاغل بشئونها.

وذهب إسطفانوس توًّا إلى غرفته وبَدَّلَ ثيابه، ولبس ثوبًا نظيفًا وبالغ في التطيب والتعطر، ولكن رائحة الخمر بقيت تتصاعد من فيه.

واغتنم اشتغال مرقس عنه وأتى إلى دميانة وكانت وحدها جالسة على وسادتها، فلما رأته قادمًا استعاذت بالله وأقبل إسطفانوس عليها وألقى التحية وهو يتضاحك واللؤم باد في وجهه وقال: «حقًّا إن جاركم رجلٌ شريفٌ غيور.»

فلم تجبه ولكنها تشاغلتْ بإصلاح خمارها؛ لعلمها أنه يتذرع بما قاله إلى الإيقاع بسعيد، وهي لا تطيق ذلك. فلما رآها ساكتة قال: «لماذا لا تجيبين يا دميانة؟ لعله أوصاك بألا تكلميني!»

فنظرت إليه شزرًا وأنكرت هذا التلميح. وبان الإنكار في عينيها. وعمدت إلى تغيير الحديث فقالت: «هل جاء أبي؟ أين هو؟»

قال: «نعم جاء وهل تريدين أن أقص عليه ما جرى بالأمس في الكنيسة؟»

قالت وقد غلبت عليها الأنفة: «كما تشاء افعل ما بدا لك.»

فضحك، وقال: «لا. لا أقول شيئًا؛ لأني لا أحتاج إلى نصرته في هذا الأمر. إن إسطفانوس ابن المعلم حنا كاتب المارداني لا يصبر على ما سمعه من ذلك الجار العزيز.»

فلم تستطعْ صبرًا على كذبه وريائه فقالت: «ولماذا صبرت على ذلك بالأمس؟»

قال: «أتُريدين أن أبارزه في الكنيسة؟» وكأنه أدرك أنه لا ينبغي له أن يبوح بما عزم عليه فقال: «ذلك حديث مضى. وقد أعجبتني غيرته على جارته. ولكنه أظهر طيشًا وحمقًا في دفاعه عنها. لا بأس. سامحه الله!» ثم تظاهر بالتلطف والتودد إليها وقال وهو يجلس على الطنفسة بجانبها: «إننا الآن على أهبة الرحيل وقد قابلت الأسقف في هذه الكنيسة قبل مجيئي الآن.» قال ذلك وابتسم.

فلم تفهم مراده، ولم تشأْ أن تستوضحه، فسكتت فقال وهو يدنو منها: «ألا تزالين مستسلمةً إلى الحياء مني؟ ألم تفهمي حقيقةَ أمري؟»

فلما كلمها عن قرب فاحت رائحةُ الخمر من فيه، فتباعدت عنه وأظهرت النفور فحسبها تداعبه فقال: «ما بالك تهربين مني وأنا لم أزد على التكلم معك، فكيف إذا فعلت غير ذلك؟»

فقالت: «إنما هربت من رائحة الخمر؛ فإني لا أطيقها.»

قال: «يا للعجب! هكذا تنفرين من رائحتها. ينبغي لك أن تعتادينها وإلا فيكون عيشنا منغصًا.»

فلم تزد عن هز كتفيها وهي تنظر إلى النوتية وهم يشتغلون برفع المرساة وحل الشراع وإدارة الدهبية للإقلاع وسمع إسطفانوس خطوات مرقس فنهض لاستقباله وهو يقول: «أحس بالدهبية تدول بنا هل أقلع الربان؟»

قال: «نعم إننا ذاهبون إلى الفسطاط.» ثم وجه خطابه إلى دميانة فقال: «أرجو أن تكوني سررت بهذا الاحتفال والفضل في ذلك لصديقي إسطفانوس فإنه — والحق يقال — لم يدخر وسعًا في سبيل راحتنا. فأَقْدَرَنَا الله على مكافأته.»

فسكتت هنيهة، ثم قالت: «إلى أين نحن مقلعون يا أبتاه؟»

قال: «إننا ذاهبون إلى مدينة الفسطاط نقضي فيها أيامًا، أظنك لا تعرفينها.»

قالت: «كنت أحسبك راجعًا بنا إلى بيتنا.»

قال: «أراك شديدة الحرص على غرفتك وكنبك وأيقوناتك. وأنت إلى هذا اليوم لم تخرجي من طاء النمل ولا شاهدت شيئًا من مدائن مصر. إن الفسطاط مقر الوالي وأجناده المسلمين وفيها من الأُبهة والزخارف ما لا تجدين مثله في القرى.»

قالت: «ما لي وللأبهة والزخارف. إن هذا لا يهمني كثيرًا.»

قال: «أنا أعلم أنه لا يهمك ولكني أحببت أن أريك شيئًا جديدًا.»

قالت: «أوثر الرجوع إلى البيت.»

قال: «سترجعين قريبًا. ولكن صديقي إسطفانوس دعانا إلى قضاء بضعة أيام في منزل أبيه بمحلة بابلون قرب الفسطاط، فإذا كنت لا تحبين المرور بالفسطاط سرنا توًّا إلى بابلون.»

ولما سمعت قوله استعاذتْ بالله وقالت: «أين نحن من دير المعلقة الآن؟»

قال: «هو في طريقنا بين الفسطاط وبابلون.»

قالت: «إذا لم يكن بُدٌّ من الذهاب إلى غير بيتنا فإني أحب زيارة هذا الدير؛ لأني نذرت أن أزوره متى سنحت لي الفرصة وفي عنقي صليب من صلبانه.»

فسُرَّ مرقس لرغبتها في تلك الزيارة فقال: «ننزل في الدير إذا شئت.»

•••

وكانت السفينة قد أقلعت ونشرت أشرعتَها وأخذت تخترق عباب الماء، ولم تمض بضع ساعات حتى أطلُّوا على قصر الشمع — ودير المعلقة جزء منه — فمرت السفينة بين الروضة وقصر الشمع حتى رست بباب القصر وهو يومئذ قريب من النيل، فأخذت تنظر إليه وهو أشبه بالحصون منه بالقصور، ووقفت السفينة بجانب بابه الغربي وهو باب عظيم الارتفاع قائم بين برجين عظيمين مستديرَي الشكل وفوق الباب نقش عليه صورةُ النسر الروماني. فأراد إسطفانوس مخاطبتَها فقال: «إن دير المعلقة يا دميانة في أحد هذه البرجين.»

فسكتت ولم تُجِبْه فلما رست السفينةُ هناك اشتغل البحارةُ بوضع السلم للنزول. فنزل مرقس ونزلت دميانة في أثره ودخل بها الباب، ثم صعد إلى الدير وفيه بعض الراهبات، فلما علمن بقدوم الضيوف خرجن للقائهم. ودعا إسطفانوس الرئيسة كي ترحب بدميانة، فخرجت لاستقبالها ورحبت بها وسارت معها إلى الكنيسة وأرتها ما فيها من الأعمدة على اختلاف أشكالها والأيقونات الثمينة، فخشعت دميانة من تلك المشاهد وظهر السرور في وجهها على عكس أبيها. ولكنه أراد مسايرتها ليسهل عليه بقاؤها حتى ينتقل بها إلى بابلون.

ولما استقر بها المقام قال لها: «إني ذاهبٌ لقضاء بعض المهام في الفسطاط وربما بت الليلة وأعود إليك في الصباح.»

فسَرَّهَا ذلك، وقالت: «افعل ما بدا لك إنني في خير وطمأنينة، ولو مكثت في هذا الدير أشهرًا لا أبالي.»

فودعها وخرج إسطفانوس معه وظلت دميانة وزكريا في الدير.

وقضت ردحًا من الليل وهي تسمع ما يقصه عليها الراهبات من أحاديث القديسين وعجائبهم، واستأنست كثيرًا بالراهبة التي كانت أهدتها الصليب وباتت على الرحب والسعة.

ولما أصبحت في اليوم التالي أسرعت إلى الكنيسة للصلاة، وبعد أن تعبدت أخذتها رئيسة الدير إلى غرفتها وقد أحبتها وعلقت بها. وفيما هما تتحدثان دخلت عليهما راهبة وعلى وجهها أماراتُ الدهشة والسرور معًا فابتدرتها الرئيسة بالسؤال قائلة: «ما وراءك؟ خيرًا — إن شاء الله؟»

قالت: «للأسقف … الأسقف آت لزيارتنا.»

قالت: «وأي أسقف تعنين؟»

قالت: «أسقف الفسطاط.»

فبان البِشْر على وجه الرئيسة، ونهضت للحال، وأمرت بأن يتأهب الراهبات لاستقبال الأسقف، وقامت دميانة معهن وسألت راهبة كانت بجانبها: «أرى أن الأسقف لا يزور الدير كثيرًا.»

قالت: «يندر أن يزورنا إلا لأمر ذي بال فعسى أن يكون قدومُهُ بشير خير.»

وما لبث الأسقف أن دخل والراهبات يرحبن به. فعرج أولًا على الكنيسة حيث صلى فيها صلاة مختصرة، ثم توجه إلى غرفة الرئيسة، فدخلها وفيها الرئيسة ودميانة. وأكبت دميانة على يده فقبلتها والتمست بركته ودعاءه فباركها وجلس على وسادة وأشار إلى دميانة أن تجلس، وقال للرئيسة: «أليست ضيفتُكم دميانة بنت المعلم مرقس؟»

قالت الرئيسة: «نعم يا سيدي، هل تعرفها؟»

فسمعت دميانة اسمها وتعجبت وأطرقت حياءً وإجلالًا، فقال الأسقف «عرفتها بالأمس عندما كانت في كنيسة شبرا بدعوةٍ من ولدنا إسطفانوس بن المعلم حنا كاتب صاحب الخراج، وقد أوصاني بها خيرًا، وبالغ في الثناء على أبيها.»

فلما سمعت ذكر إسطفانوس انقلب سرورها كدرًا وسكتت لا تبدي. فقال لها الأسقف: «ألم تكوني مساء الأمس في كنيسة شبرا يا ابنتي؟»

قالت — وقد صبغ الحياء وجهها: «نعم يا أبتِ، كنت هناك وحضرت القداس وتبركت بدعائك.»

قال: «ببركة القديسين والأبرار يا ابنتي. إني مسرور برؤيتك لفرط ما سمعته من الثناء على تعقُّلك وتقواك. هل تمكثين طويلًا هنا؟»

قالت: «لا أدري ولو خيرت لقضيت عمري هنا.»

فتبسم الأسقف تبسمًا ذا معنًى، وقال: «إن الأديار أفضل المنازل للمسيحيين؛ إذ يتفرغ فيها الإنسان لعبادة الخالق والقيام بفروض الدين، ولكنني لا أدري إذا كانوا يأذنون في بقائك هنا طويلًا.»

فأشكل عليها مرادُه، واستغربت تصديه لهذا البحث عند أول مقابلة، ولكنها تجاهلت وقالت: «إذا كان أهل الدير يخرجونني منه فلا حيلة لي.»

قال: «لا أعني ذلك؛ فإن رئيسة الدير وراهباته يرحبن بك كثيرًا، ولكنني أعني أباك المعلم مرقس. ما لنا ولهذا الآن دعينا من هذا الحديث حتى يأتي أبوك.»

فأدركت أنه يُشير إلى الأمر الذي ترتعد فرائصها من ذِكره، ولكنها تجلدتْ وسكتت فحول الأسقف كلامه إلى الرئيسة وقال: «كيف حال الدير وراهباته. أرجو أن يكن في راحة.»

قالت: «هُنَّ في خير ببركة السيد المسيح ودعائكم.»

قال: «يظهر أن هذا الوالي التركي أرفق بالأقباط من أسلافه العرب.»

قالت: «نعم يا سيدي، فإنه منذ تولى أمر مصر في شاغل عنا بشئون دولته، فلا ندري أخَيرًا يريد بنا؟ أم يريد بنا شرًّا؟»

قال: «أظنه يفعل ذلك عن رفق وحُسن رأي — أدام الله هذه النعمة علينا.»

فقالت الرئيسة: «آمين.»

وفيما هم في ذلك أتت إحدى الراهبات تقول: «إن المعلم مرقس يلتمس الدخول.» فقالت الرئيسة: «يدخل.»

ولم تمض هنيهة حتى أقبل المعلم مرقس، فأكب أولًا على يد الأسقف فقَبَّلَها وسلم على الرئيسة، وأقبل إلى دميانة يسألها عن حالها، فقالت: «غمرتني الرئيسة بفضلها ولطفها، فأنا شاكرة فرحة.»

فجلس مرقس وأخذ يكرر تحية الأسقف ويطلب دعاءه. ودارت الأحاديثُ بينهم عن الأحوال الجارية، وذكروا الاحتفال بعيد الشهيد بالأمس، فأطرى مرقس روعته وما يرجونه من البركة في ماء النيل على أثر إلقاء إصبع الشهيد فيه.

ثم نهض الأسقف وخلا إلى مرقس في غرفة وأقفلا بابها، فأوجست دميانة في نفسها خيفة وتشاءمتْ من هذا الاجتماع.

أما الأسقف فلما خلا إلى مرقس كَلَّمَه في شأن دميانة، وأن إسطفانوس راغبٌ في خطبتها وأثنى على الخطيب فأجابه مرقس بأنه يعلم منزلةَ المعلم حنا كاتب المارداني وقد صادق ابنه إسطفانوس وعاشره ولا يرى مانعًا من عقد الخطبة وقال: «إن أمرًا سعى فيه سيادة الأسقف نافذٌ لا محالة وما دميانة إلا ابنتكم المطيعة.»

فأثنى الأسقف عليه وقال: «على أن ولدنا إسطفانوس قد شكا إلي جفاء الفتاة ونفورها، فإذا كنت تعلم أنها تكره الزواج فقل لي؛ تفاديًا لمشكلات ما بعد الزواج.»

قال مرقس: «تكره؟ كيف تكره مثل هذا النصيب؟ أحسبها تتردد حياء على عادة البنات في مثل هذه الحال. وهَبْهَا ترددت في أول الأمر، فلا بد من قبولها.»

قال الأسقف: «أَلَا يجوز أن تكون اختارت شابًّا آخر وقع من نفسها موقعًا جميلًا، فنفرت من إسطفانوس؟»

فهَزَّ مرقس رأسه استخفافًا ودفعًا لهذه التهمة، وقال: ما أنا ممن يخيرون بناتهم، ليس عندنا بنات تختار، إن البنت العاقلة هي التي تعمل برأي أبيها وأحر بها أن تعمل برأي سيدنا الأسقف، ونحن كلنا طوع إرادته.

فتبسم الأسقف وأثنى على لُطف مرقس ونهض يقول: «متى تضع عربون الخطبة؟»

قال: «في الوقت الذي تعينه سيادتكم.»

فشكر له ومشى فخَفَّ مرقس إلى الباب ففتحه له وكان أحد الشماسة ينتظر خُرُوجه، فتقدم إليه بالصولجان، فتناوله وتلفت كأنه يبحث عن الرئيسة ليودعها، فتقدمت وقَبَّلَتْ يده فباركها، وقال لها: «أوصيك خيرًا بدميانة سمية القديسة الشهيرة أين هي؟»

قالت: «في الصلاة فإنها لا تفتر عن العبادة حقًا إنها من أهل التقوى.»

قال: «صحيح ولكن لا أظنها تنوي الترهب.» وضحك.

قالت: «إلا إذا اختارها السيد المسيح لخدمته.» وَلَمَّا رأت الأسقف يضحك أدركتْ أنه يمازحها ويشير إلى قُرب خطبتها، فسكتت، فأعاد الوداع وودع مرقس ومضى.

أما دميانة فلم تعتزل في غرفتها للصلاة فقط، ولكنها خافتْ خلوةَ الأسقف بأبيها، وتوقعت أن يستقدمها للأمر الذي تخافُهُ وتنفر منه، فتشاغلت بالصلاة وهي لا تفهم ما تقرأه لقلقها وتبلبُل بالها. وكانت ترقب حركات أهل الدير لتعلم ساعة خروج الأسقف فلما علمت أنه مضى لسبيله شكرتْ الله على زوال الخطر وانتظرت أن تجد زكريا بين يديها عساه يطمئنها. وبعد قليل عاد زكريا ففرحت بقدومه وسألته عن سبب غيابه فقال: «ذهبت في أمر سترين ثمرته الآن.»

فلم تفهم مراده فقالت: «وأي أمر تعني؟ ألم تر الأسقف؟ ألم تعلم بخلوته مع أبي؟»

قال: «كيف لا؟ ولولا علمي بذلك ما ذهبت في هذه المهمة.»

فازدادت قلقًا، وبان ذلك في عينيها، فابتدرها زكريا قائلًا: «لا تقلقي يا سيدتي اسمعي قرع الباب، ألا تسمعينه؟»

قالت: «أسمعه، وما ذلك؟»

قال: «إن القادم هو أبو صاحبنا إسطفانوس.»

قالت: «أبوه؟ المعلم حنا؟» قال: «نعم.»

قالت: «وما الذي جاء به؟ قال: «أنا دعوته.»

قالت: «أنت ذهبت إليه واستقدمته وكيف ذلك؟ قل.»

قال: «لما علمت بمقابلة الأسقف لسيدي وأبيك أيقنتُ أنه سيكلمه في الأمر الذي يطلبه إسطفانوس، وأنا أعلم أن أباه رجلٌ عاقلٌ يعرف حقيقة ابنه وأنه ليس كفئًا لما يطلبه فذهبت وأسررت إليه الأمر فرأيته كما كنت أظن، ووعدني أن يأتي ليرى أباك.»

قالت — والاستغراب باد في أسرَّتها: «آت لماذا؟»

قال: «ليرجع أباك عن قبول ابنه.»

فتبسمت والدهشة تمتزج بابتسامتها وقالت: «يرجعه؟ أتظنه يستطيع ذلك؟»

وقطع كلامَها وقعُ أقدام المعلم حنا في صحن الدير، فذهبت إلى نافذةٍ تراه منها ولا يراها فرأته رجلًا جليل الطلعة وقورًا يبدو التعقل في نظراته، ورأت رئيسة الدير كثيرةَ الاحتفاء به وهو يقول لها: «بلغني أن المعلم مرقس صاحب طاء النمل هنا.»

قالت رئيسة الدير: «نعم يا سيدي وقد كان مع أسقف الفسطاط وخرج الأسقف وأظن المعلم مرقس لا يزال حيث كانا.» قالت ذلك وهي تمشي بين يديه حتى أدخلته الغرفة فتركته مع مرقس وعادت أدراجها.

أما دميانة فكان اضطرابُها عظيمًا، وتقاذفتها الشجون فلا تدري أتستسلم لليأس أم تتمسك بحبل الرجاء؟ وقد طالت الخلوة وهي تتساءل عما عسى أن تكون عاقبتها. وكلما سمعت وقع خطوات أو فتح باب يخفُق قلبها وإذا بصوت المعلم حنا يودع أباها بلحن لم يعجبها، فالتفتت فرأت وجه الرجل متغيرًا وأبوها يتواضع له ويتقرب إليه عند الوداع بصوتٍ خافتٍ كأنه يعتذر عن خطأ ارتكبه، فمكثتْ هنيهةً كالضائعة، فجاء زكريا ووجهُهُ يُنذر بما وقع فابتدرتْه قائلة: «لم يفلح الرجل على ما أظن.»

قال: «هكذا يظهر. أخبرني من سمع حديثهما أن المعلم حنا نصح لأبيك برفض خطبة إسطفانوس، وأنه ليس أهلًا لك. فجاراه أبوك في الكلام، ثم اعتذر له بوعدٍ مسبق منه للأسقف، وزعم الرجوع متعبًا. وأنه سيبذل جهده.»

فلما سمعت دميانة قوله وكانت في مكان لا يراها فيه أحد لم تستطعْ أن تُمسك نفسها عن أن تلطم خديها لطمة خفيفة، وتقول: «ويلاه ما هذه التجربة أبوه نفسه يقول إنه ليس أهلًا لي.» وأخذت تبكي، ثم اتجهت نحو أيقونة للسيد المسيح معلقة هناك وقرعت صدرها وتنهدت من أعماق قلبها وقالت: «إلهي اصرف عني هذه الكأس. وإذا رأيت أني مخطئة في نفوري من هذا الشاب فحببه إلي واجعلني أرى خطئي.» وأطلقت لنفسها عنان البكاء.

فقال لها زكريا: «كفكفي دمعَك يا مولاتي. سيأتي أبوك كفي عن البكاء واصبري ولا تُبالي؛ فقد قلت لك إن ذلك الغر لن ينال قلامة ظفرك سايري أباك ولا تُبدي له جفاء واتكلي على السيد المسيح وعليَّ.»

فاطمأن خاطرُها وتراجعت ومسحت عينيها، ثم مشت إلى غرفتها فلقيها أبوها، ولعله رأى أثر الدمع في عينيها، لكنه تجاهل فقال لها: «أنا ذاهب وقد أبيت الليلة خارجًا أظن هذا يسرك يا دميانة إذ تفرغين للعبادة.» وضحك فسايرتْه في الابتسام، فخرج وعادتْ هي إلى همومها وزكريا يؤكد لها النجاة ويستمهلها حتى يمكن لسعيد عند ابن طولون بعد مَدِّ الماء في العين، وما هذا ببعيد.

أما مرقس فبعد اجتماعه بالمعلم حنا وعلمه بإنكاره الزواج بدميانة على ابنه. ذهب الكثير في آماله في المصاهرة؛ إذ كان يرجو أن يستفيد من نُفُوذ كاتب الخراج فضلًا عن صداقته لإسطفانوس، ولكنه خامره الأملُ في رُجُوع المعلم حنا عن رأيه حبًّا لابنه. ولعل هذا الابن يغير مظهره لدى أبيه عندما يتزوج فيبقى عزيزًا عليه ثم إنه — من جهة أخرى — تَمَسَّكَ بقوله تنفيذًا لكلمته وعملًا بسُلطته المطلقة على أهل منزله.

وفي اليوم التالي رأتْ دميانة أهل الدير في حركة ينظفون ويدبرون كأنهم يتأهبون لاستقبال زائر كبير، ورأت بعض الراهبات ينظرن إليها نظرة ذات مغزًى، ولا سيما الرئيسة؛ فقد كانت تجاملها وتبتسم لها فتجاهلت، وسألت الرئيسة عن سبب هذا الاستعداد فقالت: إن سيدنا الأسقف قادم لزيارتنا في أصيل هذا اليوم وبما أننا استقبلناه بالأمس على غرة فرأينا أن نستعد لاستقباله اليوم استقبالًا يليق بمقامه لأنه أسقف مدينة الفسطاط وله وجاهةٌ وكلمةٌ نافذة، فضلًا عن مركزه الديني.»

فلم يعجبها هذا الخبر وأرادت أن تُعيد الاستفهام عن سبب مجيئه، فخافت أن تسمع جوابًا ينفر منه قلبُها، فسكتت ومضت، فلقيها زكريا وقد علم أن الأسقف آتٍ ليضع عربون الخطبة مع أبيها، فأخذ يُشجعها ويؤكد لها مساعدتَه وأن تَمَنُّعَها لا يُجديها نفعًا في ذلك الحال إلى أن قال لها: «إن الخطبة عقدٌ يمكن حَلُّهُ وسواء حل هذا العقد أم لا فلا تخافي يا سيدتي. ومع ذلك فقد يكون أبوك قد اقتنع بكلام المعلم حنا فيؤجل الخطبة إلى وقت آخر.»

فقطعت كلامه قائلة: «لا تَدْعُ نفسك خادمًا؛ فإنك أحنى علي مِن أبي فإذا شئت فادعني ابنتك. وأما ما تقوله فلا يدعو إلى الطمأنينة، ولو كان أبي رجع عن عزمه لَمَا كان ثمة داعٍ إلى قُدُوم الأسقف.»

قال: «اتركي الأمر لي حتى أقول كلمتي.»

فقالت: «ومتى تقول كلمتك؟ هل تظنها تنفع؟»

قال: «أقولها عند اليأس وإذا لم تنفع فغيرها ينفع.» قال ذلك ومشى خوفًا من أن تستزيده إيضاحًا وهو حريص على الكتمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤