الفصل الثالث

مسائل على الخصم مشاكل

وإنْ بقي عندك ريب فقل لي:
  • أولًا: لماذا هذا الاختلاف في الأحياء باختلاف جنس المعيشة والإقليم وما شاكل إنْ لم يكن فيها ميل إلى التغير بحسب الأحوال الخارجية؟ ولماذا نفس هذا الميل إلى التغير إنْ لم يكن هو أصله ناشئًا عن مثل هذه الأحوال؟
  • ثانيًا: لماذا هذا التنازع بين الأحياء إنْ لم يكن هذا الاختلاف يكسبها قابليات وجودية مختلفة، بعضها أصلح من بعض في بعض الأحوال، وغير صالح في البعض الآخر؟
  • ثالثًا: إن لم يكن الانتخاب الطبيعي نتيجة لازمة للتنازع، فلماذا كان هذا النوع مثلًا لا يقوى على الثبات في مكان، ويقوى عليه في مكان آخر؟ أو لماذا كان بعض الأنواع يضعف — وربما تلاشى — أمام البعض الآخر؟
  • رابعًا: إنْ لم يكن للوراثة الطبيعية يد قوية في نقل الصفات، فلماذا كانت الصفات الطبيعية والأدبية العارضة كالعيوب والألوان والأمراض والأميال العقلية، وسائر الصفات المسماة أدبية تنتقل في النسل؟ وإذا توفرت لها الأسباب الطبيعية كجنس المعيشة والإقليم والتوليد، فلماذا كانت تنحصر في النسل، وتصير لازمة ضرورية؛ أي جوهرية؟

    قال أبقراط في كتاب الأهوية والمياه والبلدان: «إني أغض النظر عن الأمم التي تختلف قليلًا فيما بينها، وأقتصر على ذكر الاختلافات العظيمة الناشئة: إما من الطبيعة، وإما من العادة، وأذكر أولًا جيلَ الميكروسفال «ذا الرأس المتطاول»؛ فإن هذا الجيل لا يوجد جيل يشبهه في تكوين الرأس … وفي الأصل كانت العادة سببًا لطوله، وأما الآن فقد صار للطبيعة يد في ذلك.

    وأصل هذه العادة أنهم يعتبرون طول الرأس من علامات النبالة … وأول ما يولد الطفل — إذ تكون أعضاؤه مسترخية ورأسه لينًا — يضغطون الرأس بين اليدين حتى يتطاول، ويشدُّونهُ بربط وآلات مناسبة يفقد بها شكله الكروي، وتزيد في طوله … وهذا التكوين نشأ في الأصل عن العادة، ثم صار مع الزمان طبيعيًّا لا حاجة فيه إلى العادة، فإن المني يأتي من كل أجزاء البدن صحيحًا من الأجزاء الصحيحة، وغير صحيح من الأجزاء غير الصحيحة.

    فإذا كان الآباء الصلع يلدون أولادًا صلعًا، وذوو العيون الزرق يلدون أولادًا بعيون زرق مثلهم، والحول حولًا نظيرهم إلخ، فما المانع أنَّ أناسًا طوال الرءوس يلدون أولادًا طوال الرءوس نظيرهم … وأما اليوم فانقرض هذا الجيل؛ لأن العادة قد ضاعت بمخالطة الشعوب الأُخَر له.» ا.ﻫ.

  • خامسًا: لماذا كانت الأعضاء والصفات تضعف، وربما تلاشت بالإهمال والترك، وتنمو وتقوى بالاستعمال والتمرين إن لم يكن للعادة تأثير ظاهر، ولو لم يكن للعادة مفعول لما اقتضى أن يكون شيء من ذلك كله. أذكر أني من ثلاث سنوات شاهدت رجلًا ألمانيًّا أقطع الذراعين خِلقةً من عند قرب مفصل الكتف، وسائر جسده نامٍ جدًّا، وكان طويلًا ضخمًا، فكان يستعمل رجليه لقضاء جميع حاجاته كاستعمال أمهر الناس ليديه، ويأكل بالسكين والشوكة برجليه، وهو جالس على مائدة ورافعهما عليها، حتى كان يتعذر على من يجهله أن يعرف أنهما رجلاه.

    ورأيته يلعب بهما على «المندولينا»، وهي آلة كالقانون عندنا وأصغر منه بما يطرب القلوب ويذهل العقول، وفتح بهما زجاجة بيرا بالآلة المعروفة، ولعب بالورق مع أحد الحضور باللعبة المعروفة ﺑ «الأكرتة»، فكان يخلط الورق برجليه وهو رافعهما على مائدة اللعب خلطًا يعجز عنه مهرة اللاعبين، وزد على ذلك أنه كان يجمعه بصناعة غريبة، حتى إنه غلب خصمه مع كونه من الماهرين بهذا الفن، وقد أطلق برجله رفولفرًا وأصاب الهدف بالرصاص.

    وعند تأملي أصابع رجليه وجدت أن الإبهام اكتسب بالعادة قوة الانضمام إلى سائر الأصابع كإبهام اليد، والأصبع الثاني بعد الإبهام اكتسب طولًا يكاد يبلغ طول السبابة. ولا ريب أن هذا الرَّجُل إذا ولد أولادًا بلا يدين مثله، وولد أولاده مثلهم بضعة أجيال تتحول الرِّجْل فيهم بالوراثة والمطابقة يدًا بكل صفاتها؛ لأن التغير الذي حصل في رِجْليه — كما رأينا — مهم جدًّا، والزمان الذي تم فيه ذلك ليس شيئًا بالنسبة إلى الأجيال الطويلة لتاريخ الحياة، فإنه لا يكاد يحسب معها طرفة عين.

  • سادسًا: كم هي الأنواع؟ وهل جمهور الطبيعيين متفق على عددها؟ وإذا كان غير متفق فلماذا هذا الخلاف؟ وهل من فاصل يفصل النوع عن التباين فصلًا تامًّا؟ وإذا كان هذا الفاصل لا يوجد، فما سبب هذا الارتباط إن لم يكن تكوُّن الأنواع من التباينات، والتباينات من الأفراد؟
  • سابعًا: وأخيرًا لو كانت الأنواع نتيجة خلق خصوصي لما اقتضى أن يكون فيها شيء من الأعضاء المسماة أثرية، أو لم يكن من الواجب أنَّ كل نوع يتضمن فيه وفي جرثومته كل الأعضاء اللازمة له لا أكثر ولا أقل، وإلا فما «معنى الخلق على هذه الصورة؟ وأين الحكمة؟ وما هي الغاية؟ وهل يمكن تعليل هذه الأعضاء تعليلًا يرضي العالم، ويقنع العاقل بغير مذهب دارون؟» أليست رابطًا يربط الصور بعضها ببعض، وبما تقدمها من الأجداد البالية التي تقادمت عليه العصور، وتقلبت عليها الدهور؟

    أيحتاج بعد ذلك إلى دليل على كون الحي متصلًا بعضه ببعض بسلسلة انتقالات، وإن خفيت في البعض لأسباب طبيعية معلومة، إلا أنها ظاهرة في البعض الآخر بما يصح معه القياس ويتأيد به البرهان، أو يا ترى لا يجوز للطبيعيين القياس على الاختبار، ويجب لسواهم بدون ذلك، أم هل يعدُّ مثل هذه المعلومات افتراضات وأباطيل وأضاليل، وغيرها مما لا يستند إلى شيء من العلوم الطبيعية يُحسب حقائق، أم لعل أعظم الحقائق ما بُني على الأوهام، كما يقول الفارياق في كتاب «الساق على الساق».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤